إصلاح التقاعد لن يكون غير بـ”العين الحمرا”.

بقلم الأستاذ حميد طولست
إنطلاقا من المثل الدارج : مَا تَاخُذْ حَقّ إِلاَّ بَشْوِيّة دلْبَاطْلْ ، و المثل الفرنسي: On ne fait pas domelette sans casser des oeufs
الكل مجمع على أن الوضعية المالية لصندوق التقاعد أصبحت حرجة جداً إلى درجة يمكن أن نستفيق معها يوما ما ، فلا نجد تقاعدا في البلاد ، كما صرح بذلك السيد نبيل بنعبدالله خلال نقاشه قضية نظام التقاعد في برنامج مباشرة معكم ، الذي جمع قبل أسابيع ، كلا من الأغلبية الحكومية والمعارضة في حوار سياسي “بايخ” ، والذي قال فيه بصريح العبارة : ” يمكن مايبقاش عندنا تقاعد فلبلاد ” ؛ التصريح الخطير الذي زاد من تهديد استقرار المتقاعدين الذين كانوا ينتظرون تحسين أوضاع معاشاتهم بما يحفظ كرامتهم ، مقابل الخدمات الجليلة التي قدموها طوال مشوارهم المهني ، والذي وعدت به الحكومة الحالية كما فعلت سابقاتها والتزمت جميعها بالقيام بالإصلاحات الجذرية اللازمة التي أجمع الكل على أنها باتت ضرورية وآنية وتتطلب قرارات جد جريئة ومن أصعب القرارات السياسية التي يصعب على “حكومة الإنتخابات” اتخاذها نظرا لانعكاسها على شعبيتها في الاستحقاقات المقبلة والقريبة جدا ، والتي يمكن أن تكون تكلفتها جد صعبة على مستوى الخريطة السياسية الحزبية المقبلة ؛ الأمر الذي يُبقي المجال مفتوحا أمام المزايدات السياسية ، والخطابات الديماغوجية للأحزاب والهيئات النقابية التي – رغم ادراكها لجسامة وثقل الملف وحساسيته وما يتطلب إصلاحه من جدية ومسؤولية – لم تسهم، مع الأسف ، إلا في تبخيس وتمييع هذا الملف المتأزم الذي شكل ويشكل هاجسا وكابوسا حقيقيا للمتقاعدين ، بتخلف أساليب تعاملها معه ، وغير جديته ، وضعف آلياتها في وضع رؤية إصلاحية شاملة له ، وقصورها في استحداث استراتيجية صحيحة لحل كافة مشاكله التي بقيت تراوح إطارها النظري ، وسط عدد من المعيقات المفتعلة التي وقفت ، طيلة عقود ، ولا تزال حجر عثرة في وجه مسار الإصلاح ، ما جعلها تبقى مجرد شعارات ترفع في أوقات زمنية محددة ، خلال اجتماعات ولقاءات معينة في العديدة من المؤسسات العامة والخاصة ، دون أن يتحقق شيئاً على أرض الواقع ..
وهنا لا يستطيع المرء أن يخفي شعوره بالدهشة والانزعاج أمام المقاربة التي اعتمدتها الحكومة وبمستوى عال من الكفاءة والدهاء ، لتلميع واجهة الإصلاح المزعوم ، والتي لا تأخذ من أخطاء الماضي العبرة وتكتفي بالبحث عن مبررات للأخطاء ، وترفض منطق المحاسبة والمتابعة ، الذي لا يخدم الحكومة الحالية ، لكنه لاشك يخدم مشروع الإصلاح وما يمر به صندوق التقاعد من مصاعب ، والذي هو في حاجة ماسة لتجاوز ذيول الأزمة ، وتخطي العثرات التي تقف حاجزا أمام تطبيق الإصلاح ، والذي لا يمكن الوصول إلى الصورة المنشودة منه ، إلا في ظل استراتيجية واضحة في تطبيق مبدأ المحاسبة والثواب والعقاب ، -الذي يعتبر الركيزة الأساس في محاربة أي فساد ، وعلى مختلف المستويات – تطبيقا حيويا وحازما.
وبخلاف ـمبدأ “عفا الله عما سلف ” المدغدغ لعواطف البسطاء ، الذي اعتمدته الحكومة ، سبيلا وسياسة لحل الأزمات المزمنة ، والذي صرح به علانية رئيسها السيد عبد الإلاه بنكيران في أحد لقاءاته مع نواب الأمة ، والذي لا يختلف عن المقاربة عينها التي اعتمدها السيد بنعبد الله في مناقشته لملف التقاعد خلال برنامج مباشرة معكم ، حيث شدد في مداخلته ، على رفضه القاطع لمبدأ المحاسبة والمتابعة على أنها مضيعة للوقت ومعيقة للإصلاح المرتقب ، حيث قال بالحرف : ” لقد كان تدبيرا معين وأول شيء يتعين أن نقوم به هو أنه علينا تقييم حقيقي لكيف دبرت هذه الصنادق ، ماشي كما يقال وكما نقرأه في بعض المواقع ، وكاين هذا الحس وسمعناه عند المواطنين ، “خصنا نحاسبوا هذا ونحاسبو لاخر”، والى بقينا نحاسبوا فالناس اللي دبروا الأمور في البلاد مند 56 الى اليوم ما غانبقو غير نحاسبو فالناس وماغادي نحلوا حتى مشكل ” انتهى كلام السيد بنعدالله الذي نخالفه فيه الرأي والتوجه – مع احترامنا وتقديرنا لشخصه- ونثير انتباهه لما هو على علم به ، من دون شك ، من أن خطورة الفساد الاجتماعية وتكلفته الاقتصادية ، قد تكون باهظة إذا لم يقابل “بالعين الحمرا ” وسياسة “قطعها هبرة تبرا” كما يقول المثل المغربي الدارج ، وستؤثر في دواليب المؤسسات ، وتشجع ضعاف النفوس على القيام بالكثير من التجاوزات الإدارية والمالية ، بدأ من تدني مستوى الأداء الإداري ، وازدياد الهذر المالي في الدوائر الحكومية أو عدم المحافظة على المال العام ، وانتهاءً باستغلال من تمكنوا من امتلاك سلطة تسيير مدخرات المؤسسات استغلالا بشعا ، وإلى أبعد الحدود ، بل وفي غير محلها أحيانا ، أو في غير الغايات التي وجدت من أجلها ، والتي تعمل في النهاية على إيقاف مسار التنمية ، وتقوض صرح الديمقراطية ، وتقلص مجال دولة الحق والقانون إذا ما قوبل بالتسامح واللامبالاة ومبدأ “عفا الله عما سلف” المتبع حاليا مع هذا الملف وغيره من الملفات الخطيرة..
ولذلك ندعوا السيد نبيل بنعبدلة ومن خلاله الحكومة الموقرة أن يتوافقوا مع كل الأطراف المعنية –الحكومة والمعارضة وممثلي الشعب وجمعيات المتقاعدين- على صيغة عمل عاجلة وفعالة ومتطورة تقتبسها من تجارب الشعوب المتقدمة التي تهتم بمصلحة متقاعديها ، وتخدم مصالحهم قبل مصلحة الكيانات الانتخابوية ، وتعزز قيمة والمساءلة داخل دواليب المؤسسات وتنشر ثقافة مكافحة الفساد ومحاصرته وترسخ ثقافة الإصلاح وأخلاق الانضباط ، وتدعمها بالمساءلة والمحاسبة والعقاب الذي يصبح ضروريا ، خاصة عند سماع تحذير المدير العام للصندوق المغربي للتقاعد الذي يقول فيه بأن: “كل سنة تمر بدون إصلاح تؤدي إلى تنامي تفاقم الديون المتراكمة بالنسبة للأجيال الحالية والمستقبلية، وأن عدم القيام بأي شيء هو في حد ذاته سوء فهم”، مضيفا أنه “إذ شرعنا في العمل في اتجاه مدروس وفق رؤية شمولية فإن الإصلاح سيعود لا محالة بالنفع على مجموع السكان”
وليسمح لي السيد بنعبد الله بأن أذكره بالمثل الدارج القائل : مَا تَاخُذْ حَقّ إِلاَّ بَشْوِيّة مَنْ الْبَاطْلْ ، و المثل الفرنسي: On ne fait pas domelette sans casser des oeufs وذلك لأن السيل قد بلغ الزبى واشتدت حراجة أزمات هذا الملف الذي لن تنفع معه مقاربة “عفا الله عما سلف ” رغم تبوئه سلم أولويات خطط وإجراءات الحكومات المتعاقبة ، لعقد من الزمن أو أكثر ، ولم تبق غير ” العين الحمرا” التي لا أدري لماذا يتهرب منها المسؤولون ؟ ربما في الأمر إن أو إنات كثيرة وليس إن واحدة !!!!!!!
ملاحطة هامة : من الغريب أن مناضلي ومسؤولي حزب السيد بنعبد الله يخالفونه الرأي ويطالبون بالتنفيذ الفعلي لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة ، في الكثير من التجاوزات التي يعرفها المغرب ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما جاء في مقالة للأستاذ لحسن ساعو المسؤول عن الحزب بفاس المنشورة بموقع “بني مكادة نيوز” تحت عنوان “مأساة الإدارة الرديئة” حيت يقول في آخر فقرة منها: إن سبب تنامي هذه الظاهرة يرجع لعدم الثقة في الإدارة وانتشار ثقافة الريع وغياب مبدأ تكافؤ الفرص وضعف ثقافة حقوق الإنسان .
إن مواجهة هذا المرض الذي ينخر المجتمع يتطلب التنزيل الحقيقى للدستور وضمان كرامة المواطن ،وبناء دولة الحق والقانون ،والتنفيذ الفعلي لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة ، وتخليق الحياة العامة ،وضمان المساواة بين جميع المواطنين ومحاربة الفساد الإداري بكل أشكاله قصد إعطاء صورة جيدة وملائمة للإدارة المغربية المتماشية والدستور المغربي الجديد .