يوميات من وحي الخيال : البرد بمكناس

محسن الأكرمين.

برد شتاء جاف،

ليالي البرد باتت تسكن جميع اتجاهات مدينة مكناس الأربعة، الكل يشتكي من شدته القارسة. عند متاهات دروب أم المدائن المنسية لاحظت السكون وحذر التجول الطوعي الليلي الذي فرضه الطقس البارد المخيم على المدينة، كدت في لحظة من جولتي أن أصف مدينة مكناس بمدينة الأشباح ، حيث استولى مصطلح الشبح على تفكيري بسلطة مقارنة موضع المدينة و المكونات المدنية و الحضرية للمملكة . لما لفظة مدينة الأشباح قفز إلى ورقة كتاباتي بدون حياء استئذان ؟

“أفين” الزيتون، ذهب وراح… !!!،

ركنت سيارتي عند بوابة أقرب مقهى بحي الزيتون . و الذي بات يحمل اسما دون مسمى. لحظة رأيت قلة من الشباب المنهمكين في متابعة مباراة لكرة القدم . دخان السجائر الرخيصة يخنق المكان ويمنح الجالسين تدخينا مجانيا معالجا مشفوعا بنكهة حشيش خفيف. انزويت في ركن يمنحني جلوسا أدير فيه ظهري للتلفاز.

بعد أن حلت النادلة ذات الشعر الأشهب بالتلوين الاصطناعي، ابتسمت داخليا من ملامحها الطفولية وكأنها تسائلني عن سبب انزوائي بالركن الغائر، وعن سبب رفضي مشاهدة المباراة. لم أباليها نفس التفكير، بل آثرت الاختصار وطلبت منها أن تحضر لي ماء معدنيا. هي علامات الاستفهام بدأ تتأثث في مخيلتها المتقلصة، الماء / البرد القارس!!!  يا له من زبون ليلي غامض !!! .

وحي تفكيرها خبرته بالمعاينة الحدسية، لكني حولت مقود تفكيري إلى همّ “مدينة عريقة أخلفت سكة التنمية الوطنية”. صوت صياح عال دوى في المقهى وقوفا، تكهنت من خلاله أن هدفا سجل في أحد المرميين، هي موضة متابعة الكرة الاسبانية  والتي همش من حظوظ حب الفرق المحلية المغربية. إنه التحول الحديث نحو عولمة الحب والعواطف الكروية. كان رجوع النادلة إلى طاولتي بماء معدني بارد قد أرجعني عنوة إلى البرودة الباردة لأهل مكناس وصناعة مدينة الشبح والصمت.

جمالية مدينة بالأبيض والأسود،

مكناس مدينة الأشباح ، فالإخبار بموضع المدينة بمحمول ” الأشباح ” بالإضافة التركيبية اللغوية المعرفة ، ما هو إلا إقرار منا جميعا باختفاء المدينة الجميلة من دواخلنا الفردية والجماعية، من موقعها البارز بين مدن المملكة. المدينة التي كانت بسلطة العاصمة الإسماعيلية، وأصبحت الأسوار المتعددة المناحي تحاصرها كرها، وتجعلها تدير وجهها للتطور الحضاري.

 المدينة التي نستوثق من حضورها البارز باللونين الأبيض والأسود، و في الكتابات التاريخية والأدبية الراقدة في رفوف مكتبة الجامع الكبير برائحة الرطوبة والتهالك . لحظة قطع تفكيري أحد الشباب، سائلا إياي عن المبارة المنقولة عبر الشاشة، حملت رأسي إليه بالنظر له بقوس انزوائي بالجلوس ، ثم أسررت له علانية أن هنالك  فريقين يلعبان كرة القدم. ابتسم وعرف قصدي من أنني لا أبالي البتة من أمر المقابلة، وانسحب معلنا تتبعهاعنوة. لكن الحكم في تلك اللحظة أعلن نهاية المباراة التلفزية، وتم إفراغ مدرجات كراسي كرة قدم المقاهي  بلا تعزيزات أمنية ولا مناوشات.

 فوضى استغلال الملك العام،

أثار سماعي جدل خصام أمام المقهى بين سائق سيارة ومواطن من الراجلين، وحين تتبعت البوليمك  Polemiqueعن بعد، عرفت أن كلا الطرفين له الحق . ضحكت من حكم القيمة السريع الذي أنزلته على مشهد النزاع، لكن تأكد عندي بالبرهان والمستندات القانونية العلنية صواب رأيي. فإذا لم تكن المقاهي قد احتلت الممرات العامة “الملك العام المشترك” لما ترجل الراجل في قارعة الطريق ، ولما حدثت الواقعة بأساسها. إذا، المشكلة هي احتلال الملك العام بدون رقيب ولا حسيب، فكم من ممر احتلته كراسي المقاهي؟ وكم من حديقة عمومية تم استغلالها من قبل المقاهي /الفراشة / المقاولين… هي ذي أوضاع  مدينة مكناس، الذي ألفت التآخي مع سياسة التسيب  والفوضى.

برودة طقس وساكنة،

وقفت النادلة بابتسامة عريضة تريد أداء ثمن المشروب البارد مع برودة ساكنة وطقس، فهمت غايتها وناولتها حصة المشروب وحصتها المعتادة من الإكرامية. انصرفت وهي تنزع بذلة العمل، فهمت من حركة إخلاء مدرجات كراسي المباراة، أن المقهى ستقفل أبوابها باكرا بسبب صقيع البرد الزائد بالجفاف (اللهم اسقينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين) . حين ترجلت نحول السيارة وجدت حقيقة أن عملية حذر التجول ليلا عملية طوعية و سلطة البرد تطبقه بقانون الطبيعة.

عن موقع : فاس نيوز ميديا