بوتين يتحدث عن روسيا والثورات العربية والعالم المتغير

كانت قضايا السياسة الخارجية ، وفي المقدمة منها، الثورات العربية ، في مركز اهتمام مقالة فلاديمير بوتين المعنونة " روسيا والعالم المتغير" التي نشرت يوم 27 فبراير في صحيفة "موسكوفسكيي نوفوستي". وهذه المقالة هي السابعة لبوتين في وسائل الاعلام الروسية ، باعتباره مرشحا لانتخابات الرئاسة الروسية القادمة.
روسيا و العالم المتغير

لقد تطرقت إلى موضوع التحديات الخارجية الرئيسة التي تواجه روسيا في مقالاتي. ومع ذلك يستحق هذا الموضوع تفصيلا أكثر. ولأن السياسة الخارجية جزء لا يتجزأ من استراتيجية أية دولة، فإن التحديات الخارجية والعالم المتغير حولنا تجبرنا على اتخاذ قرارات في مجال الاقتصاد والثقافة والميزانية والاستثمار.

روسيا جزء من العالم الكبير من وجهة النظر الاقتصادية والثقافية ونشر المعلومات. لا يمكننا أن نبقى في عزلة ولا نريد ذلك. نأمل بأن يسهم انفتاحنا  في زيادة رفاهية وثقافة مواطني روسيا ويعزز الثقة التي بدأت تصبح موردا نادرا أكثر فأكثر.

ولكننا سننطلق بشكل متتال من المصالح والأهداف الذاتية وليس من القرارات التي يتم إملاؤها من جانب الآخرين. تُقبل روسيا باحترام وتؤخذ بعين الاعتبار فقط إذا كانت قوية ومستقرة. كانت روسيا دائما تتمتع بالفعل بامتيازها في ممارسة سياسة خارجية مستقلة. وسيكون ذلك في المستقبل ايضا. وأكثر من ذلك أعتقد أن الأمن الدولي يمكن تحقيقه فقط مع روسيا، وليس عن طريق " حصرها في الزاوية" وإضعاف مواقفها الجيوسياسية وإلحاق الضرر بقوتها الدفاعية.

تتميز أهداف سياستنا الخارجية بطابعها الاستراتيجي وليس الانتهازي، وينعكس ذلك من خلال موقع روسيا الفريد من نوعه على خريطة العالم السياسية وفي دورها في التاريخ  وفي تطور الحضارة البشرية.

إننا من دون شك نواصل نهجا نشيطا وبناء لتوطيد الأمن العام ورفض المواجهة والتصدي الفعال للتحديات مثل انتشار الأسلحة النووية والنزاعات والأزمات الإقليمية والإرهاب وخطر المخدرات. سنعمل كل ما بوسعنا لتأمين حصول روسيا على أحدث انجازات التقدم العلمي التقني وحصول رجال أعمالنا على مكان محترم في السوق العالمية.

سنسعى إلى إقامة نظام عالمي جديد ينطلق من الوقائع الجيوسياسية المعاصرة ، على ان يكون ذلك بشكل تدريجي ودون هزات غير ضرورية.
من يخرب الثقة

أعتقد أنه كما في السابق يوجد هناك ضمن أهم المبادئ الطابع غير المتجزئ لأمن جميع الدول ومنع استخدام القوة المبالغ فيها ومراعاة المبادئ الرئيسة للقانون الدولي. إن إهمال ذلك يؤدي إلى تفكيك استقرار العلاقات الدولية.

وعبر مثل هذا المفهوم  بالذات  نستوعب بعض نواحي السلوك للولايات المتحدة والناتو التي لا يقبلها منطق التطور المعاصر والتي تبقى معتمدة على عقلية الأحلاف. يفهم الجميع ماذا أقصد بذلك. توسع الناتو، بما في ذلك نشر عناصر جديدة للبنية التحتية العسكرية وخطط الحلف (الموضوعة في الولايات المتحدة ) الخاصة بإنشاء منظومة الدرع الصاروخية في أوروبا.
"الربيع العربي": دروس واستنتاجات

قبل عام واجهت العالم ظاهرة جديدة، مظاهرات متزامنة تقريبا في العديد من الدول العربية ضد الأنظمة الاستبدادية. "الربيع العربي" في الوهلة الأولى كان التطلع اليه بأمل إحداث تغيير إيجابي. وكان تعاطف الروس مع أولئك الذين سعوا إلى إصلاحات ديمقراطية.

لكن، سرعان ما أصبح واضحا أن الأحداث في كثير من البلدان بدأت تتطور في سيناريو غير متحضر. فبدلا من الديمقراطية، وبدلا من حماية حقوق الأقليات، يتم دفع الخصم والانقلاب عليه. أي عندما يتم استبدال هيمنة قوة واحدة إلى قوة أكثر عدوانية منها..

ان  التدخل الخارجي الداعم لطرف واحد في النزاعات الداخلية ، وطابع استخدام القوة لمثل هذا التدخل ، هو الذي اضفى شكلا سلبيا على تطور الاوضاع  . ووصل الأمر أن عددا من الدول وتحت ستار الشعارات الإنسانية وباستخدام الطيران أجهزوا على النظام الليبي. وفي قمة ذلك وبمشهد مثير للاشمئزاز لم يحدث في القرون الوسطى بل في العصور البدائية تم قتل معمر القذافي.

لا يمكن السماح لمن يحاول تنفيذ السيناريو الليبي في سورية. جهود المجتمع الدولي يجب أن توجه في المقام الأول إلى تحقيق المصالحة الداخلية في سورية. من المهم تحقيق نهاية سريعة للعنف من أي جهة كانت، وبدء حوار وطني من دون شروط مسبقة ومن دون تدخل أجنبي، واحترام سيادة البلاد. وهذا سيؤدي إلى خلق الظروف المناسبة لتنفيذ الاصلاحات الديمقراطية التي أعلنتها القيادة السورية  بشكل فعلي. المهم عدم السماح لنشوب حرب أهلية واسعة النطاق.. وفي هذا السياق عملت وستعمل الدبلوماسية الروسية.

استناذا إلى التجربة المريرة، نحن ضد اتخاذ قرارات مثل التي اتخذها مجلس الأمن والتي من الممكن تأويلها كإذن بالتدخل العسكري في العملية السورية الداخلية..

وفقط بناء على هذه المبادئ لم تسمح روسيا والصين في بداية فبراير بتبني قرار يتحمل أكثر من تأويل والذي يمكن أن يشجع لجوء أحد الأطراف المتنازعة إلى العنف..

في هذا الخصوص، ومع اعتبار رد الفعل، الحاد للغاية، على الفيتو الروسي الصيني، أريد أن أحذر زملاءنا الغربيين من إغراء اللجوء الى النماذج المبسطة التي تم استخدامها سابقا: اذا وجدت موافقة من مجلس الأمن على هذه العملية أو تلك فحسنا، واذا لا توجد، نشكل تحالفا للدول ذات المصلحة. ونقصف. 

ان منطقا كهذا يعتبر في حد ذاته غير فعال وخطرا للغاية.. ولن يقود اي نتائج حسنة. وفي كل الأحوال، لا يساعد على تسوية الأوضاع داخل الدول التي تعاني من النزاع. والاسوا من ذلك انه يؤدي الى مواصلة عدم توازن نظام الأمن الدولي كله . ويقوض صدقية ودور الأمم المتحدة المحوري. واود التذكير بأن حق الفيتو ليس مجرد نزوة، بل جزء لا يتجزأ من النظام العالمي، موثق في ميثاق الأمم المتحدة، وبالمناسبة، بناء على إصرار الولايات المتحدة. ويتمثل معنى هذا الحق في ان القرار الذي يقف ضده على الأقل عضو واحد دائم  في مجلس الأمن الدولي، لا يمكن أن يكون متكاملا وفعالا.. يحدوني أمل كبير في أن تأخذ الولايات المتحدة والدول الأخرى بعين الاعتبار التجربة المريرة وألا يحاولوا اللجوء إلى سيناريوهات استخدام القوة ضد سورية من دون قرار من مجلس الأمن الدولي.

أصلا، لا أستطيع بأي شكل كان، استيعاب مصدر هذا التشدد. لماذا لا يكفي التحلي بالصبر لإيجاد مدخل جماعي ودقيق ومتوازن. خصوصا أنه في حالة المشروع "مشروع القرار السوري" المذكور، هذا المدخل عمليا، اتضحت معالمه. وبقي فقط طلب الشيء ذاته من المعارضة المسلحة، كما من السلطة. وبالتحديد إخراج الوحدات العسكرية والفصائل المسلحة من المدن. ان رفض القيام بذلك يعتبر وقاحة.

إذا أردنا توفير سلامة المواطنين، وهذه  أولوية بالنسبة إلى روسيا، فمن المهم عقلنة كل أطراف المواجهة العسكرية.  هناك جانب آخر، اتضح أن في الدول التي عبرت خلال "الربيع العربي" كما كان في العراق، تفقد الشركات الروسية مواقعها التي تشكلت لعقود في الاسواق المحلية،  تفقد عقودا كبيرة جدا. ويحتل مكانها وكلاء اقتصاد تلك الدول التي ساهمت في تغيير النظم في تلك الدول. يمكن الظن أن أكثر الأحداث تراجيدية إلى حد ما حفزها ليس الاهتمام بحقوق الإنسان بل مصلحة جهة ما في تقسيم الاسواق . مهما كان الأمر لكن بالنسبة إلينا يجب أن لا ننظر إلى كل هذا بهدوء تام. ونحن ننوي العمل بفعالية مع السلطات الجديدة في الدول العربية لنستعيد سريعا مواقعنا الإقتصادية.

بشكل عام ما يحدث في العالم العربي مفيد جدا. وتشير الأحداث هناك إلى أن الرغبة في فرض الديمقراطية من خلال أساليب القوة يمكن وغالبا ما تؤدي إلى نتيجة عكسية تماما. فيتم صعود قوى، بما في ذلك المتطرفون الدينيون، تحاول تغيير اتجاه التنمية في تلك البلدان، والطبيعة العلمانية لحكمها.

نحن في روسيا كانت لدينا دائما علاقات جيدة مع ممثلي الإسلام المعتدل، وأيديولوجيتهم قريبة لتقاليد المسلمين في روسيا الاتحادية. ونحن مستعدون لتطوير هذه الاتصالات في الظروف الحالية. نحن مهتمون بتعزيز العلاقات السياسية والتجارية والاقتصادية مع جميع الدول العربية بما في ذلك مع تلك الدول التي شهدت فترة من الاضطرابات الداخلية. وعلاوة على ذلك، أرى أن الظروف الحقيقية هي التي سمحت لروسيا بالاحتفاظ بشكل كامل بمكانتها الرائدة على الساحة الشرق الأوسطية حيث كان لدينا دائما الكثير من الأصدقاء.

وفيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، فانه  لم يتم بعد اختراع "وصفة سحرية" يمكنها أن تساعد في نهاية المطاف على تصحيح الوضع . ولا يجب التوقف في أي حال من الأحوال، آخذا بعين الاعتبار على وجه الخصوص علاقاتنا الوثيقة مع القيادة الإسرائيلية والزعماء الفلسطينيين، وستستمر الدبلوماسية الروسية بنشاط في تشجيع استئناف عملية السلام على أسس ثنائية وفي إطار رباعية الشرق الأوسط وبتنسيق التحركات مع جامعة الدول العربية.

"الربيع العربي" هو أيضا عرض بوضوح أنه يتم تهيئة الرأي العام العالمي في الوقت الحاضر عن طريق استخدام، بشكل نشط للغاية، التكنولوجيات المتقدمة في مجال الإعلام والاتصالات.

يمكن القول إن الانترنت، والشبكات الاجتماعية والهواتف المحمولة وغيرها أصبحت إلى جانب التلفزيون أداة فعالة للسياسة الداخلية والدولية. وهذا هو عامل جديد، يتطلب التفهم وعلى وجه الخصوص، للحد من خطر استخدامه من قبل الارهابيين والمجرمين.

يُستخدم أكثر وأكثر مفهوم "القوة الخفيفة"، اي مجموعة من الأدوات والأساليب لتحقيق الأهداف السياسية الخارجية من دون استخدام الأسلحة، ولكن عن طريق استخدام اذرع تأثير اعلامية وغيرها . مع الاسف  غالبا تُستخدم هذه الطرق لتربية وتحريض التطرف والنزعة الانفصالية والقومية والتلاعب بالرأي العام والتدخل المباشر في السياسة الداخلية للدول ذات السيادة.

ويجب التفريق بوضوح بين، حرية التعبير والنشاط السياسي العادي وبين آليات "القوة الخفيفة" غير الشرعية. ويمكن الترحيب بالعمل الحضاري للمؤسسات الانسانية غير الحكومية،  بما في ذلك تلك التي تنتقد بنشاط  السلطات القائمة ، ولكن نشاط المؤسسات غير الحكومية وغيرها من المؤسسات المدعومة من الخارج والتي تهدف إلى زعزعة الاستقرار في أي من البلدان، غير مقبول.

وأنا أقصد هنا تلك الحالات عندما لا تطور المنظمة غير الحكومية نشاطها من خلال مصالح مجموعات المجتمع المحلية وموارده بل يتم تمويلها ورعايتها من قبل قوى خارجية. يوجد في العالم اليوم العديد من "وكلاء التأثير" والذين يتبعون للدول الكبرى والوحدات والشركات. وعندما يقوم هؤلاء الوكلاء بنشاطهم بشكل واضح هذا يعد أحد أشكال ما يسمى "باللوبي المتحضر". وروسيا لها أيضا مثل هذه المؤسسات مثلا /التعاون الروسي/ وصندوق /العالم الروسي/ وجامعاتنا الرائدة التي تقوم بعملية نحو توسيع آفاق البحث عن المنتسبين الموهوبين في الخارج.

لكن أما روسيا فلا تستخدم المنظمات الوطنية غير الحكومية التابعة لبلدان أخرى.. ولا تقوم بتمويل هذه المنظمات إضافة إلى المنظمات الأجنبية ذات الطابع السياسي من أجل تحقيق مصالحها. والصين والهند والبرازيل لا تقوم بذلك أيضا.

ونحن نعتقد أن التأثير على السياسية الداخلية والرأي العام في بلدان أخرى يجب أن يتم بشكل مفتوح.. الأمر الذي سيضع  اللاعبين أمام المسؤولية تجاه نشاطهم .
التحديات والتهديدات الجديدة

إيران.. الآن هي التي تستقطب الاهتمام الشامل. وروسيا بطبيعة الحال تشعر بقلق تجاه التهديد المتزايد بتنفيذ هجوم عسكري على هذا البلد. إذا حدث ذلك فإن العواقب ستكون كارثية حقا ولا يمكن أن يتصور حجمها الحقيقي.. وأنا على ثقة بضرورة إيجاد حل سلمي لهذه  القضية. ونحن نقترح… الاعتراف بحق إيران في تطوير برنامجها النووي المدني بما في ذلك الحق في تخصيب اليورانيوم. ولكن في المقابل يجب أن تقوم الوكالة الدولية للطاقة الذرية بمراقبة جميع أنشطة إيران النووية بشكل آمن وشامل. إذا حققنا ذلك… حينذاك يجب رفع جميع العقوبات المفروضة على إيران بما في ذلك أحادية الجانب. وقد شغف الغرب بفرض ما يسمى بالعقاب لدول محددة، وفي حال حدوث شيء ما مناسب ترفع عصا العقوبات وحتى العصا العسكرية. وأذكر بأننا لسنا في القرن التاسع عشر وحتى لسنا في القرن العشرين.

أما فيما يتعلق بالقضية النووية الكورية فالوضع هنا ليس بأقل خطورة.
العامل الاوروبي

روسيا هي جزء لا يتجزأ من اوروبا الكبيرة ، او بالاحرى الحضارة الاوروبية الواسعة. ويصف مواطنونا انفسهم بانهم  اوروبيون بالدرجة الاولى. لذلك يهمنا  كل ما يحدث في اوروبا الموحدة. ولهذا السبب بالذات  فان روسيا تقترح  السيرعلى طريق إنشاء  الفضاء الاقتصادي والانساني الموحد من المحيط الاطلسي حتى  المحيط الهادي بصفته فضاء  يسميه الخبراء الروس اتحاد اوروبا الذي من شأنه ترسيخ امكانات ومواقف روسيا لدى انعطافها الاقتصادي نحو "آسيا الجديدة". واننا نتأثر الى حد كبير  بصدمات اقتصادية ومالية تعانيها الآن اوروبا  التي كانت سابقا واحة للاستقرار والنظام، وذلك على خلفية  نهضة تعيشها الصين والهند وغيرهما من الاقتصادات  الجديدة. ولا يمكن الا تطال الازمة التي ضربت اوروبا مصالح روسيا وبالدرجة الاولى آخذا بعين الاعتبار ان الاتحاد الاوروبي يعتبر  اكبر شريك على صعيد العلاقات الاقتصادية الخارجية بالنسبة الينا. ومن الواضح ان  مستقبل النظام الاقتصادي العالمي كله يتوقف الى حد كبير على  حالة الاقتصاد الاوروبي.

وانخرطت روسيا بنشاط  في تلك الاجراءات التي تتخذها الاسرة الدولية بغية دعم الاقتصادات الاوروبية  المصابة بالازمة. وشاركت روسيا في وضع قرارات جماعية  اتخذت في اطار صندوق النقد الدولي. واننا لا نستثني مبدئيا احتمال تقديم ، في بعض الحالات ، مساعدات مالية مباشرة .

 فيما نعتقد ان  ضخ الاموال الخارجية  في الاقتصاد الاوروبي  لا يحل  المشكلة الا جزئيا. ومن اجل  تصحيح الوضع  تماما  لا بد من اتخاذ  خطوات فعالة تحمل طابعا منتظما. وقد طرحت على  القادة الاوروبيين  مهمة اجراء  تحولات واسعة النطاق من شأنها ان تغير مبدئيا الآليات المالية والاقتصادية الكثيرة وتضمن ضبط الميزانيات. واننا مهتمون  بان يكون الاتحاد الاوروبي قويا  كما تراه ألمانيا وفرنسا مثلا. كما اننا معنيون  بتطبيق  القدرات الكامنة القوية للشراكة بين روسيا والاتحاد الاوروبي.

يجب القول ان المستوى الراهن للتعاون بين روسيا والاتحاد الاوروبي لا يستجيب للتحديات العالمية الشاملة وقبل كل شيء فيما يتعلق بزيادة قدرة قارتنا المشتركة على المنافسة. وانني اقترح مرة اخرى العمل على استحداث رابطة  منسجمة للاقتصادات  ابتداءا من لشبونة وحتى فلاديفوستوك والوصول مستقبلا الى  تشكيل منطقة التجارة الحرة وحتى  آليات اكثر تقدما في التكامل الاقتصادي. وفي هذه الحال سنحصل على  سوق قارية مشتركة تبلغ قيمتها تريليونات اليورو. فهل هناك من يشكك في استجابة ذلك  لمصالح الروس والاوروبيين؟

ويجب التفكير ايضا في درجة التكامل الاكثر عمقا في مجال الطاقة وصولا الى أنشاء  مجمع موحد للطاقة الاوروبية. وقد اتخذت الخطوات الهامة على هذا الطريق، وهي إنشاء خطي انابيب الغاز " السيل الشمالي" المار بقعر بحر البلطيق، و"السيل الجنوبي" عبر البحر الاسود. وحظي هذان المشروعان  بدعم الكثير من الحكومات الاوروبية. وتشارك فيهما شركات الطاقة الاوروبية الكبرى. وبعد إنجازهما ستحصل اوروبا على  منظومة امداد بالغاز آمنة ومرنة  ولا يتوقف عملها على  تقلبات سياسية مما يمكنها ، ليس شكليا ، بل في الواقع ، من توطيد أمن الطاقة في القارة الاوروبية. ويعتبر هذا الامر ملحا بصورة خاصة على ضوء القرارات التي اتخذتها بعض الدول الاوروبية بتقليص استخدام الطاقة النووية او التخلي عنها تماما.

واريد القول بصراحة ان "رزمة الطاقة الثالثة" التي أيدتها المفوضية الاوروبية والتي تهدف الى إبعاد شركات الطاقة الروسية المتكاملة اوروبيا لا تساعد في  تعزيزعلاقاتنا، بل انها ، في ظل عدم الاستقرار داخل الموردين البدائل عن روسيا، تزيد من حدة ألاخطار المتتالية  على الطاقة الاوروبية وتهدد مصالح  رجال الاعمل الذين ينوون مستقبلا الاستثمار في المشاريع الجديدة للبنية التحتية. وقد عبر الكثير من السياسيين الاوروبيين في الحوارات الخاصة معي عن موقفهم السلبي من  تلك الرزمة. ويجب عليهم ان يكونوا نزهاء ليزيلوا هذا الحاجز على طريق تطوير التعاون  ذي المنفعة المتبادلة.

انني اعتبر ان الشراكة الحقيقية  بين  روسيا والاتحاد الاوروبي تستحيل ما دامت هناك حواجز تحول دون اقامة اتصالات اقتصادية وانسانية. والمقصود بالامر بالدرجة الاولى هو  نظام منح تأشيرات الدخول. وكان من شأن إلغائها  توسيع علاقات العمل  والثقافة وبصورة خاصة بين ممثلي البزنس الصغير والمتوسط. ويعتبر تهديد مصالح الاوروبيين من جانب من يسمون  بالمهاجرين القادمين من روسيا  تهديدا وهميا  في معظم الاحوال ، علما ان امكانات مواطنينا  لاستخدام كفاءاتهم  وقواهم في بلادنا تزداد من يوم الى آخر.

لقد اتفقنا في شهر ديسمبر الماضي على اتخاذ الخطوات المشتركة الرامية الى إلغاء تأشيرات الدخول. ويجب تطبيقها  دون تأخر، او بالاحرى الاستمرار في العمل النشيط في هذا المسار.
الشؤون الروسية الامريكية

بذلنا في الاونة الاخيرة جهودا كثيرة لتطوير العلاقات الروسية الامريكية. لكننا لم نستطع الحل النهائي  لمسألة التغيير الجذري لمحرك تلك العلاقات، علما انها  تتعرض كما هو الحال في السابق  للمد أحيانا والجزر أحيانا اخرى.  وينجم عدم الاستقرار هذا  في الشراكة عن حيوية  القوالب القديمة والتخوفات المعروفة. والدليل الساطع على ذلك هو كيف يجري تصوير روسيا في الكونغرس الامريكي. لكن المشكلة تكمن في ان الحوار السياسي والتعاون بين البلدين لا يستندان الى  قاعدة اقتصادية متينة حيث لا يستجيب حجم التجارة  للقدرات الكامنة  في اقتصاد بلدينا. والامر كذلك في الاستثمارات المتبادلة. اذن فلم يتم انشاء شبكة امان من شأنها ان  تحمي علاقاتنا من  التقلبات. ويجب بذل جهود في هذا المسار.

هناك محاولات تقوم بها الولايات المتحدة بشكل منتظم  لممارسة ما يسمى بـ "الهندسة السياسية" في مناطق واقاليم تعتبر هامة بالنسبة  لروسيا  تقليديا، ناهيك عن  التأثير على  سير الحملات الانتخابية.

وأكرر مرة اخرى ان فكرة إنشاء منظومة الدرع الصاروخية في اوروبا تثير لدينا قلقا  مشروعا. فلماذا تقلقنا تلك المنظومة اكثر من غيرها ؟  – لانها  تطال قوات الردع النووي الاستراتيجي التي تمتلكها روسيا فقط في مسرح العمليات هذا ، وتخل  بموازين القوى السياسية والعسكرية التي تشكلت هنا على مدى عقود.

وينعكس الترابط غير المنقطع بين الدرع الصاروخية والاسلحة الاستراتيجية الهجومية  في معاهدة "ستارت – 3" للحد من الاسلحة الاستراتيجية الهجومية الموقعة عام 2010. التي تعتبر إنجازا كبييرا على صعيد السياسة الخارجية. وقد سرى مفعول تلك المعاهدة التي تعمل بشكل لا بأس به. واننا جاهزون لبحث  شتى احتمالات ما يمكن ان يشكل اجندتنا المشتركة مع الامريكيين في مجال الرقابة على  الاسلحة في المرحلة القادمة مع شرط ان يبقى  توازن المصالح ويتم التخلي عن  محاولات الحصول على  امتيازات احادية الجانب في المفاوضات.

 واحب الاعادة الى الاذهان  انه سبق لي ان  عرضت على الرئيس جورج بوش الابن خلال انعقاد  قمة  كينيبنكبورت عام 2007  حل مشكلة الدرع الصاروخية ، الامر الذي كان من شأنه ان يغير نوعيا – في حال قبوله –  الطبيعة المعتاد عليها  للعلاقات الروسية الامريكية ويحيل الوضع الى مجرى ايجابي. وزد على ذلك ففي حال  الوصول الى  حل اختراقي في مجال الدرع الصاروخية آنذاك لكان بالامكان توفير فرص  لتشكيل موديل جديد نوعيا وقريب من التحالف للعلاقات في مجالات حساسة كثيرة اخرى. لكن لم يضبط الحال آنذاك.  وربما كان من المستحسن مراجعة تسجيل المحادثات في كينيبنكبورت. وكانت القيادة الروسية في السنوات الاخيرة  تطرح  اقتراحات اخرى في موضوع الوصول الى الاتفاق حول الدرع الصاروخية وتبقى كل تلك الاقتراحات قائمة. فعلى كل حال لا يجوز شطب كل الامكانيات  للبحث عن حلول وسط لمشكلة الدرع الصاروخية.  ولا يستحسن ان يصل  حجم نشر المنظومة الامريكية الى حد  يجعلنا  نطبق  خطوات الرد المعلنة.

وسبق لي ان عقدت مؤخرا لقاء مع هنري كيسنجر الذي التقي به بشكل منتظم. وانا اشارك هذا الشخص المحترف الكبير حيث يطرح فكرة مفادها ان موسكو وواشنطن بحاجة الى اقامة التعاون المبني على الثقة حين يعيش العالم مرحلة التقلبات السياسية وعدم الاستقرار. وكان علينا في حقيقة الامر ان نحقق تقدما كبيرا ونقلة نوعية اختراقية في علاقاتنا مع الولايات المتحدة مع شرط ان يسترشد الامريكيون  في واقع الامر بمبدأ الشراكة المتكافئة والاحترام المتبادل.

روسيا اليوم