أحمد الريسوني يكتب : حزب العدالة والتنمية.. أين الخلل ؟

أحمد الريسوني

مجريات الأوضاع الداخلية لحزب العدالة والتنمية المغربي، أصبحت تحظى خلال الشهور الأخيرة، باهتمام كبير ومتزايد لدى السياسيين والصحافيين، فضلا عن أعضاء الحزب وأقربائه…
فمنَ “البلوكاج” الشهير الذي منع رئيسَ الحزب من تشكيل حكومته الثانية، إلى نتائج الانتخابات الجزئية التي خرج منها البيجيديون خائبين، مرورا بالإعفاء الملكي للأستاذ عبد الإله بنكيران من تشكيل الحكومة، وتكليف الدكتور سعد الدين العثماني بتشكيلها، ثم “البلوكاج” الثاني المتواصل إلى الآن داخل الحزب نفسه، وصولا إلى السجالات والتجاذبات الداخلية لبعض قيادييه وأعضائه حول عدة قضايا ووقائع سياسية وتنظيمية، أبرزها قضية “الولاية الثالثة”…

وقد قيل الكثير من التحليلات والتقييمات حول هذه الأمور وتفاصيلها وتداعياتها الواقعة والمتوقعة، سواء عبر الكاميرات والمكروفونات، أو في المقالات والتدوينات، أو عبر الوسوسات والتسريبات. وسيقال في الأسابيع والشهور القادمة أكثر مما مضى. ولذلك لا أريد الآن أن أخوض فيما قد جرى وسيجري تناوله وتداوله، وإنما أريد ذكر شيء مما لا يتناوله المتحدثون.

قبل أسبوع دعاني واستضافني أخ كريم من المدافعين عن “الولاية الثالثة”، وقد شرح لي وجهة نظره بكامل حُججها وأبعادها، ثم شرحت له أنا أيضا وجهة نظري بمبادئها وقواعدها، فقال لي: على كل حال أنت تنظر وتقَيِّم الأمور بمنطق فقهي شرعي، وهذا من حقك، لكن السياسة شيء آخر…

فمن هنا أنطلقُ لذكر لمحات عن موضوع هذا المقال.

#بين_السياسة_والنبوة

السياسة والعمل السياسي هو أقرب شيء وأشبهه برسالة الأنبياء، بخلاف ما يقوله بعض الفلاسفة من أن الفلسفة هي الأقرب والأشبه برسالة الأنبياء، بجامع طلبهما معا للحقيقة والحكمة… نعم، الفلسفة تبحث عن الحقيقة والحكمة، وهي في ذلك تصيب وتفيد، ولكنها قد تضل وتزل. وأما الدين فهو يحمل حقيقته وحكمته معه، فقط يسعى إلى إقامتها وتفعيلها. والسياسة أيضا تنطلق من حقائق وقيم ومصالح مسلَّمة عند الناس، وتسعى إلى تحقيقها وحفظها وتدبير متطلباتها. فمن هنا كان التلاقي القديم والاشتراك الواسع بين الدين والسياسة، حتى إن عددا من الأنبياء والرسل كانوا في الوقت نفسه قادة سياسيين.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي…).

وقد قرر علماء الإسلام أن “الرسل بعثوا بجلب المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها”. ولو سألنا السياسيين لقالوا جميعا: إن هذا بالضبط هو ما نريده ونسعى إليه. ولذلك قال ابن القيم رحمه الله: “ومن له ذوق في الشريعة واطلاعٌ على كمالها وعدلها وسعتها ومصلحتها، وأن الخَلق لا صلاح لهم بدونها البتة، علم أن السياسة العادلة جزء من أجزائها وفرع من فروعها”. وقد نقل عن ابن عقيل رحمه الله قوله: “السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي”.

والذين فصَلوا السياسة عن الدين، وأبعدوها عن الأخلاق، ثم صَيَّروها تكالبا وتغالبا، وتحزبا وتعصبا، وتحايلا وتلاعبا، هم الذين شوهوا السياسة وأفسدوها، وبغَّضوا السياسيين إلى الناس. وبسبب ذلك قال الشيخ محمد عبده رحمه الله: “لعن الله ساس يسوس وما اشتُق منها”، وقال الشيخ سعيد النورسي رحمه الله: “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومن السياسة والسياسيين”.

وحين انخرط فصيل من الحركة الإسلامية المغربية المعاصرة في ميدان العمل السياسي، كان كله شوق وأمل في أن يعيد ويجسِّد الربط البَنَّاء بين الدين والسياسة، وأن يصالح بين الأخلاق والعمل السياسي. وقد تحقق له من ذلك الشيء الكثير، ونجح نجاحا مقدرا في إعادة الثقة والاحترام للسياسة والعمل السياسي. ومما أتذكره في أول انتخابات دخلناها أواخر التسعينيات من القرن الماضي، أن أحد الأساتذة من العلماء الأجلاء لقيني بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، فأقبل علي يعانقني ويشكر ويدعو… فقلت مستغربا: على أي شيء يا سيدي؟ قال: لقد أخرجتموني من أزمتي وحرجي؛ كنت لا أصوت في أي انتخابات، والآن قمت بالتصويت بارتياح، لوجود من أصوت عليهم ومن أثق فيهم.

وقد لقيت وسمعت نماذج أخرى يقولون مثل هذا الكلام.

ومع توالي مشاركات حزب العدالة والتنمية في الانتخابات والمؤسسات المنتخبة، بدأ الناس يجدون صنفا جديدا من المرشحين، ومن المنتخبين، ومن الوزراء ورئيس الحكومة…، وبدأوا يتعرفون على نمط جديد من الخطاب السياسي ومن السلوك السياسي والإداري، ومن التواصل السلس مع الناس، ومن التعامل النزيه مع المال العام والمصالح والممتلكات العمومية… وتفاصيل ذلك يعرفها عامة الناس، بل يعيشونها إلى الآن…

وقد كان هذا السلوك السياسي الرشيد معززا ومسيَّجا بعدد من المبادئ والشعارات المعتمدة، من قبيل:

– مشاركةٌ لا مغالبة،

– نتعاون على الخير مع الغير،

– نتحمل ما نطيق ونترك ما لا نطيق،

– ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم.

كانت تلك هي الإضافة النوعية إلى الساحة السياسية والممارسة السياسية المغربية، وكانت هي الربح الحقيقي لمشاركة “الإسلاميين” في العمل السياسي وفي المسؤوليات السياسية، الوطنية والمحلية. وهو ما خولهم مزيدا من التقدير والثقة، ومن والقبول والإقبال، سواء لدى جمهور الناخبين والمواطنين، أو حتى لدى بعض المسؤولين.

#بداية_الاختلال_والاضطراب

ويرجع ذلك إلى أواخر سنة 2011 فما بعدها، حيث بدأ حزب العدالة والتنمية يحصد ويجني ما زرعه هو، وما زرعه غيره، وما نبت من غير أن يزرعه أحد. هكذا حال الدنيا: إذا أقبلَتْ عليك منحتك ما تستحقه وما لا تستحقه، وإذا أدبرَتْ عنك سلبتك ما تستحقه وما لا تستحقه.

بعد ذلك بدأت تفشو في الحزب لغة الانتصارات ونفسية الأقوياء المنتصرين. وبدأ الغرور يحل محل التواضع، وبدأ الدفع بالتي هي أخشن يحل محل الدفع بالتي هي أحسن. وقد كان مُدرَّج البرلمان شاهدا على هذا وعلى أكثر منه، من الرداءة والفظاظة في الخطاب والسجال. كما أصبحت التجمعات الانتخابية، وحتى اللقاءات الحزبية الداخلية، ميدانا للمبارزة والطعان والسخرية والفرجة والضحك…

ولقد كان لغياب الأستاذ عبد الله بها – بعد وفاته أواخر 2014- أثر واضح في نمو هذا الاتجاه؛ إذ كان – رحمه الله – هو محتسب الحزب في اعتداله وتوازنه وأخلاقيته. وقد ترك غيابه ثغرة لم تُسد حتى الآن.

ولما تم التغاضي والسكوت (في الأمانة العامة وغيرها) على ظاهرة الرداءة الأخلاقية والتعبيرات العدائية، في معاملة الخصوم ومواجهتهم، لِـما يجلبه ذلك من إعجاب وشعبية، تطور هذا المسلك وبدأ يشيع ويترسخ داخل الحزب وبين أعضائه الكبار والصغار. فلم يعد أسلوبا قاصرا على مواجهة المناوئين فحسب، بل أصبح يستعمل للداخل والخارج معا.

ثم بلغ هذا المنحى ذروته – أو حضيضه – حين بدأت سهام الاتهام والتشويه والشيطنة توجَّه إلى صدور الرواد المؤسسين، الذين حملوا أعباء العمل الإسلامي والنضال السياسي، منذ أن كانوا تلاميذ في الإعداديات والثانويات، وهو ما جعل أصحاب هذه السهام مطبقين فعليا للمثل للمغربي: “اللي حرث الجمل دكُّو”.

فاتقوا الله في أنفسكم ولا تُبطلوا أعمالكم، وتدبروا قول الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [النحل: 92].

عن موقع : فاس نيوز ميديا