منشور رئيس النيابة العامة رقم 1 إلى – السادة المحامين العامين – السادة الوكلاء العامين للملك – السادة وكلاء الملك – السادة قضاة النيابة العامة بجميع المحاكم

منشور رئيس النيابة العامة رقم 1
إلى
– السادة المحامين العامين
– السادة الوكلاء العامين للملك
– السادة وكلاء الملك
– السادة قضاة النيابة العامة بجميع المحاكم

باسم الله الرحمان الرحيم
نستلم بحمد الله مقاليد رئاسة النيابة العامة ابتداء من سابع أكتوبر 2017 تطبيقا لمقتضيات المادتين 111 و117 من القانون التنظيمي رقم 13-106 المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة وللمادة العاشرة من القانون رقم 17-33 المتعلق بنقل اختصاصات السلطة الحكومية المكلفة بالعدل إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيساً للنيابة العامة وبسن قواعد لتنظيم رئاسة النيابة العامة.
وإذ نسعد بالاضطلاع بهذه المهمة الجسيمة التي كلفنا بها جلالة الملك محمد السادس نصره الله رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية، فإننا على يقين من نجاحنا فيها بمشيئة الله تعالى بفضل تفانيكم في القيام بواجبكم وإخلاصكم في عملكم وانضباطكم للأمر المولوي السامي الذي أصدره لنا جميعا جلالة الملك في ظهير التعيين المؤرخ في ثالث أبريل الماضي حيث جاء في الأمر الملكي الموجه للوكيل العام للملك : “وعليه نأمره بصفته رئيسا للنيابة العامة، والمسؤول القضائي الأول عن حسن سيرها، بالدفاع عن الحق العام والذود عنه، وحماية النظام العام والعمل على صيانته، متمسكا، هو وسائر القضاة العاملين تحت إمرته، بضوابط سيادة القانون ومبادئ العدل والإنصاف التي ارتأيناها نهجا موفقاً لاستكمال بناء دولة الحق والقانون، القائمة على صيانة حقوق وحريات المواطنين والمواطنات، أفراداً وجماعات، في إطار من التلازم بين الحقوق والواجبات، أعانه الله على اختيار المسلك السليم وأرشده إلى الطريق القويم”. انتهى النطق الملكي السامي.
وإذ نذكركم جميعاً بصعوبة المهمة بالنظر لدقة المرحلة المليئة بانتظارات المجتمع المغربي من العدالة الوطنية وتطلعه إلى وجود نيابة عامة مستقلة عن جميع التأثيرات السياسية والعقائدية والمالية والاجتماعية، تضمن تحقيق الأمن القضائي للأفراد وتتمسك بسيادة القانون في الدفاع عن الحقوق والحريات الفردية والجماعية وعن الأمن والنظام العامين، وتساهم في تخليق الحياة العامة وصيانة قيم المجتمع وحماية مقدساته، تؤدي الخدمات للمتقاضين والمرتفقين في إطار الشفافية والمساواة وبكثير من النجاعة والفعالية.
فإننا ندعوكم من الآن – وفي انتظار استكمال تأسيس الهياكل الإدارية لرئاسة النيابة العامة، اللازمة لتأطير وتنسيق عملكم وأدائكم نحو هذا الاتجاه، إلى الانخراط في هذا التوجه، والتنافس في اختيار أساليب للعمل تمكن من سرعة تقديم الخدمات للمواطن والمتقاضي بما في ذلك استعمال الوسائل الالكترونية والتقنيات الحديثة.
• تحسين ظروف الاستقبال :
كما ندعوكم لتحسين ظروف استقبال المتقاضين والحرص على راحتهم، وأن تُسَخِّروا لذلك أحسن العناصر البشرية المتوفرة لديكم التي تمتلك حساً إنسانياً عالياً، ولديها القدرة الكافية للاستماع للمشتكين والاهتمام بتظلماتهم، فضلاً عن الكفاءة المهنية، اللازمة للبت في قضاياهم وتظلماتهم. وأن تسعوا في ذلك لتذليل كل الصعاب التي تعترض نجاعة هذه المهمة الأساسية من بين باقي مسؤولياتكم الهامة، بما في ذلك التواصل المستمر مع المحاكم وكتابة الضبط وهيئات الدفاع ومصالح الشرطة القضائية وباقي الجهات التي يتوقف قراركم في خدمة المتقاضين على إنجازها لعمل معين.
• التواصل :
وإذا كان حسن استقبال المتقاضين وسرعة تقديم الخدمات لهم، والنجاعة في تنفيذ القرارات، تعد مفاتيح نجاح نياباتكم في أداء مهامها، فإن التواصل مع المتقاضين –ولاسيما المشتكين– لإخبارهم بمآل القرارات المتخذة في قضاياهم لا يقل أهمية عن ذلك. ولذلك يتعين عليكم حت المشتكين على تمكينكم من عناوين المراسلة لإبلاغهم بمآل القضايا وتطور الأبحاث بما في ذلك استعمال البريد الإلكتروني والمراسلات الهاتفية القصيرة، ولاسيما في حالات الاستعجال.
كما أن التواصل مع الرأي العام ومع فعاليات المجتمع المدني يكون ضروريا في بعض الحالات لمنع انتشار الإشاعات والأخبار المختلقة والكاذبة أو لتصحيحها، وذلك تكريسا للمبدأ الدستوري المتعلق بالحق في الوصول إلى المعلومة وتنويرا للرأي العام الوطني والدولي كما يتم تداوله في وسائل الإعلام أو في الوسائط الاجتماعية.
ولأجل ذلك أطلب منكم إشعار رئاسة النيابة العامة على الفور بالقضايا التي تقتضي التواصل مع الرأي العام أو تثير اهتمامه، أو الرد على ما يتم تداوله عبر الوسائط الاجتماعية أو المواقع الإلكترونية أو بواسطة وسائل الإعلام، وموافاتها بعناصر الجواب والإيضاحات التي ترون ضرورة تعميمها، وذلك من غير الإخلال بمقتضيات القانون المتعلقة بقرينة البراءة وحماية حرمة الحياة الخاصة وعدم خرق سرية الأبحاث والسر المهني.
• بعض أولويات السياسة الجنائية :
ومن جهة أخرى فإننا نطلب منكم القيام بمهامكم في احترام تام للقوانين، مع مراعاة أولويات السياسة الجنائية القائمة، وذلك بإيلاء مزيد من الاهتمام وإعطاء الأولوية للقضايا التي تستأثر باهتمام الرأي العام، واتخاذ مواقف وقرارات حازمة للتصدي للجرائم التي تمس شعور المواطنين حتى تكونوا صوتهم أمام القضاء.
وإذا كانت أولويات السياسة الجنائية متغيرة تبعاً للظروف الاقتصادية والاجتماعية، وتراعي تغير الأحوال الأمنية والإنسانية، مما سيُحتِّم علينا –وفقا للقانون- إبلاغكم بإرادة المشرع من إقرار سياسة جنائية معينة كلما اتخذ المشرع قراراً بذلك باعتباره الجهة الدستورية المكلفة بوضع السياسة الجنائية كما أكد ذلك المجلس الدستوري بتاريخ 15 مارس 2016 في قراره رقم 16-991 تعليقاً على المادة 110 من القانون التنظيمي رقم 13-100 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، فإننا نطلب منكم الاستمرار في إيلاء العناية القصوى للقضايا التالية باعتبارها من أولويات السياسة الجنائية القائمة بالدولة، والحرص على التعامل معها بكل حزم وصرامة –وفقاً للقانون- بما في ذلك الأمر بالأبحاث التمهيدية أو المطالبة بإجراء تحقيق وتحريك الدعاوى العمومية بشأنها أمام القضاء وتقديم مطالب وملتمسات واضحة للقضاة بشأنها ترمي إلى تحقيق الردع العام والخاص. ويتعلق الأمر بالقضايا التالية :
أولاً : حماية الحقوق والحريات
غيْرُ خاف عليكم ما أولاه الدستور المغربي من أهمية لحقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم، جعلته يؤكد على حماية منظومة حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني ضمن المبادئ الأساسية التي تضمنتها ديباجته، قبل أن يتناول حمايتها بتفصيل في صلب العديد من فصوله.
كما أن المشرع عني بحماية هذه الحقوق ورتب على خرقها جزاءات جنائية ومسطرية جسيمة. ومن بين الحقوق والحريات، التي يتعين عليكم إيلاءها الاهتمام، أذكركم بالتالي :
1- الحرص على ترشيد استعمال الآليات القانونية الماسة أو المقيدة للحريات وذلك باستعمالها فقط في الحالات التي تدعو إليها الضرورة، وأن يتم استعمالها وفقاً للقانون ودون تجاوز أو تعسف. ويتعلق الأمر بكل الإجراءات والمساطر الماسة بحريات الأشخاص
أو بحقوقهم القانونية، التي يمنحكم القانون الحق في استعمالها في الأبحاث والمتابعات، ولاسيما إلقاء القبض على الأشخاص واعتقالهم أو إغلاق الحدود في حقهم وسحب جوازات سفرهم، أو تفتيش المنازل وحجز الأشياء أو الأموال أو تحريك المتابعات القضائية، وغيرها من الإجراءات التي يتعين عليكم اتخاذها في حالة اللزوم، ومع مراعاة قرينة البراءة (الفصلان 23 و119 من الدستور والمادة الأولى من قانون المسطرة الجنائية)، وحماية الحياة الخاصة وحرمة المنازل والمراسلات (الفصل 24 من الدستور)؛
2- التصدي للانتهاكات الماسة بالحقوق والحريات بكل حزم وصرامة، والأمر بإجراء التحريات والأبحاث بشأنها دون تأخير وعدم التردد في استعمال السلطات التي يخولها لكم القانون بشأنها، ولاسيما حين يتعلق الأمر بادعاءات تتعلق بالتعذيب
أو الاعتقال التعسفي أو الاختفاء القسري؛
3- زيارة أماكن الاعتقال باستمرار، وعلى الأقل وفقاً للفترات التي حددها المشرع لزيارة مخافر الحراسة النظرية والسجون ومؤسسات الأمراض العقلية ومراكز الأحداث للتأكد من شرعية الاعتقال ومن تنفيذه وفقاً للظروف والشروط التي يحددها القانون. مع موافاة رئاسة النيابة العامة بالإحصائيات الشهرية للزيارات وبتقارير مفصلة بشأن الإخلالات التي تعاينونها والإجراءات المتخذة من قبلكم بشأنها، والحرص على إشعاري بالصعوبات التي قد تعترض قيامكم بهذه الزيارات؛
4- ضمان حقوق الدفاع وذلك بتمكين المشتكى بهم والمتهمين من حقهم في الدفاع. وكذلك تمكين المحامين المختارين من طرفهم أو المعينين في إطار المساعدة القضائية من القيام بمهامهم بكل حرية، وفقا لما ينص عليه قانون المحاماة والقوانين الأخرى ذات الصلة، ولاسيما قانوني المسطرة المدنية والجنائية.
كما أدعوكم لفتح قنوات للاتصال مع السادة نقباء هيئات المحامين المعنية من أجل توفير الأجواء الملائمة لممارسة المحامين لمهامهم ولتنظيم ترشيد ظروف ووسائل العمل المتاحة، أو لحل الإشكالات التي قد تعترض أداء واجب الدفاع؛
5- احترام الأجل المعقول الذي نص عليه الدستور في الفصل 120. ومعلوم أن بت القضاء في أجل معقول لا يهم قضاة الأحكام وحدهم، وإنما هو التزام دستوري موضوع على عاتق قضاة النيابة العامة كذلك، مما يستلزم منكم بذل مزيد من الجهد لاحترام الآجال الافتراضية الموضوعة لكم بالنسبة لتدبير الشكايات والمتابعات من جهة، وكذلك المساهمة إيجابا في تجهيز الملفات للحكم، مع ترشيد الطعون وجعل التطبيق السليم للقانون أساسا لمختلف الملتمسات المقدمة للمحكمة.
6- ترشيد الاعتقال الاحتياطي وتفعيل بدائله
فكما لا يخفى عليكم أن نسبة من الأشخاص الذي يتم اعتقالهم احتياطيا تنتهي قضاياهم بحكم بالبراءة. وهو أمر يسائل ضمائر قضاة النيابة العامة لتعارضه مع مبدأ قرينة البراءة. يضاف إلى ذلك أن حوالي 15% من المعتقلين احتياطياً يفرج عنهم إما بالسراح المؤقت أو لأنهم لم يحكم عليهم سوى بمجرد غرامة أو بحبس موقوف التنفيذ
أو اتخذت في حقهم قرارات بعدم المتابعة …
ولأجله أطلب منكم جميعاً، ولاسيما المسؤولين القضائيين بالنيابات العامة (الوكلاء العامين للملك ووكلاء الملك) أن يتابعوا شخصيا ملفات المتعقلين احتياطيا الذين تتم تبرئتهم، أو يفرج عنهم لأسباب غير انتهاء العقوبة، من أجل استخلاص النتائج والعبر منها وتوجيه عمل مساعديهم حتى لا تصبح هذه الوضعية، في حد ذاتها، ظاهرة.
كما أطلب منكم جميعاً عقلنة تطبيق الاعتقال الاحتياطي وترشيده باتباع التعليمات السابقة التي وجهت إليكم في إطار تنفيذ السياسة الجنائية والتي تظل سارية المفعول إلى حين إلغائها أو تعديلها صراحة. والاهتمام على الخصوص بمعالجة قضايا الاعتقال الاحتياطي على ثلاث مستويات :
– المستوى الأول : عدم الإيداع رهن الاعتقال الاحتياطي إلاَّ في الحالات التي تتوفر فيها الشروط القانونية لإيقاعه، وترون من خلال دراستكم لظروف القضية ومعطيات الملف أنه إجراء ضروري وأن التدابير البديلة لا يمكن أن تعوضه، بالإضافة إلى وجود قرائن قوية أو وسائل إثبات كافية؛
– المستوى الثاني : العمل على تجهيز ملفات المعتقلين الاحتياطين بسرعة لتمكين القضاة من البت فيها، والعمل على إحالة الملفات المطعون فيها بالاستئناف
أو النقض إلى المحاكم المختصة فور الطعن فيها؛
– المستوى الثالث : الحرص على تفعيل بدائل الاعتقال الاحتياطي مع التأكيد على الدور الإيجابي للنيابة العامة في تفعيل العدالة التصالحية التي جعلها المشرع من أولويات السياسة الجنائية، كبديل لتحريك المتابعة في بعض القضايا، وذلك بغية الحفاظ على العلاقات الاجتماعية وتخفيف العبء عن المحاكم.
وسيكون هذا الموضوع محل تتبع مستمر من طرف مصالح رئاسة النيابة العامة؛
ثانيا : تخليق الحياة العامة وحماية المال العام
غير خاف عليكم أن غياب الشفافية في تدبير الشأن العام، والتعاطي للرشوة واستغلال النفوذ واختلاس المال العام والغدر تعد من بين السلوكات الإجرامية الأكثر إثارة لشعور الرأي العام الوطني والدولي بالنظر لما تخلفه من آثار على حقوق الأشخاص وعلى الاستثمار، مما يجعل دور النيابة العامة محورياً في مكافحة هذه الظواهر السيئة.
ولاشك أن محاربة هذه الظواهر الإجرامية يتطلب التحلي بالكثير من الخصال. ذلك أنه مطلوب من القائمين على مكافحتها أن يتوفروا هم أنفسهم على خصال النزاهة والحياد، وأن يكونوا متشبعين بثقافة مناهضة الفساد المالي والإداري ليحوزوا على ثقة المتقاضين مواطنين وأجانب، فَيَقْبَلون التعامل معهم لتقديم الشكايات والوشايات والإدلاء بما يتوفرون عليه من وسائل إثبات. مع استحضار صعوبة إثبات جريمة الرشوة الذي يتطلب مساهمة المواطن الفورية، خلافاً للجرائم الأخرى المشار إليها التي يمكن إثباتها بناء على الوثائق المالية والمحاسباتية المتوفرة.
وكما تعلمون فإن مكافحة الفساد المالي تعد من المحاور الأساسية للسياسة الجنائية للدولة التي ينبغي عليكم إيلاءها العناية اللازمة وتسخير الوسائل القانونية والبشرية اللازمة لضبطها وإثباتها قصد عرضها على القضاء.
ويتعين عليكم على الخصوص الاهتمام الفوري بالبلاغات التي تتوصلون بها من المجلس الأعلى للحسابات ومن باقي المحاكم المالية ومن المفتشيات القطاعية والهيئات الرسمية المعنية بمكافحة هذه الجرائم.
كما يتعين عليكم التعامل الإيجابي مع باقي الشكايات والبلاغات التي تتوصلون بها من الأشخاص أو المنظمات المختلفة كلما كانت تتضمن وقائع وأفعال واضحة يمكن البحث فيها بغاية إثباتها أو نفيها. وكلما تعلق الأمر بشكايات أو وشايات لا يتوفر فيها هذا الشرط، فإن قرينة البراءة تقتضي إجراء تحريات أولية بشأنها لاستجماع المعلومات الضرورية بما في ذلك الاستماع إلى المشتكي أو الواشي أو الشهود للحصول على معلومات أدق تسمح بفتح البحث، حتى لا يتم استعمال هذا النوع من الوشايات والشكايات لاعتبارات كيدية أو انتقامية فيترتب عنها إزعاج غير مفيد للأشخاص والمؤسسات.
هذا مع تشجيع التبليغ عن الفساد من خلال تفعيل المقتضيات القانونية المتعلقة بحماية الضحايا والشهود والمبلغين والخبراء، والتنسيق المسبق مع الشرطة القضائية وباقي الأجهزة الأمنية عندما تدعو الضرورية إلى توفير الحماية؛
ثالثا : حماية الأمن والنظام العام
لا شكّ أن الأمن هو أول الحقوق التي يتعين ضمانها للمواطنين، إذ بدون استتبابه
لا يمكنهم ممارسة باقي الحقوق والتمتع بالحريات التي يكفلها لهم الدستور.
كما أنه لا شك أن الأمن يعد من أهم مقومات النظام العام الذي تسهر الدولة على صيانته من كل عبث وحمايته من كل اعتداء، لأنه أساس وجود الدولة نفسها ولحمة استقرارها.
ولأجل ذلك، فإن دوركم في حماية الأمن والنظام العام يعد دوراً محورياً وجوهريا. وإذا كان الأمن يتفرع إلى عدة مجالات اقتصادية واجتماعية وثقافية .. لكل منها أهميتهُ، فإن الأمن بمفهومه اللغوي الضيق، الذي يعني توفر الأمان والاطمئنان للمواطنين وساكنة الوطن وإبعاد الخوف والاضطراب عنهم في مقامهم ومعاشهم، يكتسي أهمية أكبر بالنسبة للمواطنين. كما أنه رغم تعدد عناصر النظام العام (الأمن والسكينة والصحة)، فإن الأمن يظل أوجب هذه العناصر بالحماية لأنه مفتاح توفير باقي العناصر.
ولأجله، وإذ أذكركم بتعليمات السياسة الجنائية السابقة في الموضوع، والتي تظل سارية المفعول، فإني أطلب منكم الاهتمام على الخصوص بمتابعة ومعالجة الظواهر التالية لما يترتب عنها من انْفِلات للأمن والسكينة داخل المجتمع تكون له أوخم العواقب على المواطنين :

1- حماية أمن المجتمع من الجرائم التي تثير الرعب والفزع بين الناس
لا شك أنه بالإضافة إلى جرائم الإرهاب والجريمة المنظمة التي تثير الرعب والفزع بين السكان، وتؤثر على النمو الاقتصادي والاجتماعي، بالإضافة لتأثيرها المباشر على حياة الأشخاص وسلامتهم وسلامة أموالهم وممتلكاتهم، فإن جنايات وجنح أخرى كالعنف والاعتداءات المسلحة، والسرقات بالنشل أو بالعنف وبعض مظاهر التسيب في الأماكن العامة التي تتمثل في التجول بأسلحة بيضاء أو تجول أشخاص بالشوارع بصدور عارية مثلاً وهم في حالة تخدير أو سكر ويعترضون المارة ويضايقونهم، بالإضافة إلى ترويج المخدرات والحبوب المهلوسة بين السكان، ولاسيما بين الناشئة أو في المدارس، وغيرها من السلوكات المماثلة التي يتضايق منها المواطنون وتزرع فيهم الفزع. ولذلك فإن دوركم في التصدي لمثل هذه السلوكات يبقى في مقدمة اهتمامات السياسة الجنائية التي تتطلب منكم استعمال جميع الآليات القانونية المناسبة لمواجهتها والتصدي لمرتكبيها؛
2- حماية بعض الفئات
لئن كان القانون – وهو المعَبِّرُ عن السياسة الجنائية – يوفر الحماية لبعض فئات المجتمع بالنظر لاعتبارات مختلفة ولاسيما للهشاشة البيولوجية أو الضعف الجسدي،
أو بسبب تأثير الجريمة عليهم، مثل الضحايا والأشخاص في وضعيات إعاقة، وهو
ما يتطلب تفعيل المقتضيات القانونية لتوفير الحماية لهذه الفئات، فإن السياسة الجنائية تهتم بالإضافة إلى حماية الفئتين المذكورتين بحماية الأطفال والنساء من كل الاعتداءات ولاسيما الاعتداءات الجسدية والجنسية. ولذلك يتعين عليكم عدم التردد في فتح الأبحاث وتحريك المتابعات واستعمال السلطات التي يمنحها لكم القانون لحماية هذه الفئات. بالإضافة إلى ضرورة السهر على التكفل بها واستقبالها من طرف خلايا مكافحة العنف المتوفرة بالنيابات العامة، استقبالاً إنسانيا يساهم في تخفيف أثر الاعتداءات التي تكون قد تعرضت لها.
وهي مناسبة لأطلب منكم الاحتفاظ بالعناصر البشرية (قضاة وموظفين) التي تم تأهيلها وتكوينها للاشتغال بخلايا التكفل بالنساء والأطفال في تلك الخلايا. وأن تسعوا –في حالة تغييرها– إلى تعويضها بأطر أخرى لها نفس الكفاءة والتكوين، مع إشعار رئاسة النيابة العامة بالصعوبات التي قد تعترضكم في تفعيل هذا الأمر، وكذلك بحاجتكم إلى تكوين إضافي أو جديد للعناصر المعينة في هذه الخلايا.
كما أدعوكم إلى الاهتمام بقضايا الجالية المغربية بالخارج والمهاجرين واللاجئين وضحايا الاتجار في البشر بما يتوافق مع السياسة الوطنية المعتمدة في هذا المجال، وبما يكفل مساواة الجميع أمام القانون؛
3- حماية القائمين على إنفاذ القانون
بالنظر لما قد يتعرض له الموظفون القائمون على إنفاذ القانون من اعتداءات وإهانات بسبب قيامهم بعملهم أو خلال أدائهم لواجبهم في تطبيق القانون أو في تنفيذ أحكام القضاء أو قرارات الإدارة، والتي يترتب عنها في الكثير من الحالات إصابات جسدية متفاوتة الخطورة بالنسبة لهؤلاء، أو إهانات لفظية جسيمة من شأن التساهل معها أن يعصف بهيبة القانون ويشجع آخرين على الاستهتار بأحكامه، فقد دأبت السياسة الجنائية التي تتبعونها على التعامل بنوع من الحزم والصرامة مع حالات الاعتداء على الموظفين خلال ممارسة عملهم أو بسبب هذه الممارسة، وإهانة القضاة ولاسيما خلال انعقاد جلسات المحاكم أو بمناسبة أدائهم لعملهم.
كما استقرت ممارسات السياسة الجنائية على التطبيق الصارم للقانون لحماية هيبة مؤسسات الدولة والإدارات والمؤسسات العمومية والمنشآت العامة أو الخاصة الاقتصادية
أو الصناعية، وكذلك في حق من يعرقلون انسياب السير بالطرق العمومية أو يحتلون المنشآت العمومية خرقاً للقانون أو يمنعون تصريف المؤسسات والإدارات لعملها وتقديم خدماتها للمواطنين، أو يضرون بحرية ممارسة العمل.
ولذلك فإنني أطلب منكم الاستمرار في تطبيق إرادة المشرع بصرامة في حق مرتكبي هذه الأفعال في احترام تام للمساطر والإجراءات المنصوص عليها في القوانين ذات الصلة؛
4- تحقيق الأمن العقاري
لا شك أن الملكية العقارية تعتبر أحد دعامات التنمية الاقتصادية والعمران، وهي
لا يمكن أن تكون أداة في خدمة الاقتصاد والاستثمار دون توفر آليات قانونية فعالة لحمايتها وضمان استقرارها وانتقالها بناء على سندات مشروعة.
وبالنظر لما أصبح يلاحظ في السنوات الأخيرة من لجوء بعض الأشخاص للاحتيال والتزوير بغية الاستيلاء على عقارات مملوكة للغير، مستغلين غيبة الملاك في الغالب، وما يترتب على ذلك من ضياع للحقوق المكتسبة وإضعاف الثقة في نظام الملكية العقارية ببلادنا، فإن الحاجة ملحة للتصدي إلى هذا النوع من التصرفات المخالفة للقانون بالحزم والصرامة اللازمين وفق ما جاء في تعليمات جلالة الملك نصره الله والتي سبق تبليغها إليكم في إبانها، وذلك بإجراء الأبحاث بالسرعة اللازمة وتحريك المتابعات والتماس عقوبات رادعة مع تتبع هذا النوع من القضايا بالجدية اللازمة؛
رابعا : تعزيز التعاون القضائي الدولي
يشكل التعاون القضائي الدولي ركيزة أساسية لكل سياسة جنائية حديثة ترمي إلى مكافحة المظاهر الخطيرة للجريمة خاصة في صيغتها المنظمة أو عبر الوطنية، مما يقتضي بذل جهود مضاعفة للاستجابة لطلبات التعاون التي ترد على السلطات القضائية ببلادنا بما يضمن سيادة القانون ومنع الإفلات من العقاب.
في هذا الإطار أحيطكم علما أن رئاسة النيابة العامة ستتولى التنسيق بينكم وبين الجهات الحكومية والدبلوماسية المكلفة بالتعاون القضائي الدولي من أجل تداول الطلبات والبت فيها. وأدعوكم إلى التنسيق الدائم مع رئاسة النيابة العامة عند وجود أي صعوبات تعترضكم في تنفيذ مختلف أشكال التعاون القضائي سواء في المجال الجنائي أو المدني مع تتبع هذه الطلبات بكل جدية لتنفيذها في آجال معقولة وتحقيق الغاية من سنها في الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها بلادنا؛
خامسا : قضايا أخرى
إن تركيز السياسة الجنائية على محاربة الجرائم المشار إليها سابقاً لا يعني إعفاء النيابة العامة من التعامل بصرامة مع باقي الجرائم، وإنما يهدف فقط إلى تحسيسكم بالأهمية التي يوليها الرأي العام لمعالجتها بالشكل المناسب، ولذلك فإنكم مطالبون بالتصدي لكل خرق للقانون، واتخاذ الإجراءات اللازمة بشأن مرتكبيه وفقا للنصوص التشريعية وبالطريقة التي يسمح لكم فيها بتقدير الأسلوب وكيفيات المعالجة الكفيلة بتحقيق إرادة المشرع؛
أخيراً : باقي مهام النيابة العامة
لئن كان تذكيرنا لكم بأولويات السياسة الجنائية، يعد تركيزاً على المهام الأساسية للنيابة العامة، فإنه لا يمكن أن يقلل من دور المؤسسة في تتبع القضايا المدنية والتجارية والأسرية ذات الصلة بالنظام العام. ولذلك نطلب منكم القيام بالإجراءات والتقدم بالمطالب والمستنتجات اللازمة في القضايا التي ينص القانون على تدخل النيابة العامة فيها إما بصفتها طرفاً أصليا أو طرفاً منضماً، وأن تحرصوا على أن تكون مستنتجاتكم مطابقة للقانون في الشكل والموضوع، وأن تتوخى الصالح العام بدون تحيز لطرف ضد طرف، وأن يكون مصدر اتخاذكم لمواقف مساندة لبعض أطراف الدعوى هو القانون ومبادئ العدالة والإنصاف وحماية المصالح العليا للدولة والمجتمع والمصالح الفضلى للأطفال والأسرة،
أو لحماية المقاولة وتوفير المناخ الملائم للأعمال والاستثمار.
وحفاظا على النظام العام الاقتصادي، فإني أدعوكم إلى تقديم ملتمسات في القضايا التجارية تروم مساعدة قضاة الحكم على إيجاد حلول مناسبة لفض المنازعات التجارية ذات الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية، لاسيما في قضايا صعوبات المقاولة، حيث يجب عليكم الحرص على المساهمة الفعالة في اختيار حلول كفيلة بالحفاظ على نشاط المقاولة والحفاظ على مناصب الشغل وحماية حقوق الدائنين وعلى تشجيع الاستثمار.
وإني إذ أدعوكم إلى تداول مضمون هذا المنشور مع مرؤوسيكم ووضع الترتيبات اللازمة لتفعيل مضمونه متقيدين بأحكام القانون، أطلب منكم إشعاري دورياً بالنتائج المحققة لتطبيقه وبالصعوبات التي قد تعترضكم في ذلك.
والســـــلام.

رئيس النيابة العامة

مَحمد عبد النباوي

عن موقع : فاس نيوز ميديا