احسان الفقيه تكتب … عن أردوغان و عن الديموقراطية (مقالة رأي)

هكذا تعامل أردوغان مع الديمقراطية..
===
“طلب الديمقراطية حق لا يمكن التنازل عنه، إن للإنسان الحق في أن يكون له رأي بشأن نفسه وعائلته ومدينته ووطنه، بل وكل شيء يهمه ويؤثر فيه، ومن يرجو هذا الحق الأسمى إنما ينبغي عليه الالتزام بدور أخلاقي ليس لنفسه فحسب، إنما للآخرين أيضاً”.

رجب طيّب أردوغان

في الوقت الذي نأى بعض الإسلاميين عن آليات الديمقراطية، باعتبارها مصادمة للعقيدة، نائين عن إدراك إمكانية التعاطي معها بما يتناسب مع الأطر الشرعية، رأينا في المقابل حُكّام العرب يقفون على رأي كل نبتة للديمقراطية بسيف السلطة المسلول، حتى لا تتنفس الشعوب الصعداء، وتنكسر قوائم العروش التي قامت على الديكتاتورية وتغييب الوعي.

فعندما لاحت بشائر الديمقراطية في الجزائر، وسُمح لجبهة الإنقاذ أن تسهم في الحياة السياسية، قال الشعب كلمته وعبّر عن هويته الإسلامية واختار جبهة الإنقاذ، في مفاجأة صادمة للنظام الجزائري، والذي بادر بنزع قناع الشفافية، وأمعن في القتل وجر البلاد إلى ويلات الصراع.

وفي مصر، عندما أجبرت ثورة يناير جنرالات الجيش على احترام الديمقراطية، قال الشعب كلمته وانتخب أول رئيس مدني عبر انتخابات نزيهة لم تعهدها مصر، غير أنه كان ينتمي إلى تيّار إسلامي، وهو ما تتخوف منه أطراف عديدة في العالم العربي والغربي، فكان الانقلاب على الشرعية مصحوبا بإراقة الدماء عبر ألوان البطش والقمع والتنكيل.

*لكن العالم الإسلامي لم يعدم تجربة فريدة للديمقراطية، أشاد بها القاصي والداني، واستطاع بها أردوغان خدمة الفكرة الإسلامية وهوية الشعب التركي.

قالوا عن أردوغان عندما سعى إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أنه يسعى للتقارب مع الغرب والتزلّف له، وأنه صورة منقحة من أتاتورك العلماني.

لقد غفل هؤلاء عن سبب رئيس دفع أردوغان إلى السعي للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لقد رأى أردوغان ضرورة الدوران في فلك الديمقراطية الغربية لترويض جنرالات المؤسسة العسكرية الأتاتوركية التي دأبت على الانقلابات ضد كل ما له صبغة إسلامية من قريب أو بعيد.

فالديمقراطية الغربية ترفض بشدة تدخل العسكر في إدارة البلاد، وهو عين ما أراده أردوغان لتأمين مساره الإصلاحي والنهضوي من أن يكون هدفا لعبث الجنرالات.

ورغم أن ذلك الهدف لم يتحقق، إلا أن أردوغان سعى إلى تكريس الديمقراطية واحترام الحريات معتمدا على دعم الشعب التركي، وكانت كلمة السر في ذلك القبول الشعبي: رصيد الإنجازات، والوفاء بالوعود، والتباين الواضح الذي لمسه الشعب التركي في الانتعاشة الاقتصادية، فعبَّر الشعب عن ذلك القبول في الاستحقاقات الانتخابية المتتالية، والتي وقف فيها الشعب يساند زعيمه وحكومته.

كان الشعب التركي.. بحريته وكرامته وتاريخه وتراثه وحقه في أن يحيا حياة كريمة، هو لب الخطاب الرسمي، ومحور تحركات أردوغان وفريقه على أرض الواقع، بعيدا عن موارد الأحزاب الكرتونية، والتي قضت حياتها السياسية في المهاترات والتنظير وحياكة المؤامرات وفرض الأيديولوجيات، ولم تجعل ذلك الشعب وهمومه ومشاكله محور عملها السياسي.

“أنا لم أتغير ولكنني تطورت”

هذا ما صرح به أردوغان بعد أن صار زعيما تركيا، يردّ على من يرى التباين في مسلك أردوغان قبل وبعد إنشاء حزب العدالة والتنمية الذي كان نسخة منقحة خرجت من رحم حزب نجم الدين أربكان.

فالرجل لا يستطيع أحدٌ أن ينكر توجهاته الإسلامية غير أنه قد خبر جيدًا المسار السياسي للأحزاب الإسلامية في تركيا، واتجه لتفادي الصدام، والتعامل بقدر من البراجماتية وفق ما يقتضيه التعامل مع الواقع التركي الصعب.

الديمقراطية الغربية تقتضي أن ترتدي المرأة ما تشاء، أليس كذلك؟

بلى، وأردوغان رجلٌ يسعى لتحقيق الديمقراطية الغربية في بلاده، فلم لا نطبق الديمقراطية كما يطبقها الغرب (أو يراها بمعنى أدق)، وترتدي المرأة المسلمة حجابها؟ أليس ذلك من حقها؟ طالما لا نُجبر المتبرجة على ارتداء الحجاب، فلم نمنع المرأة من ارتداء الحجاب؟

بهذا المنطق تعامل أردوغان، وصفعَ العلمانيين بشعاراتهم هُم، وطوّع الديمقراطية لتحقيق مكسب كبير للمرأة التركية المسلمة.

ولذا لاحظنا أن الدعاية الانتخابية الأخيرة للعدالة والتنمية تضمّنت التركيز على إنجازات الحزب الحاكم في شأن المرأة وحجابها، عن طريق إصدار فيلم عن معركة الحجاب في تركيا.

أليست الديمقراطية تسمح للشعب بأن يرتبط بجذوره وتراثه؟ بلى، حتى ولو كانت إسلامية.

وهذا ما فعله أردوغان، الذي كرّس مشروعه على أساس ربط الشعب التركي بالتراث العثماني الذي قام على الهوية الإسلامية.

فقد أكد أردوغان على جذوره العثمانية عندما أعلن اعتزامه إدراج اللغة العثمانية في المدارس التركية كمادة إلزامية، وذلك تأكيدا على توصيات مجلس شورى التعليم الوطني في اجتماعه الـ19 في ديسمبر الماضي.

الرجل يسعى لذلك، لأنه سيُتيح للدارسين مطالعة ما كتبه علماء الدولة العثمانية في العلوم الإسلامية كالفقه والتفسير والحديث وغيرها، ويربط الماضي بالحاضر، وهو الأمر الذي قابله العلمانيون برفض شديد، باعتباره يهدد المبادئ العلمانية التي أرساها مصطفى كمال أتاتورك.

ولكنها الديمقراطية يا سادة، ألستم ديمقراطيين؟ تلك هي الديمقراطية التي تعبدون!!

ثم تأتي الانتخابات الأخيرة التي أخفق فيها الحزب عن الفوز بنسبة تُمكّنه من الإنفراد بتشكيل الحكومة، لكنها كانت مكسبا ضخما من منظور آخر.

فكانت نتائج الانتخابات شهادة عملية في أن حزب العدالة والتنمية الذي أسسه أردوغان ورفاقه، يحترم الديمقراطية، ويقبل بها مهما كانت النتائج، وكانت محل إشادة على مستوى العالم.

لقد أظهر هذا الاحترام للديمقراطية أن ذلك الحزب أمين على الشعب التركي، وسوف يكون ذلك مدعاة في القريب العاجل لمزيد من الالتفاف الشعبي حول أردوغان وفريقه، وإني لأرى بشائر تلوح في الأفق، من أن هناك انتخابات مبكرة، سوف يكون فيها الفوز المبين لصالح هذا الحزب، بعد أن أدركت شرائح في المجتمع التركي لم تدعمه، أنها قد أخطأت، وأسهمت في تعثّر العملية السياسية والمسار الإداري للدولة.
===
الكاتبة الاردنية التركية احسان الفقيه
كُتبت في جريدة الشرق عام ٢٠١٥

عن موقع : فاس نيوز ميديا