هكذا يجب التصدي للعصابات الإجرامية التي تحاول اختراق الأجهزة الرسمية .. الدولة و العنف المشروع



اختراق العصابات الإجرامية لأجهزة الدولة
الدكتور عبد الجبار شكري
أستاذ باحث في علم الاجتماع وعلم النفس
باحث مشارك في مختبر الأبحاث والدراسات
بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة

أود أن أشير في البداية أن أي تجمع سياسي لا يمكنه أن يرقى إلى مؤسسة الدولة إلا عندما يعمل ويضمن حماية ذاته وحماية المجتمع من كل الأخطار الداخلية والخارجية ، والدولة بهذا المعنى تؤمن نفسها وتؤمن المجتمع لهذا يقول ” ماكس فيبر(( تقوم كل دولة العنف … لولاه لاختفى مفهوم الدولة ، ولما بقي إلا ما نطلق عليه الفوضى … يجب أن نتصور الدولة المعاصرة كتجمع بشري يطالب في حدود مجال ترابي معين بحقه في احتكار استخدام العنف المادي المشروع وذلك لفائدته … تعتبر الدولة إذن المصدر الوحيد “للحق” في ممارسة العنف)).ولهذا فهذه القوانين لا يمكن احترامها من طرف الناس في أي دولة إلا بواسطة جهاز القضاء ، كما أن أمن المجتمع الداخلي والخارجي في أية دولة لا يتم إلا بواسطة الجهاز العسكري والاستخبارات والأمن الوطني ، فإذا لم تقم هذه الأجهزة بوظيفتها القانونية والإدارية في شكل واجبات أخلاقية ووطنية ستعرض أمن المجتمع ومؤسساته فإذا تسرب الفساد بمختلف أشكاله إلى هذه الأجهزة ، فإن ذلك سلبا على أخلاقية المجتمع وتخليق الحياة العامة ، لأنه بذلك ستتم شرعنة الفساد ضدا على قوانين الدولة ، وحماة القانون هم أول منتهكيه.
أما أنواع اختراق الشبكات الإجرامية لأجهزة الأمنية، نجد ما يلي:
أولا – الحصول على معلومات سرية تخص أمن الدولة والمجتمع.
ثانيا – الحصول على معلومات سرية سواء حول شبكات الإرهاب و شبكات المتاجرة بالمخدرات و شبكات تهريب العملة الصعبة وشبكات الدعارة و شبكات الفساد السياسي وشبكات وسائط الرشوة وشبكات النصب والاحتيال وشبكات السطو والسرقة.
ثالثا الحصول على معلومات تخص أباطرة المخدرات والإرهابيين وأصحاب الدعارة واللصوص وأصحاب النصب والاحتيال وأصحاب الفساد الإداري والسياسي والأمني والقضائي.
رابعا – الحصول على معلومات سرية تخص عمليات مداهمة هؤلاء المجرمين بمختلف أشكالهم وتخصصاتهم.
خامسا – الحصول على معلومات تخص العتاد العسكري والاستراتيجيات والأنشطة العسكرية أو معلومات سياسية سرية أخرى.
إن كل هذه السلوكات الإجرامية تستهدف بالأساس أمن الدولة و أمن وسلامة المجتمع .
إن لهذه الشبكات الإجرامية قدرات فائقة في اختراق الأجهزة الأمنية ، وذلك من خلال استقطاب رجالات الأمن بمختلف تسلسلهم الإداري في تلك الأجهزة ، بحيث تتحكم في السيطرة عليهم من خلال ما لديها من إغراءات قوية من أموال والنفوذ للحصول على ترقية هؤلاء في السلم الإداري ، بالإضافة إلى تحقيق لديهم امتيازات أخرى كل حسب هواه ونقط ضعفه .
إن سلوكات هؤلاء الأفراد الذين يعملون على تسريب تلك المعلومات السرية إلى الشبكات الإجرامية ، هي في الواقع سلوكات جنائية تغيب فيها أي صفة من صفات المواطنة الحقة ، وهذا السلوكات الجنائية تكون وراءها مجموعة من الأسباب منها ماهو نفسي ومنها ما هو اجتماعي .
فبالنسبة للأسباب النفسية نجد ما يلي :
أولا نجد أن الأنا الأعلى في الجهاز النفسي لدى هؤلاء الأشخاص يكون ضعيفا في مكوناته ، كما أنه ضعيفا في سلطته ومراقبته لأنه في علاقته باللاشعور ، فغالبا ما يدفع اللاشعور برغباته الليبيدية والعدوانية الأنا إلى تحقيقها على أرض الواقع وفي هذه الحالة لا يخاف الأنا من عقاب الأنا الأعلى المتجلي في تأنيب الضمير ، ولا يعير أي قيمة لسلطته التأزيمية والقمعية.
ثانيا نجد هشاشة نفسية في الجهاز النفسي عند هؤلاء الأشخاص بسبب اضطراب العلاقة الوظيفية الاتزانية بين الأنساق الثلاثة للجهاز النفسي ( الهو والشعور والأنا الأعلى ) وفي علاقاتهم الوظيفية أيضا بالواقع وأصحاب هذه الهشاشة النفسية يسقطون بسهولة ضحية الإيحاءات والإغراءات والتخويف والترهيب الممارس من قبل الآخرين عليهم والذين يريدون معرفة معلومات سرية للحفاظ على مكانتهم ، فينقدون إليهم بسرعة دون مقاومة .
أما الأسباب الاجتماعية نجد ما يلي :
أولا ،إن هذه السلوكات الجنائية المتمثلة في تسريب الأسرار نجد أسبابها في اضطراب منظومة القيم وتناقضها مع مرجعيتها وأهدافها ، ما يجعل هؤلاء الأشخاص يتناقضون في سلوكاتهم مع الترسانة القانونية الملزمة لهم والمحددة لواجباتهم اتجاه الدولة والمجتمع ، فيؤدي هذا الاضطراب في هذه المنظومة إلى استصغار خطورة ما يقدمون عليه والاستهانة بذلك إلى درجة أنهم يعطون لأنفسهم تبريرات لما يقومون به .
ثانيا هناك سبب آخر مرتبط بالتنشئة الاجتماعية ، إذ أن هؤلاء لم يخضعوا لتنشئة اجتماعية تستهدف التربية على روح المواطنة والالتزام بالقوانين ليس باعتبارها اكراهات خارجية وإنما واجبات أخلاقية ، يجب أن تمارس اتجاه المواطن والمجتمع .

من هنا يجب على الدولة أن تتدخل للحد من ذلك فهناك مجموعة من الآليات والإجراءات يجب أن تقوم بها الدولة وهي كالتالي :
أولا عدم الوقوع في سوء اختيار الأفراد في هذه الأجهزة فالتوظيف في هذه الأجهزة يجب أن يتم بشكل انتقائي كبير ويخضع لاختبارات صارمة نفسية واجتماعية وأخلاقية خصوصا بالنسبة إلى الموظفين الذين سيختارون في الأجهزة الحساسة مثل الاستخبارات ، إذ أن استقامة السلوك في أجهزة الدولة هي المعيار وهي التي تضمن تحويل قوانين إكراهية إلى واجبات أخلاقية اتجاه الدولة والوطن .
ثانيا إيجاد أجهزة ومؤسسات فعالة وقوية للمراقبة ، مهمتها مراقبة سلوكات هؤلاء الأشخاص داخل عملهم وخارجهم ، ومراقبة علاقاتهم واتصالاتهم ورصد تأثيرات سلبية على سلوكاتهم من خلال إخضاعهم دائما إلى معالجة إكلينيكية سيكولوجية وسوسيولوجية تحدد مدى إمكانية استمرارهم في أداء مهمة تطبيق القانون والواجبات الأمنية نحو الوطن .
ثالثا يمكن أن نشير إلى غياب سلطة القانون والعقاب الصارم في حق هؤلاء ، ولهذا يجب أن تلجأ الدولة إلى صرامة القانون وهو الكفيل بردعهم وجعلهم يخافون في كل اللحظات من العقاب المنتظر في حالة تواطؤ أو مخالفة القوانين أو انتهاك سرية المعلومات بتسريبها إلى جهات التي ستستفيد منها في إيذاء المجتمع وهو ما يعبر عنه “جون لوك” في مقولته ب ((إذا أراد أحد انتهاك هذه القوانين فوق ما هو مسموح به وشرعي فإن تجرؤه ينبغي أن يقمع بواسطة الخوف من العقاب )) .
رابعا- يجب أن تتحمل الدولة مسؤوليتها لأنها طرف في هذه المخالفات ويجب عليها أن تبادر إلى تخليق الحياة العامة السياسية والاقتصادية من جهة ومن جهة أخرى أن تعمل على إصلاح كل الفساد المستشري في هذه الأجهزة وذلك من خلال تكوين لجن فعالة ونزيهة في التحقيق والمراقبة والمتابعة ، سواء في جاز القضاء أو الاستخبارات في أجهزة الأمن الوطني والعسكري ، فهذه الأجهزة الأساس الأول الذي تقوم عليه سلامة وأمن الدولة و المجتمع ، ولهذا يرى “ماكس فيبر” أن أي تجمع سياسي لا يمكنه أن يرقى إلى مستوى مؤسسات الدولة، إذا لم يمارس حقه المشروع ، الذي يتمثل في العنف القانوني المشروع لحماية المواطنين والمجتمع وأمن الدولة .

عن موقع : فاس نيوز ميديا