قالو عنها : فاس مدينة خرجت من الأساطير

فاس (المغرب) (زمان عربي) – فاس مدينة عريقة تتكئ على جبل شاهق يرتفع في عنان السماء غير مبال بسهول الأرض الخضراء التي تحيط به. نترك السماء الملبَّدة بالغيوم المطيرة خلفنا في مدينة مكناس ونستمر في طريقنا. حتى نصل بعد دقائق معدودة إلى مدينة “فاس” قلب المملكة المغربية.

على الفور أستقل إحدى سيارات الأجرة الحمراء الموجودة أمام موقف الحافلات، دون إضاعة الوقت، متجهًا إلى النزل الخاص بحسن. انطلقنا، وكلما قطعنا مسافة من الطريق أشعر بنفسي وكأنني وصلت إلى مدينة مثل ماتريوشكا الروسية الشهيرة (مدينة المتاهات). ما إن مررت من أسوارٍ حتى أجد نفسي أمام أسوارٍ أخرى، وأفاجأ بوجود مدن جديدة تظهر أمامي داخل المدن. وعندها أدركت أن هناك أكثر من مدينة متداخلة مع بعضها البعض: فاس البالية أو القديمة، وفاس الجديدة وفاس الحديثة. نعم إنني في مدينة تبدو وكأنها خرجت من أساطير الشرق القديم.
والآن تستقبلنا مدينة فاس العتيقة عند باب البوعنانية بلوحة فنية بديعة خاصة بالطابع الشرقي الذي تزين سماواته المآذن من بين الأحياء المكتظة بالمباني.
أخطو أولى خطواتي في مدينة الشرق الساحرة، وسط روائح أطباق “الطاجن” المغربية المعروفة في المنطقة، متجهًا نحو مدينة فاس البالية كما يقولون، أو القديمة كما تُعرف. ينتابني شعور وكأنني دخلت منزلا وليس مدينة.
أشعر وكأنني أتجول في “صالة” واسعة تكتسي باللون البني، والجدران والطرقات الضيقة من حولي كأنها أبواب الغرف المطلة على الصالة. وفي رأيي تستحق تلك المدينة أن تحصل على لقب “مدينة المتاهات”، كما تُعرف.
يقول حسن، صاحب النزل، إن المدينة القديمة تضم نحو 9 آلاف شارع، موضحًا أن العدد يزيد عن ذلك ولكنه لا يتذكره بالضبط. أتجول وسط تلك الشوارع والطرقات الضيقة العتيقة التي تمنحني شعورًا بالضياع والتوهان، بهدوئها وخلوها من المارة. أخرج من حارة إلى أخرى، ومن زقاق إلى آخر دون استخدام الخريطة، حتى أصل إلى طريق مسدود.
تلك المدينة العتيقة تُعرف بأنها أكبر مدينة في العالم لا تدخلها السيارات والمركبات الحديثة. وعندما أمعن النظر في تلك الطرقات والشوارع الضيقة العتيقة التي لا يمكن مقارنتها بأية مدينة أخرى حول العالم، أعترف بأن هذه المدينة تستحق الشهرة التي نالتها. إذ يبدأ مدخل المدينة من باب بوعنانية، حيث المحطة الأخيرة للسيارات.

رحلة حول المدينة فوق أسطح البنايات والبيوت!!

من الخصائص التي تميز مدن أساطير الشرق، هي إمكانية التجول في المدينة من خلال أسقف البيوت والأبنية دون أن تخطو قدمًا واحدة على الأرض. هذه هي مدينة فاس البالية.
والآن في طريقي إلى جامع مولاي إدريس الذي يحظى بإقبال كبير من قبل أهالي المدينة والزوار. تقف وراء هذا الجامع الذي يحمل اسم مؤسس المدينة “إدريس الثاني”، قصة مثيرة للغاية.
عُثر على جثمان إدريس الثاني مؤسس المدينة، والذي حكمها في القرن التاسع عشر، في هذا المكان بعد 5 قرون، دون أن يفسد أو يطرأ عليه أي تغيير. وسلَّم أهالي المدينة بأن هذا الجثمان، يخص إدريس الثاني وقرروا إنشاء ضريح له بالقرب من المكان.
يمتلئ هذا المكان اليوم بأهالي المدينة القادمين للصلاة، بينما تحول صحن الجامع والأروقة الخارجية له إلى مكان لاستراحة الزوار والمارة من المدينة.
نجد هنا أناسا من مختلف الأعمار، نجد الأمهات اللاتي جئن إلى الجامع بصحبة أطفالهن، والرجال الذين يتبادلون أطراف الحديث مع بعضهم البعض، والفتيات اللاتي يملأن الماء من النافورة، بالإضافة إلى كبار السن الذين يتوضأون استعدادًا للصلاة.
وبينما كنت أراقب هذا المشهد الفريد، جلس إلى جانبي رجل عجوز في العقد السابع من عمره، يرتدي جلبابا أبيض. وإذا به يقول لي “مرحبا” باللغة التركية. وأوضح أنه يعرف بعض الكلمات التركية، ثم يبدأ في حديثه معي باللغة العربية، حاله كحال الكثير من أهالي المدينة العتيقة الذين يحاولون الحديث معي عندما يعرفون أنني قادم من تركيا. وأخيرًا يختتم حديثه معي بعدد من الأدعية.

قرطبة في مقابل فاس

كانت مدينة قرطبة في الأندلس، على الجانب الآخر من مضيق جبل طارق، في حقبة من الحقب، واحدة من أشهر مراكز الثقافة على مستوى العالم. وكانت مدينة قرطبة من ناحية وفاس من ناحية أخرى تتنافسان في جذب المهاجرين من جميع أنحاء العالم.
لم يمض الكثير من الوقت بعد إقامة المدينة، حتى تم تأسيس أول جامعة في التاريخ في الأجزاء التي سكنها المواطنون القادمون من مدينة القيروان. إنها جامعة القرويين، نسبة إلى مدينة القيروان. ويوما بعد يوم، تمكنت الجامعة من أن تحجز مكانتها بين المؤسسات الدينية والسياسية، حتى أصبحت المملكة المغربية تحتضن واحدة من أهم وأرقى الكليات والمدارس العلمية.
هذا الجامع التاريخي لا يزال أحد أهم المراكز الثقافية والتاريخية التي تحتويها مدينة فاس اليوم. أجلس الآن في جامع القرويين، وأشاهد ذلك المسجد ذي الألف عمود وعمود، وأمعن النظر في تفاصيله المعمارية، ويخطر ببالي جامع قرطبة الجميل. وفي رأيي أن هذين الجامعين اللذين يعلنان روح المنافسة فيما بينهما يبحثان عن أيام الخوالي وتاريخهما المنسي.

فاس كأنها نموذج مكبّر للسوق المغطى في إسطنبول

يمكن اعتبار هذه المدينة العتيقة نموذجا مكبّرا للسوق المغطى في إسطنبول. إذ نجد بها أكوام البهارات والتوابل في كل مكان، واللوحات الزيتية، والأوشحة، والشوارع المغطاة بالسجاد والموكيت، والهدايا ومحلات الفضة والمصوغات.
أستمر في جولتي داخل تلك المدينة العتيقة، لكن هذه المرة تصيبني دهشة بالغة عندما فوجئت بوجود نهير جار داخل المدينة البنية. فقد كان من الغريب رؤية نهير يجري وسط تلك المدينة القديمة التي تكتسي كلها باللون البني العتيق وتحاط بالمحال وأماكن العمل.
وبعد أن وجدت هذا المجرى المائي، أبحث عن مدبغة الجلود في مكان قريب من هنا. وهنا يصطحبني صديق من أهل المدينة، يُدعى مصطفى، ليدلني على مكان مدبغة الجلود القريبة من هنا.
مدينة المتاهات
ننتقل الآن من مدينة فاس البالية (القديمة) إلى مدينة فاس الجديدة التي تأسست في القرن الثالث عشر، إبان حكم القبائل المرينية. يوجد غير هاتين المدينتين مدينة ثالثة، هي مدينة فاس الحديثة، والتي تم تأسيسها في القرن العشرين.
أخرج من أبواب المدينة تاركًا خلفي الأسوار، حتى أصل إلى مدينة فاس الجديدة. تعتبر تلك المدينة التي تأسست في القرن الثالث عشر أقل حركة ونشاطا، وهي أصغر من حيث المساحة، مقارنة بمدينة فاس القديمة. يتوسط تلك المدينة ميدان واسع. بالتأكيد هذا الميدان ليس بحجم ساحة الفناء الموجودة بمدينة مراكش، ثالث أكبر مدن المملكة المغربية. يتميز هذا الميدان بالهدوء، وقلة الحركة، ونشاط مسرحي واضح للشباب.
نجد في قلب الميدان بائعا شابا، قد افترش الرصيف واضعًا بضائعه على غطاء أزرق اللون، وكرسي مغطى باللون البرتقالي، وكأنه يحاول تحويل منطقة عمله إلى لوحة فنية من الطبيعة المحيطة به. ويجلس في هدوء تام يتابع أسراب السنونو المحلقة في سماء المدينة.
والآن حان موعد غروب الشمس خلف أسوار المدينة البنية في هدوء وسلام. ليحل الظلام الدامس على شوارع وأزقَّة أشهر مدن هذا البلد المطل على المحيط الأطلسي. وتتحول المدينة وكأنها غرفة ضخمة مضاءة بمصباح ليلي.