فروق شاسعة بين مصطلح الديمقراطية كنظام سياسي (ممارسة) وبين مسمّى الكوكاكولا كمشروب صيفي (منعش)، ولكن ما يقربهما جنباً إلى جنب ويجعلهما أكثر تلازماً واتساقاً هو ذلك العامل المشترك والمهم للغاية والذي يتمثل في أنهما (صناعة أمريكية).
بدأت شركة كوكاكولا بإنتاجها للسوق الأمريكية منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن الماضي، داخل مصانع صغيرة وبسيطة، ولكن بفضل الدعاية المتواصلة بمختلف الأساليب وشتى الوسائل التي اعتُمدت طوال الوقت، وعدم ظهور أي منتجات مماثلة ومنافسة، ذاع صيتها واشتهرت بنكهتها، الأمر الذي سهّل انتشارها – كمشروب عالمي- ليس داخل الولايات المتحدة والدول المجاورة لها وحسب، ولكن تجاوزت في انتشارها إلى أكثر من 150 بلداً حول العالم.
لم يكن ذلك الانتشار بين البلدان سهلاً أو بلا ثمن، بل كان امتيازاً – تصريحاً- تمنحه الشركة الأمريكية (الأم) بعد تقديم الطلب اللازم والمستوفي للشروط الخاصة بها من قِبل الشركات التابعة لتلك الدول، وهي المتعلقة بالشق الربحي وبدرجةٍ أعلى الشق الخاص والذي يتعلق بحقوق براءة الاختراع وضمان عدم إحداث أيّة تغيرات على المقادير اللازمة لمكوّنات المنتج من مياه وسكر ومسحوق الكوك والغاز والوعاء أيضاً، وسواء كانت تلك التغيرات تتعلق بالإضافة أو النقصان، حتى وإن ضمنت نجاحات إضافية لصالحها، لأن مهمة إحداث أيّة تغيرات هي مسؤولية الشركة المنتجة فقط.
هكذا تسعى الولايات المتحدة جهدها إلى تصدير مادة الديمقراطية – باعتبارها دولة منتجة- بمكوناتها وبشروطها المختلفة وبالثمن الذي تريد، إلى خارج حدودها خاصةً إلى دول العالم الثالث، وبالأخص إلى الدول العربية – باعتبارها مستهلكة-، على أن الديمقراطية التي تريد خلعها على تلك الدول هي ليست الديمقراطية الحقيقية وإنما هي الديمقراطية الغوغائية التي تراها تصلح لها في كل زمان وأوان، والتي تضمن من خلالها وجود منطقة مضطربة وغير مستقرة، تغلب عليها مظاهر العنف والفساد وإلى ما لا نهاية، وبالتالي ستكون منطقة مريحة للغاية بشأن تنمية وتطوير مصالحها التكتيكية والاستراتيجية، ومن ناحيةٍ أخرى فرض هيمنتها على كامل المنطقة سياسياً واقتصادياً وأمنيّاً.
كانت هناك مشكلات كثيرة واجهتها الولايات المتحدة في سعيها لدفع ديمقراطيتها تلك إلى العالم العربي. لكنها وبعد قطعها المسافة الطويلة وبذلها جهودها المختلفة، فقد وصلت إلى مرحلة مهمة من شأنها أن تعتبر نفسها قد أنتجت وأنها ستحصد ما زرعت قريباً أو في الوقت المنظور.
لم تكن الولايات المتحدة راضيةً عن معظم أنظمة الحكم لدول أمريكا الجنوبية وإن كانت تلك الدول تنتهج النظام الديمقراطي من حيث نظام الحكم وتداول السلطة، وقد رأينا ما حصل في معظم تلك الدول من إثارة الفوضى وعدم الاستقرار، كانت الولايات المتحدة السبب الرئيس وراء زعزعتها وتدمير اقتصادها، لرغبتها في مشاهدة أنظمة حكم موالية.
دولة النمسا وهي دولة أوروبية ديموقراطية عضو في الأمم المتحدة وفي الاتحاد الأوروبي، كانت محل انتقاد وغضب شديدين حين ثارت كلٌ من الولايات المتحدة وإسرائيل بل دول أوروبية أيضاً عندما شارك حزب الحرية النمساوي في الائتلاف الحكومي عام 2000، بحجة أنّه يمثل النازية واتهامه بمعاداته للسامية، ولم تنتبه تلك الدول خاصةً الولايات المتحدة إلى مصطلح الديمقراطية لا مفهوماً ولا معنىً في ذلك الوقت. وحملت الاتحاد الأوروبي إلى فرض عقوبات شديدة على دولة النمسا حكومةً وشعباً، إلى حين خروج الحزب من السلطة.
في إيران أيضاً لم يرق للولايات المتحدة النظام الديمقراطي ودرجة الشفافية التي سادت انتخاباتها التشريعية والرئاسية منذ الإطاحة بالشاه “محمد رضا” في العام 1979، بل وتمنّت أن لا تسير إيران على الديمقراطية، لإبقائها إلى جانب مبررات أخرى، تحت وطأة الضغوطات الدولية المتمتلة في الإقصاء والكراهية.
أيضاً، حين نجحت حركة حماس بالفوز في الانتخابات التشريعية منذ مطلع العام 2006، قامت الولايات المتحدة ولم تقعد، وانقلبت إسرائيل على عقبيها، وقد طالبتا وبشدة بضرورة تبني السلطة الفلسطينية للديمقراطية وإجراء انتخابات حقيقية وشفافة، وقامتا من فورهما بالوعيد والتحريض لدى دول العالم وخاصة الغربي وجرّة إلى فرض حصارٍ كامل وشامل، ما يزال يعانيه القطاع إلى الأن. لأن الولايات المتحدة وتبعاً لمواصفات ديمقراطيتها التي تحفل بها والخاصة بالقطاع في تلك الفترة، تقضي بضرورة أن تكون حركة حماس داخل إطار الحكم وليس في رأس الحكم.
والأن بالنسبة لرويتها المشهد المصري وهي – غير بريئةً منه بأي حال- فقد ادّعت بادئ الأمر بأنه غُمّي عليها حيث لم تستطع بعد، من توصيف الإجراء الذي قام به الجيش المصري ضد المنتخب (ديمقراطياً) الرئيس “محمد مرسي” واكتفت فقط بالدعوة إلى إطلاق سراحه.
إذاً، فإن الديمقراطية التي تسعى الولايات المتحدة إلى حمل الدول والشعوب العربية على تطبيقها، هي ليست الديمقراطية الحقيقية التي بها حياة الشعوب وتقدّمها، وإنما هي الديمقراطية الملّونة، والمتفقة مع مصالحها ومن يدور بفلكها. لذلك فإن من المحتوم علينا جميعاً كعرب، الالتفات عن كل القيم والأفكار والمعتقدات الأمريكية المتعارضة مع ديمقراطيتنا الصحيحة التي تحتوي مفاهيمنا وأفكارنا ومعتقداتنا التي فُطرنا عليها ديناً ودنيا. وتتناسب ومصالحنا الآنيّة والمستقبلية على حدٍ سواء
عادل محمد عايش الأسطل