معلومٌ أن علاقات تاريخية متأصلة ربطت بين القطر المصري بفلسطين شعباً وقضية، بحكم وحدة الدين والعروبة والمصير المشترك. وقد تجلّت تلك العلاقات في العديد من الصور المشرّفة، والمشاهد المعبّرة التي تغدق بالتآزر والإيثار. فمن عصر الملكية المصرية ومروراً بعصر الثورة المصرية 1952، إلى ثورة 25 يناير 2011، كان الشعب الفلسطيني وقضيته في ماله وأرضه، تأخذ نصيباً فوق المتوقع في أجندة القيادات المصرية المتتالية، من حيث المدافعة بالرجال والعتاد ضد العدوان الأجنبي والإسرائيلي على فلسطين، وسياسياً بالنسبة للمواقف المساندة مباشرةً داخل أروقة الأمم المتحدة وبقية دول العالم الفاعلة الأخرى نصرةً للحقوق الفلسطينية المغتصبة.
منذ حالة الانقسام الفلسطينية في منتصف عام 2007، فقد عملت الإدارة المصرية في عهد الرئيس “حسني مبارك” جهدها، في تدارك الأحداث وإنهاء الانقسام، وساهم في فتح الحدود مع القطاع في أعقاب الهجوم الإسرائيلي على سفينة مرمرة التركية في عرض البحر أواخر عام 2010، التي كانت متجهة إلى القطاع لكسر الحصار الإسرائيلي المفروض عليه منذ فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية أوائل عام 2006، وتجددت المحاولات المصرية في هذا الصدد بعد سقوط “مبارك”، حيث بادرت الإدارة المصرية بقيادة الجيش إلى مواصلة محاولاتها في إنهاء الأزمة، حيث تمكنت من تحقيق اتفاق تصالحي بين الأطراف الفلسطينية خاصةً بين حركتي (فتح-حماس) في أبريل/نيسان 2011. كما تجددت المحاولات المصرية بشأن التسوية الفلسطينية فور تشكيل الحكومة المصرية برئاسة “هشام قنديل” من خلال قيامها برعاية الاجتماعات الفلسطينية المباشرة وغير المباشرة ومساهمتها بجهودها المختلفة للخروج من الأزمة. أيضاً فقد استقبلت الرئاسة المصرية الجديدة، الرئيس الفلسطيني “محمود عباس” في أعقاب قيام الجيش المصري بعزل الرئيس “محمد مرسي” عن منصبه، حيث تم بحث تطورات القضية الفلسطينية على المستويين الإقليمي والدولي، وبالضرورة لمتابعة الشأن الفلسطيني للوصول إلى اتفاق ينهي الانقسام ويوحّد صفوف الفلسطينيين.
الصور الفائتة، لا تنفي بالضرورة وجود بعض المنغصات التي كانت ظللت العلاقات المصرية-الفلسطينية، بين الفينة والأخرى وبين مرحلة وأخرى، فقد كانت بمثابة الجرح الذي يعوق مسيرة العلاقات الثنائية نحو العلاقات المثلى، التي من المفروض أن يتم تكريسها على طول المدى.
لقد شابت العلاقات المصرية الفلسطينية أحداث ومصاعب سياسية وأمنية مختلفة، كان لها تأثيرات مؤلمة خاصةً على الطرف الفلسطيني، كون الأضعف هو الذي يتحمل مسؤولية كل حادثة وإن لم يكن طرفاً مباشراً فيها.
منذ العهد الملكي المصري، واجهت العلاقات المصرية – الفلسطينية العديد من المشكلات منها ما يتصل باختلاف المواقف مع الحركات الوطنية الفلسطينية أنذاك، أو ما يتصل بالجماعات الإسلامية الأخرى بسبب ارتباطها بحركة الإخوان المسلمين المصرية لاعتبارها حركة متمرّدة وغير مرغوبٌ فيها. أيضاً ومنذ نجاح ثورة 23 يوليو 1952، شهدت العلاقات المزيد من التوترات خلال فترات متقطعة كان من بينها، أن مصر لا تريد أن ترى منازعاً لها بين العرب، وخاصةً في شأن القضية الفلسطينية وتكره بالمقابل رؤية الفلسطينيين يتجهون إلى منابر أخرى للمساعدة في حل قضيتهم ومشكلاتهم الأخرى المختلفة، كما أن تنامي معاداة حكم الرئيس “جمال عبدالناصر” لحركة الإخوان المسلمين المتصاعدة، أدّت فعلاً إلى زيادة حِدة الفتور باتجاه الفلسطينيين، بسبب أن قسماً منهم يعتبر امتداداً ظاهراً لها، وإن ظلت المبادئ من الصراع العربي- الصهيوني والقضية الفلسطينية ثابتة ولم تخضع لأي تغيير.
منذ جنوح الرئيس المصري “أنور السادات” نحو السلام مع إسرائيل، وقيامه بالتوقيع على اتفاق السلام المصري الإسرائيلي في العام 1979، فقد اعترى العلاقات –على نحوٍ مفاجئ- علامات الغضب والسخط الشديدين، حيث سادت المرحلة التالية نضوباً غير متوقعاً، ساهم في ذلك جبهة الصمود والتصدي التي نتجت عن خطوة “السادات” بعيداً عن المنظومة العربية واعتبارها خروجاً من غير المألوف صدوره عن الدولة المصرية، حيث شكلت تلك الأزمة فصلاً سيئاً بدرجةٍ أعلى بكثير من سابقاتها، وزاد من حِدة الأزمة، اتهام فلسطينيين بمسؤوليتهم عن القيام بأعمال عدائية ضد مصر، ومنها، حادثة مقتل “يوسف السباعي” في العاصمة القبرصية في أواخر العام 1979، بسبب ما قيل بأنه من أبرز المؤيدين لتوقيع المعاهدة وقيامه بالسفر إلى إسرائيل والدعوة إلى التطبيع معها.
منذ أن تولى الرئيس “مبارك” في أعقاب مقتل “السادات” بقيت العلاقات الثنائية كما هي، نتيجة نيّتة مواصلة ذات النهج السلمي نحو تطبيق خطة السلام الموقعة مع الجانب الإسرائيلي، إلى أن سقطت جبهة الصمود والتصدي تباعاً – لعدم صمودها- أمام الخلافات الصارمة فيما بينها، ومن ناحيةٍ أخرى الضغوطات الدولية والأمريكية عليها، حيث وجدت نفسها لا تعزل النظام المصري ذاته، بل هي التي وجدت نفسها أكثر عزلةً، وفي الجزء الأقصى من الزاوية. حيث عادت منظمة التحرير- بعد تقديم العذر وإبداء الأسف- إلى الأحضان المصرية. وبالتدريج لُمست بعض التفاهمات بشأن تجديد العلاقات فيما بينهما، وكان على أثرها أن ساهمت مصر بقوة في إنجاح المؤتمرات السلمية الخاصة بالقضية الفلسطينية (مؤتمر مدريد 1991– اتقاق أوسلو 1993)، حيث نتج عنهما عودة منظمة التحرير الفلسطينية إلى إجزاء من الضفة الغربية والقطاع، وإنهاء الصراع الفلسطيني المسلح مع إسرائيل.
في أعقاب فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية التي أجريت في بداية العام 2006، جابت أنحاء النظام في مصر هزّة عنيفة جعلتها تشق ثيابها، بسبب أنها الفرع الذي أثمر لصالح الإخوان المسلمين، وأن ذلك تشجيعاً صارخاً لهم، حيث بدا النكوص والإحجام المصريين، عن تأييد ما أسفرت عنها تلك الانتخابات، وكان ذلك كافياً لتوجيه اتهامات مباشرةً لهم ومشددة، من جانب حركة حماس، بأن القيادة المصرية تشارك في حملة المقاطعة الإسرائيلية على الفلسطينيين، وبدرجة أقوى على الحركة نفسها فيما بعد، وخاصةً في الفترة التي سيطرت فيها على أنحاء القطاع في منتصف عام 2007، من حيث منع تدفق الأموال والمواد اللازمة للحياة، وذلك بأحكام الإغلاق لمعبر رفح على الحدود مع القطاع.
زاد من تفحّل الأزمة الفوز التالي لجماعة الإخوان المسلمين وعلى المستويين التشريعي والرئاسي في مصر، الأمر الذي أدى إلى استهجان واستغراب أدّيا في النهاية، إلى امتعاض شرائح مهمة داخلية وعلى رأسها مؤسسة الجيش، من ذلك الفوز باعتباره انبعاثاً لقوى إسلامية (إخوانية) من القبور، وبالتالي تولّد الخشية من بناء الدولة الإسلامية المرتقبة، بالتلاقي مع حركة حماس في أقصى الشرق. لذلك فقد شنّ المناوئين على اختلافهم ضد الإخوان وامتداداتهم داخل القطاع المزيد من الحملات الشعواء ضد حركة حماس، وتحمّل الإعلام المصري (الرسمي) منذ البداية –عن رغبة وطيب خاطر- مهمة إقحام الحركة في كل المتاعب المصرية– سياسياً من حيث التلقين السياسي، وأمنياً حيث المساهمة في تقوية الإخوان عسكرياً رجالاً وعتاداً، ووصلت إلى حد المشاركة -على حد القول- في تنقيذ هجمات ضد المصريين والمحاولة أيضاً في إعداد مخططات عدوانية تهدف إلى زعزعة الأمن القومي للبلاد. حيث أبلى الإعلام بلاءً كبيراً في التأثير على فئات مصرية ضد الحركة بشكلٍ عام.
وبالرغم من أننا كنّا نتوقع إسدال الستار على تلك التقوّلات والمزاعم، وذلك في ضوء النفي المشدد من قِبل الحركة وبأنها تشُدّ ولا تهدّ بأي حال، إي إنجازٍ للشعب المصري، وأنها ليست طرفاً في أيّة متاعب أو أحداث. وأعلنت بالمقابل أنها معنية بالمساعدة من أجل الكشف عن الحقائق في الحوادث المدرجة. لكن قيام الجيش المصري بإجراءاته ضد نظام “مرسي” أوائل الشهر الفائت، لم يقطع الطريق أمام نوايا الحركة الحسنة فقط، وإنما علت صيحات بإلقاء المزيد من اللوم والمسؤولية ضد الحركة، لتعاونها المسبق مع أفراد الإخوان المصريين في الداخل المصري. وكانت سلطات الجيش قد أمرت منذ فترة بتحطيم الأنفاق الواصلة بين جهتي الحدود التي يتم خلالها إدخال المواد الغذائية والبترولية وغيرها، وأعلنت عن إغلاق معبر رفح وإلى إشعارٍ آخر، بالتزامن من فض اعتصامات ميداني رابعة العدوية ونهضة مصر.
على أيّة حال، فإن القيادة في مصر منذ الآن وخاصةً فيما إذا أخذت الأمور الأمنية بالتصاعد، في ضوء إصرار الإخوان ومؤيدو الرئيس المعزول بمواصلة سعيهم لاسترداد الشرعية، فإنها ستلجأ إلى تصديق مقولات، بأن في داخل القطاع قيادات إخوانية (مصرية)، مسؤولة عن إدارة عمليات عسكرية مكثفة داخل منطقة سيناء، فضلاً عن أن الجيش المصري استمع بكلتا أذنيه، لما يُقال بأنها تهديدات لسلفيين في القطاع ضد الجيش ومؤسسات مصرية عسكرية أخرى.
وفي حال تم الجري خلف مثل هذه المقولات، فإن الخشية آتية في الطريق (لا محالة) نحو تصعيد الأمور العسكرية، ليس ضد الحركة باعتبارها متهمة ومسؤولة عمن هم تحت سيطرتها فقط، وإنما لتطهير الدنيا من كل ما هو إخواني أو مؤيد أو متعاطف معهم. ومن جهةٍ أخرى، فإن حركة حماس وتحت هذه الضغوط في هذه الأثناء معرّضة أكثر وبجديّة، لإجبارها على السير نحو إعادة صياغة أيديولوجيتها التي تفتقر إلى المنفعة العملية لهذه المرحلة من حيث تخليها عن الحركة الأم أولاً، ولأجل الضغط باتجاه ترك مبادئها وتحديد مواقف مختلفة تحوز على الرضى الإسرائيلي والإعجاب الدولي، وذلك باتجاه التهيئة لقبول نتائج لعملية سياسية محتملة مع إسرائيل، بالرغم من توسيع دائرة الاستيطان (برضىً) أمريكي، وعدم رغبة (أكثرية) إسرائيلية بالعودة إلى حدود عام 1967 ثانياً. وقد لا يكون صدفةً قيام الرئيس الفلسطيني “أبومازن” بتكليف وفد من حركة فتح، لمقابلة حركة حماس من أجل انهاء الانقسام وإجراء الانتخابات
د. عادل محمد عايش الأسطل