الحب في زمن الحرب على سورية

ليس هناك ما يسلي الإنسان ويطيب خاطره أكتر من الحديث عن الحب ، إنه الكائن النوراني الذي يضيء القلب بلمساته الشاعرية حتى في عتمة المعاناة المظلمة و في أشد المحن.

 

يذكرنا التاريخ أن أصدق الرسائل النابضة بالعشق هي تلك التي خطها الجنود لحبيباتهن بينما هم قابعون في استراحة من معركة على الجبهات تحت نقع الخنادق بعد توقف هديل المدافع، لدلك فإن كانت الحرب هي الاختبار الواقعي لقدرة الإنسان على تجاوز الخوف من الموت أو كما قال سيجموند فرويد الحرب تحررنا من الأوهام ، فالحب في زمن الحرب يشكل بلا منازع البوتقة المصرة على البقاء ومن تم الإنتصار على العدو ودحره،

 

قد يبدو الأمر بالنسبة للبعض تجاوزا رومانسيا في مواجهة العدو لكن الفرضية تبدو أكتر واقعية إدا استدركنا ان القلوب التي تكره أو تخون لا يمكنها أن تنتصر في النهاية على عدوها مهما صغر شأنه، لأنها تحتقر الحياة وتقدم حبا زائفا وخبيتا لأنصارها، وجرت العادة في الحرب أن الوحدات اليائسة لا تكون لها فرصة للانتصار كتلك المتوفرة للوحدات المصرة على الحياة .

في البولتافا وهي من أروع القصائد التي ألفها ألكسندر بوشكين سنة 1828 في زمن الحرب أو النضال الوطني الذي خاضه بطرس الأكبر وقادة جيوشه ضد ملك السويد شارل الثاني عشر، الذي أتى بجحافله الجرارة إلى روسيا غازياً مدمراً، في وقت كانت الصراعات داخل روسيا، مستعرة بحيث سهّلت للعدو عمله. قدم بوشكين من خلال قصيدته التي ستصبح فيما بعد نشيدا قوميا محفوظا عن ظهر قلب لدى الروسيين حكاية حب شديدة الرومنطيقية.

بطلة قصة الحب الرومنطيقية في «البولتافا» هي الصبية الحسناء ماريا، ابنة كوتشوباي، الذي يعمل في خدمة القيصر ويعتبر من مساعديه الأوفياء. والمشكلة هنا هي أن ماريا وقعت، من دون أي مبرر، في غرام القائد العجوز ماتزيبا، رئيس مقاتلي الكوزاك. ويصل بها هواها الغريب هذا، إلى حد الفرار من منزل أبيها لكي تعيش لدى حبيبها العجوز… وهنا يقرر كوتشوباي، وقد استبد به الغضب الشديد إزاء ما حدث، أن ينتقم من ماتزيبا ويخلص ابنته من هذا الغرام الذي يسيء إليها وإليه هو.

بيد أن ماتزيبا ولكي يتخلص من غريمه يكيد لكوتشوباي، إذ يتهمه بأنه يخون سيده القيصر ويتواطأ مع الأعداء السويديين ويتخابر معهم… وبهذا يسجنه في القلعة ويأمر جنوده بأن يسوموه آيات التعذيب… لكن ماتزيبا كان شريراً مرتين هنا، ذلك أنه هو نفسه الذي كان طوال ذلك الوقت، وفي خفية من عيون وأسماع الجميع ومن دون أن يثير ريبة أحد، يقيم اتصالات مع الأعداء بغية تسهيل انتصارهم على القيصر طامعاً في أن يكون له الحكم من بعده… ولكن الذي يحدث في خضم هذا كله هو أن ماتزيبا يتنبه فجأة إلى خطورة ما يقوم به، ويبدأ في داخله صراع عنيف، من المؤكد أن الفقرات التي تصفه في قصيدة بوشكين هي أقوى ما فيها، ولا سيما تلك الفقرات التي تصوّر لنا العجوز ماتزيبا وقد نهض من فراشه وسط الليل البهيم تطارده الأشباح و الهواجس ، ويروح متجولاً في حدائق القصر وقاعاته وقد استبد به القلق والحيرة، يفكر بما فعل وبما بقي عليه ليفعله… وذات لحظة خلال واحدة من تلك الجولات يحدث شيء ما يمزق القائد العاشق العجوز : إنها صرخة كوتشوباي المدوية الذي كان الجنود يعذبونه بتهمة الخيانة التي لم يقترفها قط في تلك اللحظة للمرة الأخيرة، قبل أن ينفذوا به حكم إعدام صدر في حقه . أما العاشقة الضالة الحسناء ماريا، والتي كانت أُخطرت بموعد تنفيذ الحكم بإعدام أبيها قبل دقائق فقط، فإنها أمام ذهولها تعجز عن إنقاذه، إذ يدهمها الوقت.

في تلك الأثناء تكون المعركة الكبيرة بين بطرس الأكبر وجيوش السويديين الغزاة بدأت، وهي المعركة المعروفة باسم «البولتافا» ..ويحدث خلال تلك المعركة أن يلحق القيصر الروسي بجيوش شارل الثاني عشر السويدي هزيمة ساحقة ترده على أعقابه. ويكون من آثار ذلك أن يضطر العجوز الخائن ماتزيبا إلى الهرب بدوره: لكنه قبل رحيله، يجد نفسه فجأة في مواجهة ماريا، التي تلتقيه في تنايا الرواية الشعرية للمرة الأخيرة، في مشهد يحمل عند بدايته قدراً كبيراً من الالتباس الخلاق: فهل أصيبت ماريا بالجنون، أم أنها لا تزال عاشقة متيمة لهذا القائد الخائن؟ أن بوشكين حرص هنا على ألا يضفي على هذا المشهد أي طابع واقعي، بل جعله أشبه بحلم خيالي نرى فيه ماريا وهي تتوسل إلى ماتزيبا أن يأخذها معه لكي تقاسمه أحزانه وبؤسه… وهنا فجأة، تسقط كل الأقنعة: ترى ماريا حبيبها ماتزيبا على حقيقته الصارخة التي كان فؤادها معميّاً عنها من قبل: تراه مجرد عجوز كريه ودموي… وهكذا تبتعد منه متراجعة وعلى وجهها ملامح ضارية فيما تنبعث من فمها ضحكة مجنونة.

هكذا وكوجه ماتزيبا العجوز الدموي تبدو ملامح الحرية الزائفة المفترى عليها التي جعل منها أعداء سوريا مبررا لتدمير حضارتها بالغزو الهمجي فمتى ينكشف الوهم المهمة تحتاج إلى صمود والى إنتصار كبير.

قلم : هشام الصميعي