آسفي حَبْلى بالكنوز التاريخية برا وبحرا

لمدينة آسفي الجوهرة الراقدة على شواطئ المحيط الأطلسي، وَلع لا يُضاهى بالشأن البحري قديمه وحديثه، خَبَرت آسفي البحر وأهواله، وفنونه وعلومه، كما كان السفر عبر البحر منذ القديم، مهنة للعديد من أبناء آسفي الذين تعلموا أصوله، وورثوها لأبنائهم، كما أفلحت المدينة في تحدي أمواج البحار، حيث اشتهر بها الربابنة والرياس الكبار، حتى أضحت عاصمة العالم في صيد السردين، مما جعلها تُغْري بلذائذ أسماكها جيراننا فجاؤوها محتلين.
و لآسفي ألف حكاية مع البحر، حفظ منها الزمان ما تيسر والكثير منها ضاع واندثر، ولمرسى  آسفي أدوار في الملاحة البحرية القديمة، حيث تزعمت حركة الإتصال بالعالم الخارجي منذ القديم. ذلك أن سكان آسفي لم يكونوا يعيشون في معزل عن حضارة الشعوب المجاورة وخاصة شعوب أوربا ومنطقة البحر المتوسط، بل كانت لهم صلات وعلاقات متعددة مع هذه الشعوب. وما زلنا حتى الآن نلاحظ تشابها في عدد كبير من عاداتهم، وتشابها بين جذور عدد من كلمات لغاتهم، ونجد هذه الظاهرة كذلك في المفردات الخاصة بالبحر. على أنه من الإنصاف القول أن محاولة كتابة التاريخ البحري لميناء آسفي، تصطدم بالعديد من الصعوبات، لعل أبرزها غياب أرشيف بحري محلي ووطني، يضم المؤلفات والوثائق ذات الصلة بالنشاط البحري بالمغرب، فالنصوص التي تعالج النشاط البحري لميناء آسفي عبر التاريخ غير موجودة، أو هي موزعة بين أرشيفات العديد من الدول الأوربية والإسلامية والإفريقية.
لقد لعب ميناء آسفي دورا كبيرا في تاريخ المغرب، على اعتبار أنه كان نقطة عبور أساسية للعديد من الشعوب والأجناس الباحثة عن موطئ قدم بالقارة الإفريقية، كما كانت آسفي معبرا أساسيا للمغامرين والباحثين عن المواد الأولية والأسواق التجارية، مما جعل سلاطين المغرب يهتمون به، لكون  موقع آسفي كان معروفا عند الفينيقيين، لأنه يضم أقدم ميناء افريقي على الساحل الأطلنتيكي، نظرا لوجوده في موقع يمكن لأي مركب قادم من البحر المتوسط، أن يكون ذا حظ وافر في الإندفاع تجاه خط  عرض المحيط الأطلسي. فمباشرة خارج آسفي يمر تيار الكناري الذي يهب من الشمال الشرقي في اتجاه الجنوب الغربي، حاملا كل ما يطفو على الماء ويدفع به تجاه القارة الإفريقية. وقد أشار المؤرخ الحميري إلى أهمية آسفي في الملاحة البحرية القديمة بقوله ( آسفي مرسى في أقصى المغرب وهو آخر مرسى تبلغه المراكب من الأندلس، إلى غاية القبلة وليس بعده للمراكب مَذْهب). إلا أن نقل قاعدة المُلك  قديما من مراكش إلى مكناس ثم فاس في أوائل عهد الدولة العلوية، أثّر على الحياة الإقتصادية والإجتماعية في آسفي، بشكل جعل نشاط الميناء يقل لفائدة موانئ الشمال، ورحيل الهيئة الدبلوماسية وبعض التجار والأعيان.
يقول الحسين بولقطيب في مقال له تحت عنوان ” المغرب والبحر خلال العصر الوسيط ”  أنه ” إذا كان حضور الصحراء في التطور الحضاري للمغرب قد حظي ولا يزال باهتمام الدارسين والباحثين، فإن دوري الجبل والبحر ظلا بمنأى عن السبر والتناول العميقين. فباستثناء قلة من الدراسات التي تناولت سيولة الحركة التجارية في بعض المدن المرفئية، لا نكاد نعثر على أعمال جادة تتيح فرصة توضيح مساهمة البحر في تخصيب الحياة السياسية والإجتماعية والذهنية للمغاربة عبر مختلف الحقب والعصور.. لقد ارتبط تاريخ المغرب منذ أقدم حقبه وعصوره بالبحر، ولهذا السبب بالذات، فإن أية قراءة لهذا التاريخ لا تستحضر العمق البحري للمغرب تعد ناقصة إن لم تكن غير ذات جدوى..”
وإذا كانت بعض المراسي والموانئ لها إسهامها الكبير في بناء بعض المدن، فكذلك الشأن لمرسى آسفي التي اضطلعت بأدوار بارزة في تاريخ المغرب لازالت حتى الآن نسيا منسيا. وكانت وزارة الثقافة قد أعلنت، في يوليوز 2013 عن اكتشاف موقع اركيولوجي في قاع البحر على عمق 10 أمتار، بالمنطقة المسماة “رأس تيسا” قرب المنطقة الصناعية القديمة بشاطئ آسفي، عبارة عن حطام سفينة محملة بعتاد حربي، مكون من مدافع حديدية وبرونزية ومجموعة من الكرات الحديدية تستعمل قنابل خلال القرن السادس عشر، يعود تاريخها للعهد السعدي. وهو ما يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن آسفي حَبْلى بالكنوز التاريخية برا وبحرا، وأن ما نجهله عن النشاط البحري لميناء آسفي قديما، أكبر بكثير مما نعلمه.
 وقد سبق للأستاذ محمد أبو طالب في عرض له بالملتقى الفكري الأول لآسفي سنة 1988 تحت عنوان ”  تحركات ابريطانية في ميناء آسفي ” أن تقدم باقتراحين في هذا الصدد: أولهما العمل على إنشاء معهد للدراسات البحرية بآسفي يكلف بمهمة وضع تاريخ الملاحة المغربية، وثانيها القيام بعمليات تنقيبية للبحث عن بقايا البواخر القديمة التي لم تتمكن من مغادرة ميناء آسفي، عسى أن يُسْفر ذلك عن توضيحات لجوانب وكنوز مغمورة من تاريخ آسفي والمغرب.
عبد الله النملي