بالرغم من الانشغال الأمريكي والإسرائيلي بمسألة توجيه ضربة عسكرية محتملة ضد النظام السوري (علناً) وعلى رؤوس الأشهاد، فقذ تواصلت (سرّاً) المفاوضات السياسية بين الإسرائيليين والفلسطينيين وعلى مدار الساعة.
هذه المرة، هي الأولى التي يتم إجراء هذه الجولة من المفاوضات في القدس منذ استئنافها أواخر يوليو/تموز الماضي. ولأول مرة أيضاً يشارك في عقدها العازل الأمريكي “مارتين إنديك” الذي يتوسط بين القطبين، حيث سمحت إسرائيل بحضوره ولمرةٍ واحدةٍ فقط، بسبب أنها لا تريد وساطة أمريكية وإنما تريدها حليفةً لها وحسب.
بالرغم من قول الراعي الأمريكي، بأن اللقاء كان جدياً وبنّاءً، إلاّ أنه لم يبدو كذلك، حيث انتهى كما العادة بدون إحراز أيّة تفاهمات، لكن ثمة منجزاً وحيداً – في نظر الأطراف، خاصة الولايات المتحدة على الأقل- وهو سيادة السرّية، بشأن تلك المحادثات، مساراتها، نمط سيرها، تفاصيلها، الخلافات بين الطرفين، وحتى مواعيدها أو أمكنة انعقادها، وأي ملف هو مقدم على ملفٍ آخر لدى كل من الإسرائيليين والفلسطينيين.
السريّة التي يبالغون في طرحها على المفاوضات، لم تستطع إخفاء المزيد من العلامات التي من خلالها أن تهيئ أمام أي إنسان الإمكانية لفهم سير العملية التفاوضية من غير جهد أو مشقة. حيث رؤى الجانب الفلسطيني عابس الوجه مرهق الجسد مغمض الفكّين، بعكس الجانب الإسرائيلي الذي حرص على إظهار قواطعه وأنيابه الأربعة معاً طوال الوقت وفي كل مكان. كما أن “إنديك” كان حاضراً ببدنه فقط وقد ترك عقله لدى القيادة الأمريكية بشأن متابعة الأسد.
لقد أعلن صراحةً الرئيس الفلسطيني “أبو مازن” بأن المحادثات لا تزال لم تصل الى المواضيع الجوهرية وأنها في المرحلة الأولى من جس النبض وعرض المواقف الأولية لكل طرف. وكشف د.”نبيل شعت” عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، أن جلسات المفاوضات لغاية الآن تبحث جداول الأعمال فقط، ولم يتم الخوض في بحث الملفات التي يجب الخوض فيها.
الجانب الفلسطيني معلومٌ عنه أنه يتوق للدخول مباشرة في الملفات المطروحة، بسبب أن ما يُزعجه هو أن الوقت ينفذ بسرعة ومن دون فائدة تُذكر. بينما الجانب الإسرائيلي يسرّه ضياع ذلك الوقت ومثله معه”، إذ يُمانع بشدّة تحقيق هذا المطلب ويحافظ على بقائه في إطار الحلم، ومن جهةٍ ثانية لم يكلّف نفسه بعرض أي شيء لغاية الآن رغم درجة الإلحاح الشديدة على مدار شهر ونصف منذ انطلاق المفاوضات بتحقيق قدرٍ من التقدم ولو لمجرّد إفساح المجال لاستمرارها. حيث اهتم الجانب الإسرائيلي بالمفاوضات، على أنها لن تتعدَّ الاستعراض العام للموضوعات التي سيجري التفاوض حولها ربما إلى مالا نهاية أو أن تتكون بيئة جديدة مواتية لتقديم تنازلات فلسطينية أخرى تفي بالمطلوبات الإسرائيلية، وأهمها في هذه المرحلة: موضوعي الحدود والأمن.
لقد أفرزت التكهنات بشأن جدوى المفاوضات، الكثير من الاشمئزاز والملل لدى السواد الأعظم من الشعب الفلسطيني، وشارف مسؤولين فلسطينيين كبار عن إعلانهم صراحةً عن فقد الأمل في التوصل إلى حلولٍ مع الإسرائيليين. وإذا كان الرئيس الفلسطيني “أبومازن” لا يزال مؤمناً بأن حلولاً ما في نهاية الطريق، فإن هناك من لا يتقدم على مثل ذلك الإيمان.
وإذا أعلن “شعت” عن أن من السابق لأوانه أن نحكم على نتيجة المفاوضات 100%، فإن هناك من تقدم بالحكم علانية على المفاوضات بأن نهايتها الفشل. بالتأكيد فإن هذا القول، ليس ملفتاً للنظر، لكثرة ما اعتدناه من مؤيدين ومعارضين للعملية السلمية، أو محبطين منها، ولكن الذي لفت الأنظار بشكلٍ غير اعتيادي، هو ما صرّح به أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية “ياسر عبدربه” الذي كان ليس من المؤيدين للعملية السلمية وحسب، بل ومن المنادين بضرورة التطبيع مع الدولة الإسرائيلية والاندماج في اقتصادها أيضاً. حيث أعلن ومن غير خجلٍ أو وجلٍ، بأن المفاوضات الجارية مع إسرائيل، هي مفاوضات عقيمة، حيث أنها لم تحقق تقدماً، وأن لا توقعات بشأن أي تقدم على الاطلاق، ما لم تكن هناك قوة ضغط هائلة أمريكية على غرار ما نراه الآن من دور وجهد أمريكي من أجل معالجة الأزمة السورية. أمّا البقاء في الإطار الحالي فهذا هو دوران في الفراغ، ولا يقود إلى أيّة نتائج. والذي لفت أكثر، هو استمراره على قناعه مماثلة لقناعته الأولى، في إمكانية وجود حلٍ ما، إذا ما كان هناك ضغط كافٍ من قِبل الولايات المتحدة على إسرائيل، وهو يعلم الآن وهو بكامل عافيته، بأن ذلك الضغط غير ممكن، فضلاً عن أنه غير موجود من الأصل ولن يكون مسموحاً له بالتواجد في هذه المرحلة بالذات ولا مستقبلاً أيضاً، فقط هو جعل أملاً بحرف (إلاّ) الاستثنائي، من باب العزاء ليس إلاّ، وهو يعلم أنه لا يُقدم عليه في مثل هذه الحالة إلاّ يائس. ولا أدري ماذا سيكون رد الصديق الوفي والشريك الكبير “يوسي بيلين” في صياغة وثيقة (جينيف) باعتبارها حلاً عادلاً للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، التي جرى التوقيع عليها في أول ديسمبر/كانون أول 2003، وتسجيلها في دائرة (الطابو) التابعة للأمم المتحدة، وما تلاها من اتفاقات وتفاهمات بشأن التمهيد لترويجها، بالرغم من عدم قبولها من قِبل الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.
كما سبق يدل دلالةً واضحة، بأنه حتى الذين كانوا طوال الفترة الماضية، يؤمنون إيماناً غير محدود بالسلام مع إسرائيل، حبِط لديهم هذا الإيمان، وتزعزعت الثقة عندهم إلى حد اليأس والقنوط. وبما أنه لم يكن بالإمكان إعطاء أو منح العذر للسيد “عبد ربّه” في تماهيه مع سبل السلام مع إسرائيل بطريقة متسرعة وغير مألوفة وأحياناً (طائشة)، فإنه ومنذ الآن وبعد أن- عصى- من الممكن إعطائه القليل من العذر في أنه أفاق من غيبوبته وكان أكثر وعياً لنوايا الطرف الإسرائيلي المقابل.
منذ انزلاق الفلسطينيين إلى منحدر السلام لم يقبضوا إلاّ القشور، ناهيكم عن إقدام إسرائيل على تكبيل أفواههم وتقييد حركنهم، إلى جانب غمرهم في شتى المشكلات السياسية والاقتصادية والمجتمعية أيضاً. بينما أفاد الجانب الإسرائيلي بطريقة وبأخرى، وتسنّى له تناول الحلوى بقدرٍ زائدٍ عن أسنانه، من خلال جني شروط السلام التابعة لصالحه وعدم اهتمامه بتنفيذ ما يتوجّب على إسرائيل أن تقوم بتقديمه من ناحية، والاستمرار في ممارسة النشاطات المعادية للفلسطينيين وفي بناء المستوطنات الحريديّة في الضفة الغربية والقدس الشرقية على أراضٍ يريد الفلسطينيون إقامة دولتهم عليها من ناحيةٍ أخرى.
ولعل “عبد ربّه” قد أدرك الآن أنه وعلى الرغم من تسامحه من غير حساب مع الإسرائيليين، ومن درجة التشديد الفلسطيني الرسمية، على المضي قُدماً في مسار المفاوضات على أمل التوصّل إلى حل، أدرك حقيقة مفادها أن قابل الجانب الاسرائيلي ذلك كله بتشدد آخر ولكن في عكس الاتجاه، وذلك بزيادة الصلف والصدود ربما إلى مائة ضعف من ناحية تأدية الحقوق الفلسطينية، ومن ناحيةٍ أخرى بالثبات على مواقفه لا سيما فيما يتعلق بطروحات تتعلق بيهودية الدولة وما يتعلق بها، حيث أكّد رئيس الوزراء “بنيامين نتانياهو” بأن السلام الذي يجب إرساؤه هو على أساس الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية وعلى أساس أمننا. هذا هو ما نحتاج اليه في نهاية الأمر”. كما أصرّ على تكريس سيطرة إسرائيل على نهر الأردن إضافةً إلى المطالبة بعودة بحث بعض الملفات والأمور المنجزة خلال المفاوضات السابقة من نقطة الصفر. بسبب أن الجانب الإسرائيلي لا يعترف بأيّة اتفاقيات سابقة سواء التي تمخّضت عن أوسلو وما جاء بخارطة الطريق، وما دعت إليه مبادرات إقليمية ودولية أيضاً. ولما سبق يتوجب على جميعنا تعلّم الدرس وأن لا نعود لتكرار أخطائنا السابقة، وليس “عبد ربّه” وحده
د. عادل محمد عايش الأسطل