نشير، في البداية، إلى أن تصنيف اليسار إلى تقليدي وغير تقليدي، يعود إلى الأخ (عفوا الرفيق) “محمد الساسي”؛ ورغم أن الأمر فيه نظر ويطرح إشكالية تحديد المفهوم ومسألة ضبط معايير التصنيف، فإننا نرى فيه قدرا غير قليل من اللباقة واللياقة الفكرية والتعبيرية، خصوصا إذا ما استحضرنا التصنيفات والتوصيفات القدحية التي يستعملها البعض لوصف ما يسميه “محمد الساسي” باليسار التقليدي، من قبيل اليسار الحكومي واليسار المخزني أو المتمخزن وغير ذلك من التعابير التي تحمل الكثير من حكم القيمة وتعبر عن مواقف رافضة لكل تقارب بين فصائل اليسار التقليدي وغير التقليدي، مما يحول دون إمكانية الحوار الذي قد يفضي إلى تنسيق المواقف والاتفاق على برنامج نضالي ولو في حده الأدنى. وفي مقابل ذلك، فاليسار التقليدي له، هو أيضا، تصنيفاته وتوصيفاته التي لا تقل حدة، بحيث يصف بعض فصائل اليسار غير التقليدي بالعدمية والتطرف، الخ (وإن كان هذا الأمر قد قل بشكل ملموس، إذ لم نعد نجده حاضرا في الخطاب الرسمي لليسار التقليدي). وهذا التنابز بالألقاب قد جعل من التنافر السمة البارزة في العلاقة بين مكونات اليسار، التي أصبحت شعوبا وقبائل، يزعم كل منها (أو على الأقل البعض منها)، وفي غياب تام لفضيلة التواضع، أفضليته على الآخرين، حتى وإن كان وضعه لا يتجاوز الحضور الرمزي؛ وبهذا، يصدق في حق أحزاب اليسار، مع وجود فارق كبير في الحضور والفعل والفعالية، قوله تعالى:”كل حزب بما لديهم فرحون” (وهذه، بالطبع، ليست خاصية يسارية؛ فالجماعات والحركات الإسلامية بأحزابها وجمعياتها، من معتدليها إلى متطرفيها، تعرف نفس التشتت ونفس التنابز بالألقاب).
إن وضع اليسار المغربي المتشرذم والمتأزم، يبعث على الإشفاق وعلى الحيرة أيضا: فرغم ضعفه ووهنه، تنشط همة جهات منه لتتفيه كل محاولات التجميع وتسفيهها، ما لم يكن ذلك يخدم مصالحها الضيقة؛ وفي مقابل الدعوات إلى التوحيد، تكثر الشروط المسبقة والإملاءات المتعالية والمواقف المتعجرفة، وهلم جرا!
مرة أخرى، أجد نفسي مضطرا للتذكير، من باب الاحتياط من الوقوع في أخطاء منهجية أو تاريخية أو في هفوات تحليلية، بأنني لست لا محللا سياسيا ولا مؤرخا للحقل السياسي المغربي؛ ولست لا دارسا ولا مُدرِّسا للعلوم السياسية أو القانونية أو الإنسانية أو الاجتماعية، بل ولا حتى متخصصا في تحليل الخطاب… أنا (وأعوذ بالله من الأنا) مجرد مناضل يحاول أن يفهم واقعه وواقع بلاده وما يعتمل فيها من تفاعلات بين مكوناتها السياسية المختلفة. ويهمنى وضع اليسار، من جهة، لكون الحزب الذي أنتمي إليه، هويته يسارية بحكم التاريخ وبحكم الواقع وبحكم مشروعه المجتمعي، أحب من أحب وكره من كره؛ ومن جهة أخرى، لكون الفكر المحافظ، بكل تلاوينه، وخاصة المتشبع منه بقيم الاستبداد (حتى وإن زكته صناديق الاقتراع)، أصبح يهدد المشروع الديمقراطي الحداثي الذي تطمح إلى تحقيقه مكونات اليسار، بالرغم من اختلافها حول بعض الجزئيات التي يمكن أن تعظُم أو تقِل حجما وقيمة، بحسب قدرة (أو عدم قدرة) هذا الطرف أو ذاك على استيعاب المتغيرات واستحضار شروط التحقيق والتحقق.
ولولا خوفي من أن أتهم بمعاداة المرأة والدفاع عن المجتمع الذكوري، لأضفت إلى العنوان أعلاه: “نبيلة منيب” نموذجا، خاصة وأن السبب المباشر لهذه المساهمة المتواضعة في النقاش السياسي (أو السياسوي، لا يهم) الدائر ببلادنا، هو حوراها الأخير مع موقع “لكم. كوم” وما أثاره من ردود أفعال ومن ردود على ردود، في استغلال سياسوي واضح، تارة باسم الدفاع عن النوع الاجتماعي، وتارة باسم الطهرانية السياسة، لكن، في تحريف مقصود للنقاش عن مواضعه، خاصة بعد أن دخلت جريدة “الاتحاد الاشتراكي” على الخط بافتتاحية في الموضوع.
ومن موقعي كمناضل ينتمي لما يمكن اعتباره، تجاوزا، يسارا تقليديا، وبالضبط إلى الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، فإن هذا النقاش يهمني ويثير فضولي. وهذا الاهتمام ليس طارئا و لا ظرفيا. فقد سبق لي، ولو عرضا أحيانا، أن عبرت عن موقفي الشخصي (ولا صفة لي رسمية للحديث باسم اليسار التقليدي) من اليسار “غير التقليدي” في مقالات متفرقة؛ كما أني أفردت مقالا لكل من الأستاذ “عبد الرحمان بن عمرو” بعنوان “وحدة اليسار بين المعيقات والمتطلبات : قراءة في موقف الأستاذ عبد الرحمان بنعمرو”، نشر في حلقتين(“الاتحاد الاشتراكي” ليومي 12 و 13 مارس 2009)، والأستاذ “محمد الساسي” بعنوان ” فصل المقال فيما بين «الخط النضالي الديمقراطي» و«الخط الانتخابي» من اتصال” (“الاتحاد الاشتراكي”، 20 يناير 2013)، خصصت القسم الثاني منه لمناقشة موقف “محمد الساسي” من نتائج المؤتمر الوطني التاسع للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
ونظرا لتشعب أبعاد الموضوع، واستحضارا لإكراهات المقالة الصحفية، وعملا بمقولة: “المناسبة شرط”، فقد قررنا الاكتفاء بتناول مصطلين كان لهما حضور لافت في حوار السيدة “منيب” مع الموقع الإليكتروني “لكم. كوم”؛ ويتعلق الأمر بكل من عبارة “الدستور الممنوح” وعبارة “الملكية البرلمانية”، لنستدل بالأولى على ما أسميناه بـ”التعبير المسكوك” وبالثانية على ما أسميناه بـ”الحلم الثوري المعلب”، مع ما يستلزم ذلك من شرح وتوضيح وتعليق، ولو في حدوده الدنيا. ونعتقد أن في العبارتين المختارتين ما يكفي للتدليل على النمطية في التفكير والمزايدة في التعبير.
النمطية والتعبير المسكوك
يُقصد بالعبارات المسكوكة تلك العبارات الثابتة التي لا يلحقها تغيير ولا يصيبها تحوير، رغم ما يطرأ على الأحوال من تقلبات وما يدخل على السياق الثقافي والسياسي والاجتماعي من تحولات، فيختلف الوضع كليا أو، على الأقل، جزئيا عما كان عليه الأمر يوم صيغت الفكرة واختيرت لها العبارة المناسبة فكريا وسياسيا. ويكفي المرء أن يستمع إلى بعض اليساريين أو أن يقرأ لهم، فيجد نفسه أمام خطاب لم يبارح أجواء السبعينات وما قبلها، وكأن التاريخ توقف عند تلك المرحلة، فتجمدت أحداثه ووقائعه؛ الشيء الذي يجعل من الشعار اليساري”التحليل الملموس للواقع الملموس” مجرد كلام لا مضمون حقيقي له على أرض الواقع. وحتى نحصر حديثنا في حوار الأمينة العامة للحزب الاشتراكي الموحد، كما أسلفنا، نشير إلى أنها استعملت، أكثر من مرة، عبارة الدستور الممنوح في حديثها عن دستور فاتح يوليوز 2011.
وقبل الإدلاء برأينا في الموضوع، نذكر بأن عبارة “الدستور الممنوح” استعملها حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في حق دستور 1962، وهو أول دستور بعد الاستقلال، عارضه الاتحاد بقوة. واستمر حزب القوات الشعبية (الاتحاد الوطني، ثم الاتحاد الاشتراكي بعد المؤتمر الاستثنائي لسنة 1975) على نفس الموقف من كل الدساتير التي تلته، إلى أن قرر التصويت بالإيجاب، لأول مرة في تاريخه، على دستور 1996، رغم أن هذا الدستور لا يختلف كثيرا، لا من حيث المضمون ولا من حيث الشكل، عن الدساتير السابقة؛ بل، ربما، فيه تراجع مقارنة مع دستور 1992؛ وهو ما يعني أن التصويت كان إشارة سياسية أكثر منه إقرارا بمضمون الوثيقة الدستورية، مما سيمهد للتناوب التوافقي لسنة 1998.
لن أخوض في الظروف التاريخية والسياسية لمختلف الدساتير السابقة عن دستور 2011؛ ولن أعرض للمعارك السياسية والنضالية التي انخرط فيها الاتحاد قيادة وقاعدة لمناهضة تلك الدساتير التي، من سماتها الأساسية، حرصها على توفير الشرعية للاستبداد والحكم الفردي. لكن، تجب الإشارة إلى أن الاتحاد سيشارك في أول انتخابات تشريعية (سنة 1963)، نظمت في ظل دستور 1962؛ وسيشارك في الانتخابات الجماعية لسنة 1976 والانتخابات التشريعية لسنة 1977، وذلك في ظل دستور 1972. ونفس الموقف سيكون له مع الاستحقاقات التي عرفتها البلاد في ظل دستور 1992.
أردنا أن نذكر بهذه المعطيات، لعل الذكرى تنفع المؤمنين (بجدلية «الخط النضالي الديمقراطي» و«الخط الانتخابي»). صحيح أن الديمقراطية ليست هي الانتخابات فقط؛ لكن هذه الأخيرة تكون إحدى آلياتها الأساسية. ونحن في الاتحاد الاشتراكي نعتز بمواقف حزبنا واختياراته التي ميزت، منذ البداية، بين شيئين مختلفين، لكنهما متكاملين، هما الإستراتيجية والتاكتيك أو الغاية والوسيلة؛ لكن، فيما يخص الديمقراطية، فهي الغاية والوسيلة معا، في ارتباط جدلي دائم. لقد جعل الاتحاد من الانتخابات فرصة للاتصال بالمواطنين ووسيلة للتربية على الديمقراطية التي تبقى هي الوسيلة المثلى لتحقيق مجتمع الحداثة والتسامح والانفتاح؛ وهي الأداة الضرورية لبناء دولة الحق والقانون وتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية؛ وبالتالي، فهي ليست بالاختيار السهل ولا بالسهلة المنال؛ ذلك أن الديمقراطية هي صيرورة (processus)، تتعزز إيجابياتها بالتراكمات القائمة على الممارسة والسلوك اليومي، وليست مجرد شعارات ومواقف. فاختيار النضال الديمقراطي الذي كرسه المؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سنة 1975، هو اختيار إستراتيجي؛ ولذلك، لم يكن الاتحاد، طيلة تاريخه النضالي، يقلل من أهمية أية واجهة من واجهات النضال، ومن بينها الانتخابات والنضال من داخل المؤسسات، على علاتها.
لقد أثبت الواقع (والتاريخ) وجاهة وصواب مواقف الاتحاد في هذا الباب. وهنا، نذكِّر بمواقف بعض أحزاب اليسار “غير التقليدي” التي لزمها وقت غير قليل لتقتنع بأهمية المشاركة في الانتخابات. فبعد أن قاطعت عدة تجارب انتخابية، كانت تكتفي فيها بتدبيج بيانات، تنتشي من خلالها بنسبة العزوف عن صناديق الاقتراع، زاعمة أن ذلك كان تجاوبا مع مواقفها ونداءاتها، قررت دخول غمار المنافسة الانتخابية والمشاركة في المؤسسات؛ لكن دخولها هذا المعترك لم يغير من الأمر شيئا، حتى وقد دخلتها في صيغة تحالف من ثلاثة أحزاب (تحالف اليسار في تجربتي 2007 و 2009 ): فلا نسبة العزوف قلت (بل، في الواقع، زادت) ولا هي استطاعت أن تجد لها موطئ قدم في المؤسسات المنتخبة؛ وقد عادت للمقاطعة بمناسبة الانتخابات التشريعية لـ 25 نونبر 2011، مما يسمح لنا بوصف مواقفها بالتأرجح بين المشاركة والمقاطعة، حتى لا نقول شيئا آخر. وهي، على كل، مواقف سياسية محترمة؛ لكل منها مبرراته ومشروعيته، ونسجلها كوقائع دون حكم قيمة.
أما عبارة “الدستور الممنوح”، فلي فيها رأي، أقله أنها متجاوزة واختزالية إلى أبعد الحدود وتنم عن قدر غير قليل من الجحود والجمود، كما سنحاول تبيان ذلك ببعض التفصيل. لقد أبرزنا في بعض الفقرات السابقة، ولو بإيجاز، وأحيانا بطريقة غير مباشرة، الظروف السياسية التي تمت فيها صياغة وتبني الدساتير السابقة، والتي تختلف كلية عن ظروف وشروط دستور فاتح يوليوز 2011.
لن ندخل في تفاصيل السياق التاريخي لهذا الدستور؛ فقد عشناه جميعا ولا زلنا، كل من موقعه؛ لكن لا بد أن نشير إلى أن الحراك الديمقراطي (أو العربي) هو الذي عجل بالإصلاحات الدستورية التي كانت تطالب بها القوى الديمقراطية دون أن تلقى أية استجابة (مذكرة الاتحاد الاشتراكي قبل الانتخابات الجماعية لسنة 2009، نموذجا). فالفضل في تحريك هذا الملف يرجع إلى حركة 20 فبراير (النسخة المغربية لما اصطلح على تسميته بالربيع العربي). صحيح أن الوثيقة الدستورية المصادق عليها في استفتاء شعبي يوم فاتح يوليوز 2011، لا تلبي طموح كل المكونات السياسية والاجتماعية؛ لكنها، بالمقارنة مع الدساتير السابقة، تشكل خطوة عملاقة إلى الأمام، ليس فقط من حيث المضمون، بل حتى من حيث الشكل. فهو أول دستور تسهر عليه كفاءات مغربية مائة في المائة. لذلك، أرى أن في صفة “ممنوح” التي تصر السيدة “منيب” على إلصاقها بالدستور الجديد، تحقيرا وإهانة للكفاءات الوطنية التي عملت على تجميع المقترحات وصياغة الوثيقة النهائية التي قدمت للاستفتاء؛ وفيها، أيضأ، تحقير وإهانة لكل الهيئات السياسية والنقابية والجمعوية (بما فيها الحقوقية التي لا تصرِّف المواقف الإيديولوجية باسم حقوق الإنسان) التي قدمت مذكرات وساهمت في الحوار الذي أجرته اللجنة المكلفة بالدستور مع مختلف المكونات السياسية والاجتماعية؛ هذا، من جهة، ومن جهة أخرى، فإن صفة “ممنوح” تدل على أن الأمينة العامة للحزب الاشتراكي الموحد لا زالت أسيرة خطاب سياسي وإيديولوجي، أنجز في سياق تاريخي مغاير؛ ذلك أن دستور 2011 يمكن أن يوصف بالملتبس أو الغامض أو المجهَض؛ بل، يمكن اتهامه بالتحايل، إذ في بعض الأحيان، يأخذ باليسرى ما يقدمه باليمنى؛ لكن صفة “ممنوح” لا تنطبق عليه إطلاقا، إلا إذا اعتبرنا أن المقاطعة تعطي الحق في إلغاء كل الآراء الأخرى وكل المجهودات، حتى وإن كانت سديدة وقيمة. وهنا، سنكون أمام مزايدة على الجميع وأمام القمة في الغرور وأمام فكر لا يأخذ من الديمقراطية إلا ما يرضي غروره، فيلتقي في ذلك، منطقيا، مع ذلك الفكر الذي لا تهمه الديمقراطية إلا كوسيلة للوصول إلى الحكم (ديمقراطية “الإخوان” كمثال) لممارسة الاستبداد .
عن الحلم الثوري المعلب
إننا نشاطر السيدة “منيب” رأيها وحلمها في الوصول إلى فصل حقيقي للسلط وإلى دولة الحق والقانون ودولة المؤسسات؛ كما نقاسهما الرأي في عسر البناء الديمقراطي وعدم سهولة تحقيق مطلب “الملكية البرلمانية” على أرض الواقع. ولذلك، فقد أسمينا هذا المطلب بالحلم الثوري المعلب، دون أن يكون لأي كلمة من هذه الكلمات أدنى معنى قدحي. فبالتعليب الحافظ، فكريا وسياسيا، سيبقي المطلب صالحا للاستعمال، خصوصا وأنه بدون تاريخ لنهاية الصلاحية؛ كما أن تعليبه غير مسجل لفائدة جهة معينة (دون ماركة مسجلة)، رغم أنه حلم اتحادي أصيل، عُبِّرَ من خلاله عن الأمل في الانتقال من ملكية مطلقة إلى ملكية برلمانية، يسود فيها الملك ولا يحكم (وقد أدى الأخ “محمد نوبير الأموي”، أطال الله في عمره، في مطلع التسعينات، بسبب هذه العبارة، سنتين من حريته، لكن بذريعة أخرى). ثم إن هذا الحلم ليس قابلا للاحتكار ولا للتفويت، وغير قابل للمصادرة. إنه حلم مشاع بين كل الحالمين بغد ديمقراطي أفضل.
لكن، ما لا نشاطر فيه السيدة الأمينة العامة، هو الرضا المفرط على الذات (دون أن يكون هناك، في الواقع، ما يبرر ذلك). لم نلمس من خلال حوارها مع “لكم”، رغم محاولة محاورها جرها إلى ذلك، أي استعداد لتقديم نقد ذاتي لتجربة اليسار “غير التقليدي” (وهي، في هذا، لا تختلف عن باقي القيادات اليسارية. لقد سجلنا نفس الملاحظة على “محمد الساسي” في المقال المشار إليه آنفا؛ ونفس الشيء بالنسبة لـ”عبد الرحمان بن عمرو”)، في حين لم تبخل عن الاتحاد بما تيسر لها من سهام النقد والانتقاد…بل وصل بها الأمر إلى الخوض في أموره الداخلية، ناهيك عن حديثها على ضعفه وفقدان مصداقيته.
لن نطلب منها أن تكون موضوعية معنا وتتطرق إلى الأسباب الحقيقية لضعفنا، ولن نذكرها بفضيلة النقد الذاتي في الحقل السياسي، وأساسا، عند اليساريين، رغم ما لهذين المبدأين من أهمية في تكوين رؤيا حقيقية عن الذات وعن الآخر. إن الاتحاد لا يتهرب من تبعات قراراته ولا يتنصل من المسئولية. والاتحاديات والاتحاديون يعرفون أسباب تراجع حزبهم؛ وقد تناول التقرير التقييمي (وهو، في جزء كبير منه، نقد ذاتي) الذي أنجزه الحزب بعد انتخابات 2007، مجمل الأخطاء التي وقع فيها الاتحاد، بعد أن انتقل من صفوف المعارضة إلى مسئولية تدبير الشأن العام؛ وقد نال قرار الاستمرار في المشاركة في تدبير الشأن العام، بعد أن تم التخلي عن المنهجية الديمقراطية وتعيين وزير أول “تقنوقراطي”، ما يكفي من التحليل والنقد.
ويمكن القول بأن كل الاتحاديات والاتحاديين واعون بتراجع حزبهم الذي انتقل من المرتبة الأولي إلى المرتبة الخامسة وغير راضين على هذا الوضع الذي لا يستحقه؛ لكنهم يدركون، في نفس الوقت، الأسباب الحقيقية لهذا التراجع أو ما يسميه البعض بالضعف (رغم أن مسألة الضعف والقوة تبقى نسبية وغير ثابتة؛ ثم إن هناك فرقا كبيرا بين من كان قويا وأصبح ضعيفا وبين من يحلم بالقوة، لكن لا قبل له بها)، والتي يمكن إرجاعها إلى عاملين أساسين: العامل الأول، هو المشاركة في تدبير الشأن العام لأزيد من عقد من الزمان؛ والعامل الثاني، يتمثل في الانشقاقات التي عرفها الحزب في مراحل مختلفة.
ففيما يخص العامل الأول، شيء عادي وطبيعي أن يتأثر الحزب سلبا بمشاركته في تدبير الشأن العام. وهذا يحدث في كل البلدان الديمقراطية أو التي هي في طور البناء الديمقراطي. أما فيما يخص ظاهرة الانشقاق، فلا نعتقد أن السيدة “منيب” تجهل ما يصيب الأم الولود من ضعف ووهن. ولا نحتاج أن نذكرها بأن عددا كبيرا من قياديي الحزب الذي ترأسه، خرجوا من رحم الاتحاد، من حركة 23 مارس إلى جمعية الوفاء للديمقراطية؛ كما لا نحتاج أن نشير إلى أن حلفاءها الذين ستكوِّن معهم فيدرالية، هم أبناء الاتحاد. ويسجل التاريخ أن كل حزب خرج من رحم الاتحاد، أعطى لنفسه الحق في الادعاء بأنه الحركة الاتحادية الأصيلة وأنه البديل عن الحزب الأم. لكن نفس التاريخ يسجل أن الشيء الوحيد الذي نجحت فيه هذه الأحزاب والفصائل هو إضعاف الاتحاد؛ وبهذا، قدمت هدية ثمينة وبالمجان إلى الحكم أو “المخزن” وإلى اليمين، الليبرالي منه والمحافظ. لكن، هل يملك قياديو هذه الأحزاب فضيلة الاعتراف بالخطأ؟ وهل يملك اليسار عير التقليدي الشجاعة ليعترف بدوره الكبير في إضعاف الاتحاد؟ كل المعطيات تدل على عكس ذلك… وتبقى المزايدة هي العملة الرائجة في الخطاب اليساري “غير التقليدي” تجاه الاتحاد الاشتراكي.
وبعد أن أصبح مطلب الملكية البرلمانية مشاعا بين الناس ولا تترتب عنه أية تبعات (بينما رفعُه في سنة 1978، كان مكلفا، إذ تمت محاصرة مقر جريدة “المحرر” ومنعها من الصدور بسبب البيان الختامي للمؤتمر المتضمن للمطلب المذكور؛ كما دشنت السلطات، بعد ذلك، حملة شرسة من القمع ضد المناضلين والمسئولين الاتحاديين)، فإن أحدهم قد استكثر علينا، في مقال كله خلط وتضليل وتحريف وكذب وافتراء، حتى التذكير بأن هذا المطلب منشؤه اتحادي. وما كنت لأعير له أي اهتمام، لضعفه البنيوي والفكري، لو لم يشر المعني بالأمر، في نهاية مقاله، إلى مسئوليته الحزبية: عضو في المجلس الوطني للحزب الاشتراكي الموحد، أي في هيئته التقريرية.
ونحن، حين نذكِّر بميلاد مطلب الملكية البرلمانية، لا نروم التباهي ولا نقصد الاستئثار بهذا الحلم؛ لكن، في نفس الوقت، نرفض أن يزايد علينا أحد فيما قدم من أجله الاتحاد تضحيات جسام؛ وإذا كنا لا نعطي لنفسنا الحق في تبخيس عمل الآخرين وتحقيره أو إنكاره، فإننا لا نقبل أن يتطاول على تاريخنا وحاضرنا أحد. فأن يصل الأمر بالسيد “محمد صلحيوي”، صاحب المقال والمسئولية المشار إليهما في الفقرة السابقة، إلى درجة نفي الانتماء إلى اليسار عن حزب القوات الشعبية، فهذا وحده كاف كدليل، ليس على بؤس الخطاب السياسي والهزال الفكري فقط ، بل وأيضا على ما حدث من متغيرات في القيم وفي المفاهيم.
وسوف أكتفي بتقديم نموذج واحد، ما دام الأمر مرتبطا بما نحن بصدده، أي المكية البرلمانية. لقد سمح المعني بالأمر لنفسه، في مقاله المنشور في موقع “لكم. كوم” بعنوان “الاتحاد الاشتراكي وأزمة التموقع داخل الحقل السياسي” (31 غشت 2013)، باقتلاع مجموعة من العبارات، بهدف الخلط والتضليل، من سياقها النصي والتاريخي، ليدعي بأن وثيقة المؤتمر الوطني التاسع للحزب تقدم إجابات متعددة لمطلب الملكية البرلمانية، جاهلا أو متجاهلا ما تقدمه اللغة من إمكانات تعبيرية لقول نفس الفكرة؛ كما أنه سكت، جهلا أو تجاهلا، عن كون مطلب الملكية البرلمانية قد أعيد التأيد عليه، بصيغة “في أفق”، في بيان المؤتمر الثامن الذي انعقد قبل حوالي خمس سنوات من ظهور حركة 20 فبراير؛ وإمعانا في الخلط والتضليل اعتبر أن هذه الصيغة (“في أفق الملكية البرلمانية”) وكل الصيغ المشابهة هي تعويم لمطلب حركة 20 فبراير.
في الواقع، أفهم وأتفهم صعوبة أن يفهم بعض الناس ما لبعض الكلمات أو بعض العبارات من قدرة على فتح التفكير على أفق أرحب وأسع. فعبارة “في أفق” هي تعبير، قبل 20 فبراير وبعد 20 فبراير، عن الوعي بأهمية المطلب وبصعوبة تحقيقه، ما لم تتوفر الشروط الضرورية لذلك، ومنها وجود أحزاب قوية، إذ لا ديمقراطية بدون أحزاب ولا وجود لأحزاب قوية، دون وجود تعددية حقيقية، ولا تعددية حقيقية في غياب تقاطب إيديولوجي واضح. فتحقيق مطلب المكية البرلمانية هو تتويج للبناء الديمقراطي. وفي ذلك، فليتنافس المتنافسون. لكن، حين نعلم أن الحكومة الحالية بقيادة حزب العدالة والتنمية وضعت دستور 2011 جانبا، وتشتغل بروح دستور 1996، ندرك أن تحقيق هذا الحلم ما زال في حاجة إلى نضال على جميع المستويات وبشتى الوسائل، رغم أن الدستور الحالي ينص في فصله الأول على أن “نظام الحكم بالمغرب نظام ملكية دستورية، ديمقراطية برلمانية واجتماعية”
خلاصة القول، يبدو لي، من خلال النداء الذي وجهته السيدة “منيب” إلى الاتحاديين للالتحاق بتحالفها ومن خلال مغازلة عضو المجلس الوطني لنفس الحزب للاتحاديات والاتحاديين، بعد أن قال في حق حزبهم ما لم يقله مالك في الخمر، أن “التاريخ يعيد نفسه” بالفعل. فاليسار غير التقليدي بنا تاريخه على الصراع، الخفي والعلني، مع الاتحاد الاشتراكي، وكأن التناقض الرئيسي يوجد بينه وبين بين الاتحاد. كما أنه، كان دائما، يعمل على الاستقطاب ليس من المجتمع، بل من داخل الاتحاد ومن هوامشه. وعشت، شخصيا، هذه التجربة مع بعض مناضلي منظمة العمل الديمقراطي الشعبي من داخل صفوف الكونفدرالية الديمقراطية للشغل بمكناس خلال عقد الثمانينيات.
وباعتباري، كاتحادي، معنيا بنداء السيدة “منيب”، ولقناعتي بأن لا أفضلية لأحد على أحد إلا بالوجود الفعلي والحقيقي (وليس المفترض) في الساحة وفي المجتمع وعلى كل الواجهات، فقد عن لي أن أذكِّر تحالف اليسار بانتخابات 2007، ليس من باب النتائج التي لا تستحق الذكر، بل من باب عدم قدرة قطبين من أقطاب اليسار (الرفيق “أحمد بنجلون”، الكاتب الوطني السابق لحزب الطليعة والرفيق “محمد الساسي”، عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي الموحد) على الاتفاق والتوافق على مرشح واحد، بسبب طموح (وهو مشروع، بالطبع) كل واحد منهما (ونتائجهما معروفة، لا داعي للتذكير بها)؛ وهذا يقوم دليلا على أن الذات تفسد كثيرا من الأشياء الجميلة. إذن، فلا يزايدنَّ علينا أحد باسم الطهرانية ونكران الذات…!!!
محمد انفي