وإذا تبين لنا أن الدول في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، تعاني من ازدواجية تتمثل في الجمع بين كونها دولا دينية، وعلمانية في نفس الوقت، فإننا نجد أنفسنا أمام سؤال الحوار المتمدن الذي يقول:
كيف ترى أفق، ومستقبل العلمانية في العالم العربي، في ظل حكومات دكتاتورية، ومستبدة؟
إننا نعرف جميعا، وكما أشرنا إلى ذلك في هذه المعالجة، أن الأنظمة العربية هي أنظمة استبدادية، وهذه الأنظمة الاستبدادية، هي أنظمة مدعية للعلمانية، التي نعرف أنها موجهة للاستهلاك الخارجي فقط، مما لا يمكن اعتباره إلا ممارسة يومية، لتضليل الجماهير الشعبية الكادحة، التي تمارس عليها الطبقات الحاكمة كافة أشكال الاستغلال المادي، والمعنوي.
وجمع الأنظمة العربية بين الاستبداد المستند، في غالبيته، إلى أدلجة الدين بصفة عامة، وإلى أدلجة الدين الإسلامي بصفة خاصة، وبين العلمانية، خلق ازدواجية في مسلكية الإنسان العربي الفردية، والجماعية، التي تتأرجح بين التقيد بما تقتضيه أدلجة الدين، وبين الانفتاح على الغرب، وعلى الأفكار العلمانية، التي يصعب تحقيقها على أرض الواقع، الذي يفتقر إلى الشروط المناسبة.
وحتى نناقش أفق العلمانية في العالم العربي، نرتب على سؤال الحوار المتمدن أسئلة فرعية، تساعدنا على مقاربة ذلك الأفق، واستشراف مجاله، حتى يتبين ماذا يجب عمله، لجعل العالم العربي يعتنق العلمانية، ويحتضنها، تعبيرا عن تحرره من أدلجة الدين، وانعتاقه من كل مظاهر التخلف الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والمدني، والسياسي، التي تشكل خميرة لانتشار أدلجة الدين الإسلامي بالخصوص.
ومن هذه الأسئلة المتفرعة عن سؤال الحوار المتمدن، نجد:
ما هو واقع أنظمة العالم العربي؟
ما هو واقع الشعوب العربية؟
ما هي الشروط التي جعلت الأنظمة، والشعوب معا، تحتضن أدلجة الدين الإسلامي، وتعتبر أن تلك الأدلجة، هي المخرج من هذا التخلف؟
ما المخرج من ازدواجية الأنظمة، والشعوب فيما يخص الموقف من العلمانية؟
ما العمل من أجل التخلص من الحكومات الديكتاتورية، والمستبدة؟
هل يمكن أن نعتبر أن مجرد قيام حكومات ديمقراطية وشعبية سيساعد على إشاعة العلمانية في الواقع؟
هل يؤدي ذلك إلى جعل الشعوب العربية شعوبا علمانية؟
هل تقف العلمانية في حال تحققها في العالم العربي، وراء تحقيق الحرية، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية؟
كيف نجعل هذه الشعوب تدعم احتضانها للعلمانية بترسيخ الحرية، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية؟
و بمقاربة أجوبة هذه الأسئلة، وغيرها مما يمكن طرحه، سنصوغ تصورا يروم أن يكون متكاملا، عن أفق، ومستقبل العلمانية في العالم العربي، في ظل الحكومات العربية الدكتاتورية، والمستبدة، لأنه عندما تنضج شروط تطور معين، لا بد أن يحصل ذلك التطور، حتى وإن كان معاقا. لأن الإعاقة لا توقف التطور، بقدر ما تشوهه، وازدواجية الأنظمة العربية، التي يترتب عنها ازدواجية مسلكيات الشعوب تجاه العلمانية، إنما هي تعبير عن التشويه الذي يلحق التطور بسبب الإعاقة. وإلا فإنه إما أن يكون المجتمع العربي بأنظمته المختلفة علمانيا، أو غير علماني، ودون بروز ما يسمى عند المحللين السياسيين التقليديين ب”الطريق الثالث”، الذي ورد وصفه بدقة في القرءان بقول الله “لا شرقية و لا غربية”.
و من المقاربات المحتملة للأجوبة المتعلقة بالأسئلة التي رتبناها على سؤال الحوار المتمدن نجد:
1) أن واقع الأنظمة في العالم العربي، هو واقع متخلف، وتخلفها يجعلها عاجزة أمام التحديات الكبرى، التي تطرح على جميع المستويات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، وخاصة في ظل عولمة اقتصاد السوق.
فهذه الأنظمة، لازالت تعتقد أنها تقليدية على مستوى الممارسة، وعلى مستوى الخطاب في نفس الوقت، هاجسها: التمسك بالمثال التقليدي، الذي عرفه الحكم العربي في العصور الوسطي، مما يجعل الدارس يكاد يجزم بأنها أنظمة تاريخية، أي أنها تتناسب مع التشكيلة الاقتصادية / الاجتماعية العبودية، أو الإقطاعية، بسبب سيادة الفكر الخرافي، والعبودي، والإقطاعي. ونظرا لالتماس شرعيتها من الغيب، بدل التماس تلك الشرعية من الشرعية من الشعوب العربية، التي تعاني من الظلم، والقهر، والاستبداد، والاستعباد. وعلى هذا الأساس، تضع برامجها الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، من أجل إعادة إنتاج نفس الهياكل القائمة. مما يجعل حركة التطور غير واردة في عرف هذه الأنظمة، ومما يجعل الجمود على جميع المستويات، متجسدا على أرض الواقع. وما ذلك إلا لرغبة هذه الأنظمة في تأبيد سيطرتها الطبقية.
وهذه الأنظمة من جهة أخرى، وبسبب تبعيتها للمؤسسات المالية الدولية، ونظرا لوقوعها تحت تأثير، وتسلط النظام الرأسمالي العالمي، نجد أنها تتمظهر بكافة أشكال الحداثة: الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، التي تلغي تقليديتها، ولا تنفي استبدادها، ولا تعرقل استغلالها للشعوب.
فهي تعتمد أحدث التقنيات، التي ابتدعها الإنسان في مجال الإنتاج، والخدمات، حتى تتمكن من تحقيق غايتين أساسيتين:
الغاية الأولى: تعميق السيطرة الطبقية للطبقة الحاكمة، وتأبيد تلك السيطرة، على جميع المستويات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، مستعملة في ذلك أحدث وسائل السيطرة.
و الغاية الثانية : تعميق الاستغلال المادي، والمعنوي، لكادحي الشعوب العربية، وطليعتها الطبقة العاملة، من أجل الزيادة في الرأسمال المتراكم، لدى الطبقات المستفيدة من الاستغلال المادي، والمعنوي، ومن جعل ذلك الرأسمال أكثر ارتباطا بالمؤسسات المالية الدولية، ورهن إشارة الشركات العابرة للقارات.
وهي التي تحاول الظهور بمظهر الحداثة السياسية، التي تتناسب مع الحداثة الاقتصادية المشوهة، والحداثة الاجتماعية المستنسخة، فتعمل على إجراء انتخابات تكون في معظم الحالات مزورة، تجسيدا لما يمكن أن تسميه بديمقراطية الواجهة، التي لا تخاطب الشعوب العربية، بقدر ما تتوجه بالخطاب إلى النظام الرأسمالي العالمي، وإلى مؤسساته المختلفة.
وفي ظل هذه الازدواجية في ممارسة الأنظمة العربية، نجد انبثاق الازدواجية في الرؤيا، التي تترجم من خلال اعتماد مجموعة من المصطلحات، من قبيل الأصالة، والمعاصرة، والتقليد، والتجديد، ما قبل الحداثة، وما بعد الحداثة، التي لا تزيد الشعوب العربية إلا تضليلا، حتى لا ترى تلك الشعوب بأم أعينها ما يمارس في حقها.
ولذلك لا نستغرب إذا وجدنا أن الأنظمة العربية تجمع بين النقيضين على المستوى النظري، فهي من جهة، أنظمة دينية، باعتبارها أنظمة مؤدلجة للدين الإسلامي، وهي من جهة أخرى، علمانية، من خلال توددها لعلمانية الغرب. ولكن مستلزمات العلمانية غير واردة عندها، لتصير، رغم ادعائها العلمانية، لا ديمقراطية، ولا شعبية، تتغذى، وتضاعف تغذيتها، على قهر الشعوب العربية، من المحيط إلى الخليج.
2) أن واقع الشعوب العربية، يعلن عن نفسه، من خلال غياب تنمية حقيقية، اقتصادية، واجتماعية، الأمر الذي يترتب عنه ارتفاع نسبة العاطلين عن العمل في صفوف الشباب بصفة عامة، وفي صفوف خريجي الجامعات، والمعاهد العليا، والمتوسطة، والمدارس، وغيرها. واستمرار ارتفاع نسبة الأمية، وتفاقم أزمة السكن، وانتشار الأمراض المختلفة، ومن خلال غياب ديمقراطية حقيقية، تستند إلى وجود دستور ديمقراطي، وإلى إجراء انتخابات حرة، ونزيهة، وفق قوانين انتخابية، تضمن تلك النزاهة، من أجل إيجاد مؤسسات تمثيلية حقيقية، بعيدا عن كل أشكال التزوير، ومن خلال غياب حكومة تلتزم بخدمة مصالح الشعب في كل بلد عربي على حدة.
وليث الأمر يقف عند هذه الحدود التي ذكرنا، بل يتجاوزها إلى تكريس الاستبداد، الذي يمهد الطريق أمام ممارسة كافة أشكال الاستغلال الهمجي: المادي، والمعنوي للشعوب العربية، التي لم تعد قادرة على مواجهة متطلبات الحياة الضرورية، التي تقتضي مضاعفة الجهود، التي لا تكفي وحدها، من أجل ضمان العيش الكريم لغالبية أفراد الشعب في كل بلد عربي.
ونحن عندما نتناول وضعية الشعوب العربية، لا يفوتنا أن نسجل: أنها تعاني من الاستغلال المزدوج، استغلال الرأسمال المحلي، واستغلال الرأسمالي العالمي. وهو ما يعني استنزاف المزيد من القدرات، والكفاءات التي تزخر بها الشعوب العربية، لتحقيق المزيد من الأرباح، والفوائد بالنسبة للطبقة الحاكمة، وجني المزيد من فوائد خدمة الدين الخارجي.
وإذا كان لابد من القول بعمق المعاناة، فإن هذا العمق، يترتب عنه عدم قيام الأحزاب، و المنظمات الجماهيرية: النقابية، والحقوقية، والثقافية، بدورها كاملا، لصالح الكادحين، بسبب الخيانات المترتبة عن ممارسة العمالة الطبقية لقيادات تلك الأحزاب ذات الطبيعة البورجوازية الصغرى. أو بسبب المنع الذي تتعرض له الأحزاب المناضلة. وهو ما يمكن أن نلخصه في قيام الأنظمة القائمة في العالم العربي، بمصادرة حق الشعوب العربية، من المحيط إلى الخليج، في تقرير مصيرها الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والمدني، والسياسي. وهذه المصادرة المطلقة لا تزيد الشعوب العربية إلا بؤسا. والطبقات الحاكمة في البلاد العربية، وحدها، هي التي تتمتع بكافة الخيرات المادية، والمعنوية.
وهذه الوضعية التي تعاني منها الشعوب العربية، هي التي تجعل كادحيها، يتساقطون أمام أعتاب مؤدلجي الدين الإسلامي بالخصوص، باعتبار تلك الأدلجة من معيقات تقدم، وتطور الشعوب، وأساسا من الأسس التي ينبني عليها الاستبداد العربي، الذي يجثم على صدور العباد في البلاد العربية.
ووضعية كهذه، لا تساهم أبدا في جعل الشعوب العربية تحتضن العلمانية، ولا أن تفكر فيها، بقدر ما تدفع بها إلى الرضوخ أمام سيادة أدلجة الدين الإسلامي، التي تزيد من تقوية السدود المانعة من نفاذ العلمانية، إلى صفوف الشعوب العربية، التي تفتقر إلى الحرية، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية.