بالرغم من مرور ما يقارب من ستة عقود على مجزرة مدينة خانيونس، التي جرت على أيدي العصابات – النظامية- الصهيونية، بحق أهلها المدنيين في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1956، فإن أحداً لن يستطع إلى الآن أو في المستقبل، نسيان تلك الفاجعة التي حلّت بأهل المدينة وكانت على حين غرّة. حيث راح ضحيتها أكثر من 500 فلسطيني في يومٍ واحدٍ، من أبناءها العزل وعلى اختلافهم، من الذين لا حول لهم ولا قوة، وبدون التفريق بين صغيرٍ أو كبير، ولا مواطن أو لاجئ، بعد أن تم تجميع الضحايا في الساحات العامة ورصّهم على الجدران ومن ثمّ الشروع في إطلاق النار عليهم بغزارة وبدم بارد حتى الموت. علاوةً على قيام الجنود الصهاينة باقتحام منازل المدينة، بحثاً عن الفلسطينيين الفدائيين والجنود المصريين وغيرهم، ويقومون بإطلاق النار على من بداخلها، حتى لم يبقَ في تلك الفترة السوداء بل والأشد سواداً على المدينة وأهلها، إلاً من كُتِبت له الحياة. ناهيكم عن العمليات العسكرية الهمجية الأخرى التي شملت مهاجمة كل ما يتحرك على الأرض ومهاجمة منشآت المدينة ومؤسساتها المختلفة من خلال المدفعية والطائرات، حيث اعتُبرت هذه المجزرة، واحدةً من أكبر وأكثر مذابح الاحتلال وحشيةً بحق الفلسطينيين والعرب المدنيين.
مجزرة خانيونس كانت أكثر اختلافاً عن الكثير من المذابح التي اقترفتها الصهيونية في أنحاء فلسطين، من دير ياسين إلى كفر قاسم إلى بيت دراس وغيرها، حيث تمت المجازر عادةً، في أوقات الليل من أجل الترهيب والترويع للسكان الفلسطينيين بهدف إجبارهم على تركهم لبيوتهم وممتلكاتهم ومقدراتهم. إذ لم يكن لتلك العصابات الصهيونية الإقدام على اقترافها لتلك الجريمة بهذه الصورة البشعة وفي وضح النهار، إلاّ بعد ما تعمقت الروح العدوانية الإجرامية في ذاتها أكثر، بعد نكساتها المتكررة على مدى أيام العدوان الدامي، حين لحقت بها خسائر جسيمة في أعداد مجرميها وعتادها، لم تكن متوقعةً لديها أو في الحسبان. حيث استبسل مقاومي المدينة وغيرهم من الأبطال من اللاجئين والمقاتلين العرب، في مواجهة الهجمة الصهيونية بإرادة وعقيدة وبأقل سلاحٍ وعتاد. اعتبرت حينها من قبيل المعجزة والعون الإلهي، حيث أفشلوا مقاصد العدوان منذ بدايته، وحالوا دون استقرار أقدام جنوده أكثر من بضعة أشهر، اضطرّوا بعدها إلى جرّ أذيال الهزيمة وانقلبوا خاسرين.
لم تمر ذكرى هذه الجريمة بسهولة، ولكن عزاؤنا أن هناك شهداء ارتقوا، وأن هناك ثماراً مُثبّتة لأصحابها على مدى الدهر، وهم الذين جاهدوا في سبيل الله حق جهاده والذين صبروا ما أصابهم في آباءهم وأولادهم وأزواجهم. وكما نحن لم ننس هذه المجزرة، فإن هناك في الجانب الصهيوني من لا يزال يذكرها وإلى ما بعد الآن أيضاً، حيث تحدثوا في الأثناء، واعترفوا بصلابة المواجهة والقتل معاً، وأعلنوا صراحةً بعد 57 عاماً من الكارثة، بأن قواتهم الصهيونية أقدمت على قتل مئات من اللاجئين والمقيمين في مدينة خانيونس، بسبب أن القوات الصهيونية المعتدية قوبلت بالمقاتلين المحليين – أي من أبناء المدينة- منذ أن كانت تقترب من حدودها، وتلا ذلك قتال عنيف بلغ درجات متقدّمة من جانبهم طوال الفترة، أعجزت القوات الصهيونية من التقدّم بسهولة، الأمر الذي أدّى إلى إقدامها على اقتراف المذبحة. وتم إعدام –على حد زعمهم – جميع العناصر (الإرهابية)، بهدف بسط السيطرة على المدينة والحيلولة دون استمرار المقاومة. لكن عِظم الجرم يكشف عن أغراضٍ أكبر من المعلنة بكثير ويترتب بعضها على عقيدة مواصلة بث الرعب لدى الفلسطينيين عموماً، ليس للّحظة تلك، وإنما لأجيال قادمة، لخدمة أغراضها المستقبلية المتمددة ناحية نماء وتطور واستمرارية الدولة.
لم تذعن إسرائيل في ذلك الوقت، إلى القوانين والأعراف الدولية، بل وذهبت في أثناء عدوانها بإلقاء المسؤولية على الرئيس “جمال عبد الناصر” واعتبرته ديكتاتوراً مصرياً يريد قيادة دول العالم العربي، من خلال الدفع بالشعوب العربية إلى قيامها بهبّة وطنية، لاستقلال القرار وللنيل من الشركاء الأجانب، على غرار أفعال “جواهر لال نهرو” في الهند و”كوامي نكروما” في دولة غانا- أول رئيس لغانا المستقلة- من خلال العمل على تعزيز الدعاية العربية ضد إسرائيل على أنها مجرد امتداد للقوى الأوروبية في الشرق الأوسط.
لقد انتهزت إسرائيل الفرصة عندما تلاقت أهداف الاستعمار الأوروبي مع أغراضها في أعقاب قيام حكومة ثورة 1952، بزعامة “جمال عبد الناصر” بتأميم شركة قناة السويس في يوليو/تموز 1956. حيث اتفقت كل من إنجلترا وفرنسا، مع إسرائيل على مؤامرة ضد الدولة المصرية، قامت القوات الصهيونية في إثرها بالبدء في حربها الثانية. بدءاً بمهاجمة القطاع وصولاً إلى الحدود المصرية في 29 أكتوبر 1956. وأنذرت الدولتان الاستعماريتان – حسب المؤامرة- كلا من مصر وإسرائيل بوقف القتال، على أن تتمركز قوات كل منهما على مسافة معيّنة من جانبي قناة السويس، وعندما رفضت مصر ذلك الإنذار، قامت القوات البريطانية والفرنسية بمهاجمة منطقة القناة بهدف عزل وتطويق الجيش المصري في صحراء سيناء. ونظراً لاشتداد التجاذبات السياسية والأمنية الدولية، اضطرت تلك الدول إلى إنهاء عدوانها، ومن ثمّ فشل الدولة الصهيونية من تحقيق أغراضها.
ولا شك، فإن العشر الأوائل من نوفمبر 1956، لم تكن بأي حال كغيرها من الأيام، ليس لدى مواطني مدينة خانيونس وحسب، بل لدى مواطني أكثر من ثلاثين مدينة وقرية فلسطينية من الذين هجّروا سابقاً منذ النكبة في العام 1948، ولجئوا إلى المدينة، وآخرين هم ضيوف وموظفين من دولٍ عربية من (مصر والأردن وسوريا والعراق) وغيرهم، فقد كانت مأساة تحمل كل المعاني ومجزرة إسرائيلية لا تقل عن مصيبة النكبة ذاتها التي حلّت بالفلسطينيين، والتي لم يمضِ عليها أكثر من ثمان سنوات، عندما افتعلتها العصابات الصهيونية لأجل بناء دولتها بقوة الإرهاب المسلح والمنقطع النظير.
لا تزال مشاهد المجزرة من قتل وتنكيل وإعدام التي شهدتها مدينة خان يونس – مدينة العلماء والشهداء- ماثلة أمام ذوي الضحايا، وأمام الذين نجوا منها، وقد أذهلهم الإجرام الصهيوني، حيث أنهم لا يزالون يروونها أمام الأولاد والأحفاد، كأضغاث أحلام أو كإحدى القصص الخيالية. وهي كذلك لا بد أن تكون شاخصة أيضاً أمام مقترفيها، إلى يومٍ ما، يُرغمون خلاله إلى دفع الثمن.
د. عادل محمد عايش الأسطل