في إطار متابعتنا للروايات الفائزة بجائزة البوكر العربي ، وبعد القوس لمحمد الأشعري ، دروز بلغراد لربيع جابر ، وعزازيل ليوسف زيدان نقف اليوم مع رواية أسالت الكثير من اللغط ،إنها رواية ” ترمي بشرر” للروائي السعودي يوسف الخال المتوجة سنة 2010. وهي من أكبر الروايات المتوجة حجما ب416 صفحة وعلى غرار عزازيل ذيلها عبده الخال بصور ووثائق توهم القارئ بواقعية الأحداث ….
تدور أحداث الرواية بمدية جدة السعودية وقد جر عليها هذا المكان وابلا من النقد اللاذع ، كان يكون أخف لو اختار لها السار فضاء مكانيا آخر، فقد عرفت جدة عبر تاريخها كمدينة وديعة ساكنة،وكبوابة المملكة أول وآخر ما يبقى في ذاكرة زائر السعودية ، صحيح ليست لها نفس المكانة الدينية كالتي لمكة المكرمة أو المدينة المنورة لكنها ظلت لا تختلف عن غيرها من المدن السعودية في وداعتها حتى جاءت رواية ترمي بشرر لتسبر الأغوار المسكوت عنها في هذه المدينة وتقلب في بعض صفحات ما هو مستور، الأغوار هنا لا تحيل على الأماكن المظلمة ،لأن مكان الأحداث تشع منه الأضواء تتلألأ فيه الأنوار،كما أن الأغوار لا تشير هنا للمناطق النائية المهمشة في البوادي والأرياف ، بل إلى قصور الواجهة في المدينة وفي أرقى أحيائها…
تتمسرح وقائع ” ترمي بشرر : بين “الحفرة ” (المدينة القديمة ) حيث كان الناس يعيشون الفقر الجهل والشذوذ بعد إغلاق الأبواب على المرأة فلم يبق أمام الرجل طفلا كان أو كهلا – في مجتمع الفحولة فيه ( شارة فخر لرجالات الحي ) ص47 – إلا الاختيار بين أن يكون “صيادا أو فريسة” فكتب على بطل الرواية “طارق فاضل”- كما كتب على عدد من أبناء جيله – الانحراف عن طريق الفضيلة والدخول مع أنداده في مراهنات “على الوصول إلى ظهر أي صبيّ تحوم حوله الرغبات” ويتمكن من كسب كل مراهناته إلا واحدة كانت ستنتهي به إلى ردهات السجون ( لؤي هو الخسارة الوحيدة التي خسرتها في مراهناتي الكثيرة وهو أيضا الشبهة الوحيدة التي كادت تدخلني للسجن حين تقدم أبو لؤي لمركز الشرطة متهما إياي بالتحرش بابنه ) ص 105. ومن يسلك هذا الطريق ينطبق عليه (كما تدين تدان ) فقد كاد فاضل يقع مرة ضحية اغتصاب من طرف أكبر الصيادين الذي اختار له اسم “القناص” يقول السارد: (” حينما كنت أعبر زقاق الكفت .. كنت أسير بذاك الزقاق منتظرا فريستي (ياسر مفت ) الذي حفزني لأن أسبقه بعد أن تلقى تهديدا مرا فاستجاب لرغبتي ، في ذهابي وإيابي داخل الزقاق ..وجدت ضوء كشاف يسلط على وجهي من خلفه كان صوت مصطفى القناص حادا يطالبني بخلع ملابسي… وقبل أن أمد يدي إليه (حجر) كانت شفرته مغروسة في ظهري ويده اليسرى تلتف حول عنقي صائحا : نفذ ما أمرتك وإلا قتلتك هنا “).لكن السارد اختار تخليصه من قبضة القناص بعد أن بعث في طريقه صديقه عيسى الرديني (كملاك هبط لنجدتي ) لقد أنقده عيسى الذي (اقترنت مجالسته بالمخمورين واللوطيين واللصوص الدائبين على سرقة أغنام ودجاج والدراجات النارية والهوائية لأهل الحي ) ص 149 في هذا الجو شب وترعرع طارق فاضل حيث اللواط ،زنا المحارم ، إيقاع الفاحشة بالحيوان والشذوذ …. وهو يشاهد التحول الكبير الذي تعرفة مدينة جدة بقدوم الأغنياء واستيلائهم على شاطئ المدينة وحرمان أطفال الحفرة من مرتع أحلامهم، وتحويل المكان إلى قصور مشيدة منيرة بالليل ،ظليلة ناعمة بالنهار ( كنا نتصور أن حوريات يتساقطن من السماء ليحدث قدومهن كل تلك الجلبة المنبعثة من داخل القصر بنشوة ) ص 26 هكذا نبت على حواف المدينة قصر حامت حوله وحول سكانه هالة من الأساطير (أقسم من دخله أنه رأى الأرض غائرةً تحتضن غرفاً زجاجيةً، تغوص لجوف البحر، وتحوم حولها المخلوقات البحرية…، قصرٌ أثث من كل بقاع العالم ..) لكثرة ما يروى عن القصر أطلق عليه سكان الحفرة ( الجنة ) وغدا طموح وأمنية كل واحد منهم دخول الجنة والعمل فيها عند السيد الكبير …
وأخيرا يتحقق حلم فاضل طارق ويلتحق بالقصر بعدما فر هاربا من حضن عشيقته تهاني إثر اكتشاف عائلتها لوجود غريب معها قي ليلة ليلاء انقطع فيها التيار الكهربائي وفي جو حميمي يقول ( وكزتها بعنف فصرخت ليستجيب لصرخاتها أبوها وإخوتها بطرق مضاعف على الباب )، قفز من النافذة المطلة على الشارع يحمل شرف من وثقت به ولم يجد أين يداري ندمه غير طريق قصر السيد الذي مهده له صديقه عيسى سيقضي فيه حوالي سبع سنوات كانت كافية لكشف حقيقة الجنة: فالسيد الذي يظهر في مسوح المحسنين وفي صورة الورع التقي (محسن يوزع تبرعاته للجمعيات الخيرية ودور العجزة والمسنين …) ص 143 هو في الأصل شبيه ب(قط متحفز ضاغط على بطن فرائسه بقدمه ناهشا ومقلبا أحشاءهم بمخالبه لا أحد يجرؤ حتى على الكلام في مجلسه بدون إذنه. هو الباحث عن الملذات سواء بالمقامرات البسيطة ولو على “عقال”، أو الزواج من فنانة، أو زنزانة التعذيب، أو لعبته الأخيرة سوق الأسهم واستخدامه للقضاء على أعدائه بشكل خاص والتفكه على خسائر عموم الناس ومقامرتهم بأموالهم/والقروض في سبيل الثراء السريع.)
يتظاهر للناس أنه مع الفقراء يساعدهم ( خرج متمهلا ومتعجبا من تلك الهيئات الرثة التي سكبت عليه الأدعية والأمنيات بالعمر المديد فقرر أن يقوم بنفسه بتوزيع الهبات والصدقات فتحلقوا عليه … وهو يتوسطهم وينثر أوراق مالية فوق الرؤوس ) لكنه سرعان ما يمل من هذا الدور ( ومع وصول ضجره إلى مداه كانت تقف سيارة مصلحة مكافحة التسول لتقوم بمهمتها وتعيد الهيبة لباحات القصر ) دون أن يمل من نثر المال على أجساد الراقصات بسخاء فما تجنيه راقصة أو عاهرة بالقصر يضاعف ما يتصدق به على كل أولئك الفقراء (جسد واحد من أجساد نساء القصر يتثنى في سهر ليلية تجب صاحبته مالاً يوقف أصوات المستجديات اللاتي نثرن دعواتهن بلا كلل أو ملل للحصول على تكلفة وجبة واحدة ) ص 175 وكان القصر يستقبل يوميا أفواجا جددا من تلك الأجساد ما دام للسيد 🙁 مندوبون متعددون للقيام بدور القوادين ، ولهذا الغرض انتشرت فرق في أرجاء المدينة كل فريق يتزعمه شاب طاغي الوسامة يستخدم وسامته لاصطياد الفتيات اليافعات ويغزل لهن شركا بكلمات عشق يتدربون عليها من قبل عاهرة …) ص 79
الرواية من بدايتها تعلن نسخ الصورة المرسومة عن جدة في المخيال العربي الإسلامي فقد افتتحت بعبارة ( خسئت روحي فانزلقت للإجرام بخطى واثقة ) منذ افتتاحها والبطل يسقط من رذيلة إلى أخرى فقد كان هو وغيره من أبناء الحفرة /جهنم كالفراشات تتوق للنور لتحترق على حوافه ، فما أن ولج القصر حتى وجد نفسه وسط دوامة يصعب الإفلات منها بسلام، فبدخوله القصر انضم لفئة الجلادين وهي فئة ( جمع أفرادها من مزابل الأحياء الشعبية واقتصرت مهمتها تقويض أي رجولة معتدة بنفسها حتى إذا أنهكها الاستنزاف تم ركنها في حظيرة القصر واستخدامها في مهمات حقيرة أخرى ) ص 40 . فقد أوكلت إليه مهمة اغتصاب منافسي السيد ( مهام كثيرة وقذرة أنجزتها على ظهور هؤلاء السادة هؤلاء الذين يقفون متوهجي السير والوجوه خارج القصر كانوا في لحظة ما يتوسلون لأن أكف عن حمحمتي فوق ظهورهم ) ص118 حاول في أول مهمة الردد في إتيان فريسته أمام السيد والخدم والكاميرا لكن جبروت السيد وتهديداته خاطبه السيد بقوله ( إن لم تفعل سيقوم هذان ( يشير إلى خادمين قويين ) بمعالجتك معالجة تدخلك في خانة العاهرات ) خلال تلك المهمة اكتشف الوجه الحقيقي للسيد وهو وجه ( محفوف بكل هذا البذخ الفاحش ، خلال خدمتي له تلقيت مئات الشتائم البذيئة النابية تفوق في بذاءتها بذاءة معاجم السوقة والمنحرفين .. إنه يحمل سفالة تفوق سفالة وبذاءة سليل قوادين ومنحرفين …) ص 132
حاولت الرواية تصوير قسوة سيد القصر وبذاءته وعدم تساهله مع من يقف في طريقه ولو كان أقرب الناس إليه . ليكتشف البطل من خلال تلك الأفعال أن (المال يجفف الأخلاق ) ويقتل القيم ( هناك (داخل القصر ) لا توجد حدود للمفاهيم والقيم، في كل حين ترتدي قيمة تتناسب مع اللحظة التي يمتلكها السيد ) ص 138 وحتى إذا مل مما هو ممكن بحث عما هو غريب وعجيب لتكسر اعتيادية المتعة، ليجد البطل نفسه غارقا مع أسياده حتى النخاع في الشذوذ والتعذيب القذر والشهوات الطافحة وغيرها من هذا ( السلوك الاجتماعي الذي ظهر كاستوجاه وسمعة تلاحق الفرد … هذا الشذوذ تحول إلى عمل ) ص 204
لقد بنيت الرواية على نوع من التقابل بين سكان الحفرة / أهل جهنم الفقراء الذين كانوا رغم فقرهم يعيشون على الصيد في حياة رتيبة لا يعكر صفوها سوى شيطنة بعض الأطفال في سهرات ليلية يفترسون فيها بعض الغلمان في زوايا شارع الكفت المظلم … وبين سكان القصر الذين تفنن ساكنوه في تنويع أساليب الفساد ، وطرق إتيان الفاحشة فالسيد صاحب القصر الذي يجمع بين المال والسلطة والقادر على سحق كل من يعترض سبيله اقترف كل المتع وكلما عبر إحداها وجد أن الحياة تضيق به، استمتع بتشويه خدمه ،واستمتع بشراء النكت وجلب الراقصات والمغنيات وتراهن على الزواج بالمشهورات من الفنانات والمذيعات واقتعد أكبر صالات وكانت مشاهدة إتيان خصومه آخر المبهجات التي وصل إليها ص138 إلى درجة أنه غدا يعاني من ( ممل إتيان الفواحش ) وللتخفيف من هذا الملل كان يخصص ( جائزة لمن يأتي بسلوى جديدة قلبه )
وعلى الرغم من تعدد شخصيات الرواية فإن شخصيات بعينها هي التي تتحكم في خيوط المتن الحكائي : فالأحداث تدور بالأساس بين ثلاث شخصيات رئيسية هي طارق فاضل بطل الرواية و غريمه (أسامة) في هوى (تهاني) بالإضافة إلى (عيسى) الذي كان السبب الرئيسي في دخول معطم السكان إلى جنة القصر؛ إما عرفانا أو ردّاً لجميل أو لتعذيبهم والتنكيل بهم. تدرجوا في الفاحشة من شارع الكفت إلى أرقى مستويات الفساد الاقتصادي وهم يؤدون ما يأمر به السيد بل إن آخر مهمة ستوكل إلى البطل فاضل طارق هي التكيل بصديقه عيسى ( انهرت فوق ظهر عيسى .. تاركا عيسى يلملم عظامه ويكفكف دموعه ….) قبل أن يخلص عليه السيد بطلقات نارية ويفرض على حارس القصر الاعتراف بقتله دفاعا عن القصر …
في المجتمع الذكوري لا بد أن تحضر الصورة النمطية للمرأة فكان للمرأة حضور متميز بالرواية وتعددت الشخصيات النسائية في الرواية وفاقت الأربعين امرأة ذكرت في الرواية معظمهن شخصيات سالبة لا حول ولا قوة لهن ،مفعول بهن سواء داخل القصر أو خارجه وتبقى أهمهن حضورا : (خيرية) عمة طارق بلسانها السليط، التي تفننت في سب وقذف طارق فاضل وأمه، وهي الوحيدة التي بقيت معه من الأسرة حاول التخلص منها بشى الوسائل فلم يخلصه من شتائمها إلى أن قطع لسانها ورمى به لقط جائع وتركها تموت وحيدة في أزبالها وقمامة ما يتصدق به عليها لكن عند عودته بعد طول غياب لم يجد لها أثرا …
على أن (تهاني) الحبيبة الأولى للبطل تبقى حاضرة في ثنايا الرواية من خلال الشعور بالذنب الذي ظل هاجسًا يؤرق ضمير طارق منذ أن سرق شرفها ، وةهي في الوقت ذاته مشروع زوجة أسامة الباحث عمن اغتصب حبيبته وكان سببا في قتلها ، فالأب لم يتقبل افتضاض شرف ابنتها وقرر ترحيلها إلى قرية أخرى وعاد – بعد أن قتلها – يدعي أنه وجد في أسرته من قبل الزواج بها وظل كاتما سره إلى لحظة احتضاره فأودع سره لزوجته قبل أن يسلم الروح لباريها التي خرجت هائمة مع ابن أختها أسامة للبحث عن قبر ابنتها ، ويظل أسامة مسكونا بالرغبة في الانتقام لحبيبته وابنة خالته دون أن يكتشف رغم شكوكه الكثيرة أن صديقه هو الفاعل .
ورغم كثرة نساء القصر تبقى (مرام) الساحرة الجميلة والفاتنة التي استطاعت أن تصبح محظية سيد القصر وذات قوة طاغية، تقضي على بعض الشخصيات الرئيسة، وتسقط في شباكها كل من تريد فكانت في الرواية كانتقام أو كعقاب للجميع! بدرجة مخيفة لا تستوعبها عين و لا عقل من رآها. رغم إغداق السيد عليها بدون سخاء رافقت طارق فاضل إلى عدد من الفنادق وفيلات صديقاتها من خلف عيون السيد التي لا تضيع صغيرة أو كبيرة .
وإلى جانب هؤلاء النسوة ذكرت في الرواية نساء كان لهن دور في تطور الأحداث كزوجة السيد الكبير (شهلا) وابنته (موضي)، إضافة إلى ام البطل وأخته …
بعد قراءة رواية ترمي بشرر لعبده الخال يُستخلص القارئ أنها استطاعت إماطة اللثام عن خبايا قذارة في النفس الإنسانية مما قاد الشخصيات إلى نهايات مأساوية الموت الإذلال الجنون… مما قد يدفع إلى التعاطف مع بعضها رغم قذارتها وبذاءتها ، ويبفى طارق فاضل الشخصية المركزية فهو السارد : راو وموضوع رواية ، ارتكب كل أنواع الفواحش وظل في ضلاله لم يتبصر القيم الدينية ولا فكر في الصلاة رغم أن أذان المؤن كان يفاجؤه مرارا وه ينتقم من منافسي السيد ، ولم يحرك فيه الضمير النائم إلا بقاؤه وحيدا بعد اختفاء خالته ، والبحث عن أخيه وأخته ورؤية أبنائهما
طرقت الرواية موضوعا بكرا وحاولت خلخلة القيم في موازاة خطية متخلخلة للسرد ، ذلك أن السرد لم يكن متسلسلا تصاعديا ، وإنما تضمن إرجاعيات وتكرارا لبعض الأحداث مما كان تحدث خلخلة للقارئ فيجد صعوبة في المسك بالخيط الرابط ، إضافة إلى الكثير من لأخطاء المطبعية كل ذلك وغيره جعل الرواية في حاجة إلى تنقيح سواء من حيث اللغة لتجاوز الأخطاء، أو إعادة ترتيب بعض الأحداث والوقائع لتكون الرواية في حبكة أجود… وأخيرا إن رواية ترمي بشرر رواية خانقة إباحية كاشفة لجزء من خبايا النفس وهي خبايا موجعة لما تنطوي عليه من تناقض صارخ بين مظهر يسوِّق لقيم مثالية وجوهر ينخره الفساد والرذيلة حتى النخاع