“لن أنسى ما حييت أنني كنت من بين الآلاف الذين أجزموا على أنهم رأوْا محمداً الخامس في القمر. نعم رأيت محمداً الخامس في القمر بلباسه التقليدي. على غرار كل المغاربة آنذاك، كنت أرفع رأسي نحو السماء عند مغرب كل يوم، باحثا في بياض القمر عن صورة الملك الذي افتقده المغاربة منذ أن أقدم المستعمر على نفيه إلى جزيرة مدغشقر”.
الكلام أعلاه مُقتبسٌ من مقال لقيادي في حزب يساريِّ ووزير سابق؛ أمّا أحد كتّاب الرأي فيرى أنّ “قصة رؤية الملك محمد الخامس في القمر إذا كانت تعبر عن شيء فإنها تعبر عن العبقرية المغربية والإبداع في الأشكال النضالية بما لا يوازيه أي شكل آخر لحد الآن، ذلك لأنها أثّرت بشكل كبير على مخطط الاستعمار وأفشلته تماما”.
رواية رؤية صورة محمد الخامس على القمر، مضى على إشاعتها أكثر من ستّة عقود، وما تزال تتردّد على الألسن؛ في إحدى الندوات الفكرية بمناسبة عيد الاستقلال بالرباط، أكّد محاضر، سبق أن اشتغل وزيرا، صحّة هذه الرواية، وسار في المنحى ذاته رئيس مجلسٍ علميّ محلّي، الذي أجزم بدوره أنّ رؤية محمد الخامس على القمر ثابتة.
لكن، ماذا يقول العلم في هذه “النازلة”؟ وهل يقبل منطق العلم تصديق تمثّل صورة إنسان على وجه القمر؟ وكيف حصل هذا “الإجماع الوطني” على رؤية محمد الخامس على القمر، رغم أن وسائل الاتصال بين الناس في ذلك الزمن البعيد منعدمة؟ في السطور الآتية محاولة للبحث عن أجوبة لهذه الأسئلة، من زاوية علم النفس الاجتماعي.
هذا ما يقوله العِلْم
يقول الأستاذ والباحث في علم النفس الاجتماعي، مصطفى شكدالي، إنّ تفسير وفهْمَ رواية رؤية محمد الخامس على القمر بشكل علميّ يقتضي أوّلا الإشارة إلى المفهوم السيكولوجي الذي يُعرف بـ”الإسقاط”، والذي من خلاله يقوم الفرد أو الجماعة بإسقاط صورة أو رغبة نفسيةٍ داخليةٍ ولاشعورية على شيء خارجي.
بمعنى، يشرح شكدالي، أن الصورة الداخلية تصبح مجسّدة عن طريق ميكانيزم الإسقاط في الشيء الذي يكون موضوعا له، لذلك فالذي نسميه “تخيل” هو في العمق نتاج لهذه العملية.
وأضاف أنّ الإسقاط كميكانيزم سيكولوجي، نال اهتمام الباحثين في علم النفس منذ بداياته الأولى، ذلك أن عالم النفس الشهير Hermann Rorschach طور اختبارا للإسقاط سماه باسمه Le Test de Rorschach سنة1921، وكان الاختبار عبارة عن مجموعة من اللوحات المكوَّنة من بقع مختلفة لا تحمل أية صورة معينة، وعندما تُقدم للأفراد بهدف وصفها، تكون النتيجة هي إسقاط صور داخلية-نفسية للمختبَرين فتتحول البقع إلى صور.
ولتبسيط التفسير الذي قدّمه شكدالي، يضيف أنه بالإمكان رؤية صورة الملك الراحل في القمر، ليس على أساس أنها صورة حقيقية، ولكن كصورة إسقاطية. “فعندما ينظر الإنسان إلى القمر سيرى بُقعَ ضوء كثيرةً قابلة لأن تحملها أي صورة يريد، أو بتعبير فلسفي “مصادرة عن المطلوب”.
“بقع الضوء الكثيرة القابلة لأن تحمل أيّ صورة يتخيّلها الإنسان”، والتي تحدّث عنها الأستاذ شكدالي، نجدها في الفقرة المقتبسة من مقال القيادي الحزبيّ الواردة أعلاه، بقوله ” كنت أرفع رأسي نحو السماء عند مغرب كل يوم، باحثا في بياض القمر عن صورة الملك الذي افتقده المغاربة منذ أن أقْدم المستعمر على نفيه إلى جزيرة مدغشقر”.
شكدالي أضاف عاملا آخر، جعل المغاربة مستعدّين لرؤية الملك المنفيّ إلى جزيرة مدغشقر، قائلا “إن نفي الملك محمد الخامس وغيابَه جعله يتحول في نفسية المقاومين والشعب إلى صورة، ومن ثَم رؤيتها عن طريق إسقاطها على القمر، كما أنها اتخذت ربما كأسلوب في الفداء والمقاومة عن طريق تداولها على نطاق واسع، خالقةً بذلك تهيئاً سيكولوجيا جماعياً”.
استعداد نفسيٌّ مُسبق
عندما نُفي محمد الخامس إلى جزيرة مدغشقر في بداية الخمسينيات من القرن الماضي (20 غشت 1953)، لم تكن هناك وسائل اتصال بين الناس، كما هو الحال اليوم، ومع ذلك كان هناك “إجماع وطني” على ظهور محمد الخامس على القمر، فما تفسير ذلك؟
“عندما تصبح الرؤية، والتي هي في الأصل صورة إسقاطية متداولة بين الناس، فمن الطبيعي أن يتطلع الجميع للقمر لرؤيتها؛ بمعنى أن النظر للقمر في تلك الفترة كان مقرونا برؤية صورة الملك المنفيّ، أي أنه كان هناك تهيئ نفسيّ مُسبق لدى الناس، قبل النظر للقمر، وهذه هي “المصادرة عن المطلوب”؛ يجيب الأستاذ شكدالي.
“الإجماع الوطني” على رؤية محمد الخامس على القمر، لا يخلو أيضا من أبعادٍ سياسية، إذ أوضح شكدالي أنّ هذا “الإجماع” نابع أيضا من كون الذين لم يروْا محمّدا الخامس في القمر، لا يستطيعون مخالفة الأغلبية، خوفا من اعتبارهم خائنين، “وهذا يعني أنه بالإضافة إلى التهيّؤ النفسيّ، كان هناك تحفيز”.
البُعد السياسية الآخر لهذه الرواية، يضيف شكدالي، تمثّل في أنّ “التقاء” المغاربة في القمر عن طريق رؤية صورة الملك المنفيِّ كان أسلوبا بارعا في تأجيج المقاومة والمطالبة بالاستقلال، حيث ساهمت “رؤية” محمد الخامس في القمر، وإن كانت لا تعدو أن تكون صورة إسقاطية، في رفع قضية عودة الملك والمطالبة بالاستقلال إلى درجة القدسية.
تدجين العقول
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم، هو كيف لهذه الرواية، أن تستمرّ إلى حدود اليوم، ويردّدها مثقفون، يفترض أنّ لهم نصيبا من العلم والمعرفة، وليس عوامّ الناس فحسب؟ مصطفى شكدالي يطرح مجموعة من الفرضيات فيما يتعلّق بهذا السؤال، منها الغياب التام للحس العلمي لدى البعض لشرح المسألة عن طريق مفهوم الإسقاط، كما فسّره أعلاه، “وهذا ما أدّى إلى تقديس وتعظيم شخص الملك الذي “ظهر في القمر”، بينما الصحيح هو أنه لم يظهر في القمر، وإنما الشعب هو الذي رأى صورته عن طريق إسقاطها على القمر.
الفرضية الثانية التي طرحها الأستاذ والباحث في علم النفس الاجتماعي، هي أنّ هذه الرواية “تستعمل الآن ربما، لأغراض أخرى سياسية بعدما أدت مهامها في قضية الاستقلال”، منبّها إلى أنّه على أنّ هذه القضية يجب أن يُنظر إليها كأسلوب للمقاومة أدى دوره في مرحلة معينة، “وأن أي استعمال لها الآن يدخل في باب التدجين ليس إلا”.