سنحت لي فرصة زيارة هذه المدينة التحفة في شتاء 2013 فلم تصدق عيناي أن تكون ثمة مدينة موجودة بعد في القرن الواحد والعشرين من هذا الطراز. أنت نعم في ديسمبر من العام 2013م ولكن عمليا أنت تعيش أو كأنك تعيش عام 1435 ميلادي. إنها تحفة من الزمن محفوظة. طرق من قصص ألف ليلة وليلة. أسواق مكتظة بكل ما تتصور وتتخيل أو لا تتخيل. كل سوق بعنوان «حنة وخرازين وخشابة وجزارة ودباغة جلود حرفيون من كل المهن، وخليع (لحم معالج بطريقة خاصة مقلي ومحفوظ بشحمه تقتات به العائلة الشتاء بأكمله). مررت على رياض (إنها كناية عن الفنادق الصغيرة أو البيوت الفاسية القديمة المحولة إلى فنادق). ذهلت وحدقت وكررت مرتين وثلاثا فارتد إلي البصر وهو حسير. تحفة من تحف التاريخ كأنك في دور الأباطرة. زخارف ونمنمات مذهلة روعة من الروائع. رأسي مثبت إلى السقف حتى كدت أن أدوخ وأطيح. مررنا على مدابغ كاملة لإنتاج الجلود بالطريقة القديمة وصباغتها. دخلت زقاقا ضاق فلا تمر به إلا البغال تحمل البضائع. ثم ضاق الزقاق أكثر فأكثر فأصبح يتسع بالكاد لمرور رجلين كتفا لكتف. ثم ضاق أكثر فلا يمر به إلا الواحد. نعم لم أصدق أن يكون ممرا لبيت، ثم فتحت لنا سيدة من الظلام. استقبلتنا ببهجة وفرح وكرم فاسي أصيل. قالت هذه بيوتنا من قديم الزمن وهذه والدتي كانت الوالدة أعني الجدة فوق المائة بذاكرة مدهشة روت لنا قصصا من الماضي. سألتها عن إدخال الأثاث والبراد والغسالة وليس ثمة إلا نفق لدخول البشر؟ قالت نمرر الأشياء من سطح إلى سطح. كأنها تهبط عليهم من السماء. الشعب المغربي روعة متحاب متعاون، ليس مثل سوريا أرض غارقة بالكراهية والدم والشروخات الاجتماعية المخيفة، التي خلفت مائتي ألف قتيل و400 ألف معاق والحبل على الجرار.
في زقاق اجتمعت بقط رائع أليف أنيق نظيف (يسمونه المغاربة نقي) تمنيت صحبته أشفقت على أمه التي كانت تلعقه بدلال. أخيرا وصلنا إلى جامع وجامعة القرويين. ما زالوا يدرسون بالطريقة القديمة. الطلبة يتحلقون حول الأستاذ الذي يعتلي منبرا صغيرا. أكرمنا إمام المسجد وشرح لنا تاريخ الجامعة وعدد العباقرة الذين مروا من هنا: ابن خلدون وابن باجة وابن طفيل. تعرفنا على المكتبة هناك وصورت قصيدة شعرية وصف فيها طبيب أندلسي مرض السكري شعرا بدقة. مررنا في زقاق قالوا هنا نزل ابن خلدون وسكن فترة من الزمن. مرت الساعات بسرعة. شعرت أن هذه المدينة تحتاج ليس لساعتين بل لأسبوعين على الأقل لاكتشاف معالمها وبواباتها السبع.
إنها نصيحة لكل مسلم أن يسعى إلى تلك المدينة فيتعرف على جمال القدم الذي ولى، وقد تأتيه لحظة فيشعر كما شعرت أنا أن قلبه بدأ ينبض بل وتقفز دمعة تنحدر إلى وجنته، وهو يسمع أنشودة المغني المغربي التطواني (عبد المؤمن) يغني قصيدة (لسان الدين الخطيب) يا زمان الوصل بالأندلس. أما أنا فبكيت وبكيت، وتذكرت رحلاتي إلى الأندلس المفقود حين بكيت في جامع قرطبة الكبير.