بقلم الأستاذ حميد طولست
الصحافة رسالة لتنويرالعقول ، وتنقية الاذهان ، وتفتيح القرائح ، واجلاء التعتيم ، قبل أن تكون مهنة وظيفتها نقل الأحداث في كل زمان و مكان، من وقائع وحوادث الدنيا وغرائبها ، وهي بذلك مهمة سامية يتمنى أبلغ الناس إمتهانها ، لكن هيهات أن يدرك ” من والى ” شأوها ، لما تحتاج إليه من عزائم رجال قادرين على تحمل الأعباء بتطوعية ووطنية وقدرة على تحدي معوقات افساد عوالم الخبر ، فلا يقوى على خوض غمارها السهلة الممتنعة المحفوفة بالمخاطر إلا ” سيدي و مولاي ” الذي لايبتغي سوى الحق مقصدا ، والصدق غاية ، ممن لا تميل به الاهواء حيث مالت ، ولا توجهه المنح والعطايا حيث شاءت ، الذي إذا كتب أنصف ، وإذا روى حقق وتثبت، الذي يختار من الأخبار أوثقها ، فصدق في التعبير عنها ، غير منساق خلف اوهام ولا متفاعل مع عواطف جياشة ، أو نفس حكمها الهوى ، لا يوالي الباطل مطلقا ، ولايزيف الحقائق أبدا . فلا يدخل في الصراعات الواهية الخفية منها والظاهرة كتلك التي يعيش أجواءها الجسم الصحفي بالعاصمة العلمية ، فرجاء يا أصحاب الأقلام الشريفة تكتلوا ، فأنتم قليلون في عالم مكتظ بمن يسترزقون بالحروف ويتاجرون بالكلمات ، ويساومون بمداد لا يكتب إلا تحت طلب وأوامر الأسياد والتوجيهات ، تكتلوا لإعلاء كلمة الصحافة المحلية والجهوية واعادة الهيبة لها ، في اطار صحافة محايدة تخدم المهنة والعاملين بها ، بدل أن يبقى الصحفي منا طبالا لرؤوس فارغة لا تساوي الكرامة عندها شيئا .
وللحقيقة لابد من الإعتراف بأن المشهد الإعلامي ليس قاتما كله ، ولا يبعث على التشاؤم حتى النهاية كما يحاول البعض أن يقنعنا بتشوه صورته وميدانه وتدهور أحواله في البلاد . صحيح أن كثرة الصحف وتنوعها أمر ملفت للإنتباه ، لكنها ظاهرة صحية جاءت لحاجة مجتمعية ومواكبة لتطور المجتمع وحاجاته المتعطشة للخبر، فبعد أن كنا لا نرى ، مضطرين، إلا أربع أو خمس صحف متشابهة طوال عقود ، صار بمقدور أي كان أن يصدر جريدة، أو مجلة بأي تسمية ، وتحت أي عنوان ، يومية أو أسبوعية ، حزبية أو مستقلة .
إنها قفزة جبارة في درب الصحافة وتطور مسارها ، إلا أنها وبدون شك قفزة تشبه قفزة الجني المارد الذي خرج من قمقمه الضيق إلى حرية سائبة مربكة كالمتاهة .
فالكثير من الصحف التي تصدر مع طلعة كل يوم جديد ، تستند إلى تاريخ سياسي أو ثقافي مرموق ، وبعضها يتميز إضافة إلى ذلك بمستوى مهني متميز ، إلا أن ، ومع كل الأسف ، هناك عدد مهول منها يفتقر إلى أي من هاتين الصفتين ، صحف ما وجدت إلا للاسترزاق بالكلمة والمتاجرة بالجملة والمساومة بالمداد والمقايضة بالعقيدة للنهش وتصفية الحسابات ، فلا يؤرقها البحث عن الحقيقة كاملة ولا الإحساس بالمسؤولية المهنية . ومثلما نجد صحفيين كبارا محترمين واثقين كالصدق ، متمكنين كالقدر ، يكتبون لتحيا قلوب وتنار عقول ، ويسطرون لينبتوا أملا ويبعتوا رجاء ، فإن هناك أنصاف الصحفيين الذين باتوا يشكلون هما ومشكلة حقيقية للصحافة بأعدادهم التي أصبحت تغطي “عين الشمس” أي قرصها.
ومعادلة النصف هنا في ثأنصاف الصحفيين ” ليست كالمعادلة الرياضية المنطقية : [ واحد – نصف = نصف ]. فالمسافة بين الصحفي الحقيقي ونصف الصحفي أوشبه الصحفي إنما هي كالمسافة بين الثريا والثرى ، لأن الصحفي الحقيقي سلاح من لا سلاح له ، و أداة تغيير وتأيد للتطور ، دائم الركض في ميدان الكلمات ، والسباحة في يم الحرف ، قرين القلق والبحث والسؤال عن الحقيقة ، يموت لتعيش الأفكارالحرة وتزدهر المبادئ ، أما نصف الصحفي فهو قرين الإدعاء والتبجح الأجوف والوجاهة الزائفة ، وهو في الغالب شخص يسبغ على نفسه من الأوصاف ما هو غير جدير به ، تراه في كل المزادات المشبوهة ، السرية منها والعلنية ، مجندا أحرفه لخدمة الباطل وخلق الخدلان والحلكة والظلام .
فلا خير في صحافة ، ولا رجاء من كلماتها ولا نبض لأحرفها إذا لم ترفأ دمعة أو تضمد جرحا أو توقد أملا أو لم تستنهض عزما ، فهي نصف صحافة بل أقل من النصف ، فهي صفر مجوف ، فالصحافي يكون كاملا أو لا يكون ...