توصلت فاس نيوز عبر بريدها [email protected] بالمقال التالي :
“تجارة العظام البشرية في مغرب القرن 19 ومطلع القرن 20”
عتبة بحث مثيرة ودعوة لإعادة قراءة التاريخ.
“تجارة عظام البشر في مغرب القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين”، بحمولته كتاب مثير للدهشة يمكن ترتيبه ضمن أعمال رواد حقل العلوم الانسانية، ممن أثثوا فكرا ومناهج وطروح متفردة كما العروي والجابري ووقيدي وعياش المؤرخ والخطيبي وغيرهم، ممن اختار وجهات غير مألوفة دراسة وتحليلا أسهم في عتبات ابستيمية، هي بمثابة إرث مشترك ومعتمد في أوساط الباحثين والمهتمين. وكتاب تجارة العظام البشرية هذه الهزة غير المسبوقة في مساحة وعتبة الأبحاث بالمغرب، الى جانب ما أثاره من دهشة – وهذا أمر طبيعي أمام كائن ثابت من النمط – هو بأكثر من سؤال، حول طبيعة المثن التاريخي الذي يؤسس لما وراء الفعل في تاريخ المغرب، ولبعض من جوانب غرائبية إن صح التعبير. مثن لا يبحث عن مكان في المكتبة المغربية وعن نقاش هادئ فحسب، بقدر ما يروم إعادة قراءة الزمن المغربي في لحظات فاصلة، بما يجعل من السلوك في التاريخ وجهة لقراءة ماضي وفهم حاضر وبناء قادم. بقدر ما يطرح موقع النحن والآن ها هنا كبحث مؤسسي، ودوائر تدافع علمي في حاجة لتوصيف وتقاسم وتصويب، بما يتجاوب مع ألفية ثالثة لها ما لها وعليها ما عليها. تجارة العظام البشرية بمغرب القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، للدكتور سمير بوزويتة، عن كلية الآداب والعلوم الانسانية سايس فاس، كتاب يطرح للنقاش قضية شائكة غير مألوفة التداول في تاريخ المغرب بل في تاريخ العالم العربي. ما جعله بصدى قوي غير معتاد في نسق النشر المغربي، ليس فقط في الأوساط العلمية من خلال ما أثاره من جدل واسع وممتد ومن ردود فعل هنا وهناك، الوقع الذي يعني ما يعنيه من بعث جديد ومعه انتقال، وتأسيس لتحول في طبيعة خطاب وصورة البحث العلمي في المغرب، تحديدا شق العلوم الانسانية والاجتماعية المثقلة بالوهن والرتابة ونمط مثن بسطحية رؤى. بل بصدى غير مسبوق لذى الرأي العام من عموم مهتمين واعلاميين وفاعلين في الكتابة والتأليف، عبر تواصل اجتماعي سريع في مجتمع بات رقميا بامتياز. الكتاب الذي أثار ما أثار من رأي وتجاذب صدر مؤخرا بالمغرب عن مطبعة سايس فاس، ضمن المنشورات العلمية لكلية الآداب بالمدينة عن الموسم الحالي، صنع حدثا فكريا مستمرا لما يوجد عليه من تتبع وتبادل رأي وقراءة. الكتاب من القطع المتوسط بواجهة مثيرة ملأتها حياة أموات ووقع بياض، هو بمائتي صفحة وبمقتطف معبر في واجهته الأخيرة. جاء فيها بما يفيد سؤال حيرة الكتاب وغياب “كنطربد” تهريب العظام البشرية في اهتمامات الاخباريين والمؤرخين، كذا وثائق الكتاب التي أثارت القضية ولم تثر انتباه هؤلاء لجر هذا الاشكال “نبش المقابر” الى مختبرهم بقصد المساءلة وفهم الملابسة. مواقف كانت بمثابة عتبة حقيقية للمؤلف من أجل طرح سؤال الغياب والمحو، ليتساءل حول ظاهرة نباشي ولصوصية المقابر التي كتب عليها أن تظل مًقبرة لكون شهداء الاثبات هم من الأموات. وذلك من خلال سؤال حول ارتباط غياب الظاهرة وعدم الاقتراب منها بما هو اخلاقي. من هنا ما جعل اهتمام المؤلف ينصب ليس على قيم اخلاقية عادة ما توضع كهدف للوجود الانساني، بل على جوانب سلوكية مجتمعية تجد في الاخلاق قناة لإنتاج معنى للحياة وللهوية، متسائلا في السياق نفسه حول تجارة العظام البشرية، وتدني الخلق البشري الى هذا الحد من الفعل، ما جعل من حفريات الصمت يتجه صوب رصد نشأة وتكون وانتشار الفاصل بين الاخلاق واللاأخلاق. مع أهمية الاشارة الى أن الكتاب دعوة لإعادة قراءة تاريخ المغرب في أصعب لحظاته، بتحريك جوانبه الخفية وتفكيك أسباب المنعطف التاريخي الذي عاشه مغرب القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وفي تقديم المؤلف لهذا الاصدار تم الحديث عن الشائك في تاريخ المغرب، وعن غربة وتشعب ما لم تتعود عليه الكتابة التاريخية، بل القضايا التي لا تزال بعيدة عن مختبر ومحترف الباحثين والمؤرخين. والكتاب الذي صنع الحدث بالمغرب بناء على نقاش دائر قوي، ودرجة اقبال غير مسبوق وتتبع للفكرة. جاء معززا بكم هائل من الوثائق عن الارشيف المغربي والأجنبي، وموزعا على محاور كبرى بنسق إلتقت فيه جدور الظاهرة بما حصل من آفات اجتماعية وطبيعية. كذا بفاعلين تجار خلال هذه الفترة الحرجة من زمن مغرب ما قبل الحماية الفرنسية. اضافة لما كان من إجراء مخزني تجاه تأطير ورقابة الظاهرة، ومن ردود ومواقف لعلماء وفقهاء مغاربة، مع محور أخير توجه لرصد دول كانت وجهة لعظام المغاربة كما ابريطانيا والبرتغال والمانيا واسبانيا وايطاليا، وحجم صادرات المغرب خلال بعض الفترات مع مطلع القرن العشرين. ليبقى تهريب هذا النوع من المواد ذات الأصل البشري أو كنطربند كما جاء في الكتاب، وجهة غير مألوفة في الكتابة التاريخية ليس فقط بالمغرب بل على صعيد العالم العربي، ما يجعها نموذجا للمسكوت عنه في ثقافتنا واهتمامنا. وهي شكلا ومنهجا بمثابة مثن جديد مثير للسؤال والفهم، ونقلة نوعية بجرأة عالية في درجة الوعي بما ينبغي أن تتوجه إليه الأبحاث الاجتماعية كما حقل التاريخ. ما ينبغي الاقبال عليه كإشكالات أكثر انفتاحا على غير المألوف كما يفضل البعض نعته. وذلك بما يتجاوب مع إعادة قراءة تاريخ المغرب من جهة، وتحريك جوانبه الخفية لتعريتها من جهة ثانية. وما يهم تاريخ المغرب في هذا السياق نفسه ما يؤطر تاريخ البلاد العربية المعاصر، ونفسه ما يحتاج إليه بحكم تماس وجوار الهوية.
عبد السلام انويكًة/ تازة