بقلم الأستاذ حميد طولست
مع تعدد مجالات المعرفة الإنسانية ، تعددت الخطابات وتنوعت حقول التعبير عن الآراء والمقترحات والأفكار والمواقف، واختلفت تمظهراتها ، بين الخطاب الصحفي ، والخطاب الإشهاري ، والخطاب السياسي ، والتي تهدف في مجملها إلى إقناع المخاطب وحمله على القبول والتسليم بصدقية الدعوى والطروحات التي تتبناها تلك الخطابات ، عن طريق توظيف حجج وبراهين ، تجمع بين مكونات عدة ، لغوية ، وأيقونية ، وتشكيلية ، و صوتية، وحركية ، تتميز في مجملها ببناء دلالي محكم، تتضافر فيه مختلف العناصر البلاغية ، المتعددة الوظائف الإقناعية ، الجمالية ، والقيمية ، والسيكولوجية ، التي تثير مشاعر المتلقي الذاتية وأهوائه ، وتستميله لقبول مضامين ودلائل وأهدافا بمعينها ، بلغة سياسية ليست بالرومانسية ، كما في لغة الأدب ، ولا بالدقيقة كما في لغة الاقتصاد ، لكنها لغة حمالة الأوجه والرسائل الموجهة بالهدف ، يتزاوج فيها التعبير التقريري المباشر، والتعبير الإيحائي غير المباشر الذي تغلب عليه “الميكافيلية” ، كإحدى أدوات الخطاب السياسي التي من خلالها تفرض السياسة سلطتها ..
إن هذا التعريف التقريبي للخطاب السياسي، الذي يتضح لنا منه البعد البراغماتي المتخفي دائما خلفه ، والذي يُمَكِن رجل السياسة المتمرس ، والذي لديه الدراية والقدرة على ضبطه وتطويعه تطويعا قويما ، والتحكم فيه تحكما رصينا – كوسيلة هي من بين أهم الأدوات التي توظفها القوى السياسية لسلب الألباب وسحر العقول للحصول على السلطة- من أن يصبح زعيما سياسيا أو بطلا بالمعنى الحقيقي للكلمة ، يدفعنا لطرح الكثير من الأسئلة ، منها على سبيل المثال: هل نجح السيد بنكيران كرجل سياسة وكرجل دولة ، في بلورة خطاب سياسي ذي فلسفة ورؤية وأهداف ومرجعية واضحة ومنفتحة يمكن أن يؤثر على المخاطب ضمن وضعية تواصلية ، بما يكتظ به فضاء التخاطب من معاني ودلالات قادرة وحدها على تأكيد مقولة ” السياسة فن الممكن” وعبرها “السياسي فنان الممكن”، ومتعدد المواهب في الخلق والإبداع ؟ أم أنه أفلح فقط في تحويل الواقع السياسي المغربي من صراع المبادئ والمواقف إلى صراع التفاهات والاتهامات المجانية ، وانتقال به من “مأسسة الاختلاف” الى” شخصنة الخلاف ، وساهم في إضعاف السياسة ..
وحتى لا نُتهم بالتجني على رئيس حكومتنا الذي نحترمه ونقدره ، نورد بعض الأمثلة المرتبطة بخطاباته السياسية التي يغلب عليها إصرار السيد بنكيران، كرجل سياسة، وكرجل دولة على تأكيد ” قوته” السياسية بها في كل المناسبات- مؤتمرات حزبية ، لقاءات صحافية ، دردشات عادية ، ولقاءات رسمية ، وعلى الخصوص خلال جلسات المساءلة البرلمانية – ما خلق نقاشات مستفيضة ومحتدمة ، أثرت سلبا على ذهنية ووجدانية المتلقي ، وبالتالي على مسارات الاستحقاقات الانتخابية التي تعد إحدى اعقد الظواهر السياسية ، وما يمكن أن ينجم عنها من مآلات وآثار، قد تكون كارتية على حزب رئيس الحكومة ، دائرة مولاي يعقوب مثالا .
ومن بين تلك التصريحات التي جرت وراءها سيلا عارما وخضما واسعا من الانتقادات اللاذعة كعبارة : ” عفا الله عما سلف ” وعبارة :” التبوريدة” و”مقاطعة منتجات دانون واستعمال الرايب ” و ما قاله عن المرأة : “ان المصابيح انطفأت في البيوت المغربية ، يوم خرجت المرأة الى العمل ” و تصريحاته في حق الوداد الرياضي والذي اعتبر زج باسم الفريق في صراعه مع أحزاب المعارضة، وهو الأمر الذي رفضه المسؤولون السابقون ، ودفع بهم وبعدد من الجمعيات، لمراسل الديوان الملكي يطالبون رئيس الحكومة بالاعتذار عما قاله : “ملي كا نسمع الوداد مشاو ليها البلطجية باش يحلو مشكل اداري شكون لي غيتراسها، كنبقا نقول هاذ البلطجية كيفاش حتى جاو لوداد ” وقال أيضا “أنا يسمحو ليا الإحوان ديال الوداد أنا معمرني تكلمت بسوء عن الوداد أو جمهوره”، قبل أن يضيف “أنا أشنو بيني وبين الوداد، أنا مكنعرف لا وداد لا رجاء ولا أي فريق اخر بما فيها المغرب الفاسي”. ويأتي هذا التصريح في اطار تبادل الاتهمات بينه وبين رئيس فريق الوداد المنتمي لحزب الأصالة والمعاصرة حول هجوم مجموعة من البلطجية على لاعبي فريق الوداد الرياضي أثناء حصة التداريب السنة الماضية.
وتم هناك العبارة الأخيرة التي أسالت المداد الكثير: “ديالي لي كبير عليك”: والتي جاء رده على منتقديه على شكل “العذر أقبح من الزلة: ” عندما أجد أناسا عقلاء أمامي أرد عليهم بشكل أنيق ومتفهم، حتى أنني عبرت مرارا عن اتفاقي مع احمد الزايدي رحمه الله او مع رضا الشامي عندما كانا يعبران عن انتقادات للحكومة او اقتراحات معقولة، اما عندما اجد التهريج أمامي فكيف تريدون مني ان أتصرف؟”..
واكتفي بهذا القدر الذي ليس إلا غيضا من فيض تصريحات بنكيران التي أججت غضب الكثير من المغاربة ، بما فيها من مس خطير بالمنظومة القيمية لأخلاق المجتمع عموما وأخلاق السياسة خصوصا