كتب الصحافي محمد أحداد، تحقيقا مميزا تنشره جريدة المساء، في عدد نهاية الأسبوع، حول فاس القديمة أو البؤس الأثري. وقال أحداد في تحقيقه:
فاس “جنة الأثريين”. مدينة شكلت دائما وجهة للتجاذب السياسي بين الدول التي تعاقبت على حكمها ولذلك لا غرابة أن تصنفها اليونيسكو تراثا إنسانيا يجب حمايته بترسانة قانونية. غير أن العكس هو الذي حدث تماما، ففي الوقت الذي كان ينتظر فيه الأركيولوجيون والمؤرخون أن تكون خطوة التصنف داخل التراث الإنساني مقدمة لعملية ترميم كبرى تخضع لها”المآثر التاريخية” تستجيب للمقومات الدقيقة للترميم منها القيام بدراسات تاريخية تسعف على فهم تطور المآثر العمرانية وتأثرها بتداول الحكم وفنون المعمار التي تطبع كل دولة على حدا. ومنها أيضا أن يكون الترميم محافظا على الجمال الهندسي والبحث عن المواد التي تشبه على الأقل المواد التي شيدت بها هذه المآثر العمرانية بكثير من الحذاقة والإتقان.
-ففي الوقت- تبخرت كل تلك الآمال، حيث أصبحت عملية الترميم التي شرعت فيها وكالة إنقاذ مدينة فاس مرادفا لعملية “المسخ” الأركيولوجي بتعبير أحد علماء الآثار. قبل الخوض في تفاصيل الترميم، فعملية الترميم التي تعرفها مجموعة من المباني التاريخية بمدينة فاس العتيقة ضمن برنامج ترميم وإعادة تأهيل المآثر التاريخية للمدينة العتيقة، وهو البرنامج الذي رصد له غلاف مالي إجمالي قدره 285,5 مليون درهم. تضم 27 مشروعا أعطى الملك انطلاقتها في الرابع من مارس منذ سنة 2013، يهم ترميم وإعادة تأهيل خمس مدارس عتيقة وأربعة أبراج و ثلاثة فنادق وثلاثة مدابغ وسورين وقنطرتين ومنزلين عتيقين ومباني أخرى. إلا أن الغضبة الملكية الأخيرة التي هزت كل المتدخلين المعنيين ببرنامج إنقاذ فاس العتيقة في نونبر 2014 والتي أرجعت ، بالأساس، إلى تأخر الأشغال، رافقها قرار سامي بأن تنهي وكالة التنمية ورد الإعتبار لفاس الموكول لها تنفيذ المشروع كافة أشغال الترميم في نونبر 2015. يؤكد أحد علماء الأثار إنه عوض أن تكون الغضبة الملكية حافزا نحو العمل الجاد، فقد تحولت إلى نوع من”التبرير” لدى الجهات المكلفة بالترميم للإسراع في الأشغال على حساب تاريخ بنته عشرات الحضارات.
فاس…تاريخ في المزاد العلني
مدينة فاس مسجلة في لائحة التراث العالمي ومسجلة تراثا وطنيا منذ 1954، ووزارة الثقافة مطالبة بإعداد تقارير دورية تبين مدى احترام القيمة العالمية الاستثنائية التي صُنفت بفضلها فاس تراثا للإنسانية جمعاء. وتتجلى هذه القيمة أساسا في كثافة مبانيها التاريخية وتنوعها باعتبارها نموذجا فريدا من نوعه ومعبرا عن الفن المعماري المغربي.
يتعلق الأمر ب 27 بناية ذات قيمة تاريخية ومعمارية عالية مصنفة ضمن المآثر التاريخية٬ وهي خمس مدراس: المحمدية والصفارين والمصباحية والصهريج والسبعيين٬٬ وأربعة أبراج وهي سيدي بونافع وبوطويل والنفارة والكوكب٬ إضافة إلى ثلاثة فنادق هي أعشيش والقطانين والصاغة.
الاتفاقية التي عقدت تنص على تأهيل المعالم التاريخية والمباني الأثرية بالمدينة العتيقة بفاس وترميمها، والحديث عن التأهيل يقودنا للحديث عن الوظائف الجديدة التي ستسند على هذا المباني، ووظيفة المعلمة محدد أساسي من الناحية التقنية لطريقة الترميم، فإذا كان المهندس- حسب علماء الآثار دائما- يعلم أنه سيجعل من المبنى متحفا، فلا شك أنه سيضطر لفتح القاعات لتسهيل مسار الزائر، ولكن إذا كنت الوظيفة هي رواقات للفنانين والصناع، فلا داعي لفتحها، والحال أن أيا من المباني السبعة والعشرين لم يخضع لمشروع تأهيل حقيقي، وهذا الأخير يجب ان يستند بدوره إلى دراسة اجتماعية لمعرفة متطلبات السكان اجتماعيا وثقافيا، وهي الدراسة التي تعتمد استبارات الرأي، واخذ آراء السكان وتطلعاتهم. لكن عدم اتخاذ هذه الخطوة يجعل الترميم مرتجلا وعرضة للأهواء، ولن يكون من المجحف وصفه بترميم عديم الجدوى.
إن عملية الترميم قبل كل شيء تتوخى المحافظة على الشواهد المادية لمظاهر التراث الإنساني، والتي تمكن من فهم مراحل تطوير الإنسان لمهاراته وكفاءاته. وبالتالي فترميم المباني التاريخية فرصة لإعطاء حياة جديدة لهذه البنايات حتى تتمكن من أن تصل رسالتها الحضارية للأجيال القادمة، ولذلك من الواجب اتخاذ كل إجراءات التريث والعقلانية من أجل التدخل بطريقة صحية وصحيحة، وأخذ الوقت الكافي لاستكمال الدراسات اللازمة.
في فاس، أوكلت مهمة هذا المشروع الجبار إلى وكالة التنمية وإنقاذ مدينة فاس بمشاركة وتمويل وتنسيق ولاية فاس بولمان، وتمويل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ووزارة الاقتصاد والمالية، ووزارة السكنى والتعمير وسياسة المدينة، ووزارة الثقافة، ووزارة الصناعة التقليدية بتكلفة مالية قدرها 285,5 مليون درهم. بيد أن العملية التي كان يراد منها إنقاذ تاريخ مدينة فاس ومعمارها الحضري من التلف تحول حسب المختصين إلى مشروع كبير “للإسمنت المسلح”.
على المستوى النظري، وعلى مستوى كل الاتفاقيات العالمية: كل شيء واضح وعملية ترميم الآثار لا تحتمل خطأ ولو كان صغيرا. في فاس عملية الترميم لا تسير بالطريقة التي يبتغيها المهنيون ولا بالطريقة التي تحترم ما تعهد به المغرب أمام اليونسكو. استنادا إلى معلومات دقيقة حصلت عليها الجريدة، فإن لجنة من اليونسكو قد تحل في فاس لمعاينة عملية الترميم. وتفيد ذات المعطيات أن المكلفين بالتراث الإنساني العالمي لا ينظرون بعين الرضى إلى ما يجري بالمدينة من”تشويه للمآثر العمرانية”.
يقول مجموعة من الأركيولوجيين إن المشروع، الأول من نوعه، والأكبر من حيث حجم التمويل لم يقم بأي دراسات علمية مستفيضة لا سيما تلك التي تهم الجانب الأركيولوجي، والذي تعتبر علميا المحدد الأساسي للطريقة التي يجب ان يتم بها الترميم بالإضافة إلى تفويت صفقات الترميم لمقاولات أغلبها لا تتوفر على الخبرة الكافية في ترميم الآثار.
لا يتوقف الخبراء عند هذا الحد، بل يؤكدون أن مشاريع التصاميم والتتبع إلى مهندسين معماريين لا يتوفرون على أي خبرة أو راكموا تجرب ميدان الترميم، ناهيك عن غياب المشاركات العلمية في المنتديات الدولية في مجال الترميم في سيرهم الذاتية.