بقلم الأستاذ حميد طولست
ثقافة الأمم وهوياتها ليست نتاج الحاضر ، ولكنها حصيلة تراكمات الماضي وتجاربه ، فتاريخ كل أمة هو نتاج تعاقب الأجيال ، وتطورها وانتقال شعوبا من طور متخلف إلى طور أكثر تقدمية وحداثة ، وما الازدهار الهائل الذي عرفته الكثير من أمم العالم التي تقدمت ، إلا ثمرة لذلك التبدل والتطور، واستجابة مستيقظة للأفكار الخلاقة التي دفعت لاقتحام مساراته ، مصداقا لقول الله سبحانه وتعالة : “لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ” صدق الله العظيم ..
إن التغيير من أصعب القضايا والمهام ، وذلك إذا نحن تتبعنا تغير العديد من الأمم والمجتمعات ، وتفحصنا تأثير مساراته ووقائعه على تطورها الحضاري ، في كافة المجالات ، فإننا لاشك سنجد أنه لم ولن يطرأ صدفة ، وإنما يحدث بمقدار رغبة تلك الأمم في التغيير ، -كما هو حال الألمان الذين يحبون الجديد والتجديد والتغيير باستمرار ما جعل منهم أعضم شعب في اوروبا -واستجابتها لروادها المبدعين الذين مكنتهم مواهبهم واهتماماتهم ومعارفهم ومهاراتهم من تنبيه مجتمعاتهم -المأخوذة بالدوران التلقائي حول النفس – لرتابة حياتهم وعقم حركة دورانهم ، وحثهم على الخروج من أطواق الفساد المحيطة بهم ، والدفع بهم لتجاوز الأفكار والسلوكيات الخاطئة المستحكمة في مصائرهم ، والإقدام على دخول مجالات التبدل والتغير ، رغم صعوبتها ، التي تكمن في كونها عملا رياديا ليس مألوفاً ضمن نطاق السائد الذي لا يجد في الغالب قبولاً ولا ترحيباً ، ويقابل بالرفض والاستنكار ، من الكثير من المجتمعات ، لأنه –كما هو معلوم- لا يكون إلا بالخروج على الكثير من الأنساق المألوفة لدى عامة الناس ، والإفلات من سائد الأعراف الموروثة ، ونقضاً أو تصحيحاً للعديد من التصورات الخاطئة المستقرة في ذهنية غالبية العامة ، أو استكمالاً لنقصٍ فيما هو قائم لدى النخب الثقافية والاجتماعية والمدرسية والأكاديمية ..
وما يزيد من تلك الصعوبة ، أن المرء عدو ما يجهل ، حتى ما قد ينفعه ، عدو التحرر والنظام والانضباط ، عدو الوضوح ويتحايل على كل تغيير ، وإن كان في صالحه ، وكأنه عدو نفسه قبل أن يكون عدو الآخرين ، وخاصة إذا بَعد ذلك التغيير عن المعتاد كثيرا ، وأوغل في دروبه المجهولة – في كل المجالات والوقائع ، الانجازات والوقائع والأحداث – إلا وكان الرفض له أقوى ، والاستنكار أشد ، والحرب عليه أقوى وأشرس ، خاصة لدى من تشبّع بالأنماط الثقافية المكرسة للتكرار والاجترار والإذعان والامتثال والتماثل مع ما هو سائد في بيئته ، التي يتهيب حدوث أي تغيير فيها ، ويتفادى الأفعال التي يظن أنها ستلقي به وبها في مهاوي ذلك التغيير .. ويترك الأمور كلها لله وعلى الله ، الذي سيقتص له من ظالميه ويعذبهم عذابا شديدا -عقابا لهم على تعديهم على حقوقه وظروفه السيئة – في جهنم التي يحتمي بها ضد كل أعدائه ويدعو بها عليهم ، بقوله : “الله يأخذ الحق ” و”الله على الظالم” و “الله يحرق باباهم فالنار” وغيرها من عبارات الاتكال والتقاعس عن نفض غبار الخنوع والرضا بالأمر الواقع حتى لو كان مليء بالذل والهوان ، التي تزخر بها قواميس المستضعفين ، ويزخر بها مخيالهم الشعبي ، والتي هي زفرة الفقراء والمظلومين ، حسب المقولة الماركسية ، والذي لولا تلك الأدعية وعلى رأسها “جهنم” ، لما وجدوا متنفسا في الحياة الدنيا ، التي ذهب الناس فيها مذاهب شتى ، فكان منهم من جبلت نفسه على الكد والجد، والتوق الدائم لأعلى مراتب المجد، والتطلع لبلوغ المعالي والسؤدد ، فجاءت حظوظ مجتمعاتهم من التقدم بمقدار استجاباتها المتفاوتة للأفكار الخلاقة ، وكان منهم من آثر الاستسلام والتقوقع وإعادة وتكرار وتقليد كل قديم وانشغال بمواضيع تاريخية قديمة بالية والإفتخار بها والإعراض عن دعوات روادهم ، للتأقلم مع متطلبات العصر رغم ما يزخر به من المتغيرات ، فبقيت حياتهم جامدة لا جديد فيها وكأنها غير قادرين على عمل الجديد..
إني هنا لا ألوم أحدًا على قلة خبرته ، أو سوء فهمه لدوره ومسؤوليته ، ولكني ألوم من يتشبث من رجال الفكر والسياسة برغبة عارمة على الحط من وعي شعوبهم المهددة بالفقر والكوارث وسوء الخدمة ، والهبوط بمستوى مواطنيهم والانحدار بهم إلى منزلقات تطيل معاناتهم..
ولا يسعني في الختام إلا أن أقول إن لله في خلقه شؤون، خلق سبحانه كل شيء بقدر، ولحكمة تفاوت البشر، واختلفت الرؤى ووجهات النظر ، ولكل رأي ووجهة نظر وله اهتمامات وطموحات ودوائر حياة ..