بقلم الأستاذ حميد طاولست
في الوقت الذي استبشر فيه المصريون – ومن خلالهم كافة المسلمين- خيرا بالنداء الشجاع الذي وجهه الرئيس المصري إلى علماء الأزهر وفقهاء الأوقاف ، يطالبهم فيه بالتصدي لكل الأفكار الخاطئة التي ألصقت بالدين الإسلامي الحنيف من أجل وأد التفكير وتكبيل العقل ، والفصل بين الغث المقزز منها ، الذي يستهتر بقيمة العقل الإنساني ، وبين السمين الذي يدعو إلى إعمال العقل والتحفيز على التفكير ، ويحثهم بتلك النداءات على العمل على تنقية الخطاب الديني مما أغرقه به المتأسلمون – الذين ظنوا ، خطأ أو جهلا ، أن العالم يبدأ عندهم وينتهي بهم – من إدعاءات كاذبة وشوائب مغرضة تمرر عبر نصوص مغلقة وقوالب ذهنية جامدة ، لا تقبل المناقشة والحوار والتعديل والتكييف ، حفاظا على نسبة الجمود الهائلة الذي يسيء للإسلام ، ويزج بالمسلمين في أزمات واسعة ومتاهات خطيرة من العنف والقهر والتخلف والدمار ، الذي يمزق النسيج الاجتماعي ، وحول الحياة إلى مستنقع من الجهل والتخلف .
وفي هذا الظرف الحرج ، الذي كان يُنتظر فيه من علماء الأزهر والأوقاف ، التدخل بجدية في تجديد الخطاب الديني ، والانخراط بكل بهمة وتفان في تنقية الدين مما أفسده به المتطرفون ، وشوهه به المتشددون ، ليس استجابة لقرارات الرئيس السيسي فقط ، ولكن لحاجة الأمة الإسلامية قاطبة إلى تأسيس تاريخي لعصرٍ جديد كلياً ، يعاد خلاله النظر في كل أسس وجود الأمة المادي والفكري والعقائدي ، ونقده جذريا ، بعيدا عن المعالجات الإصلاحية السطحية التي ثبت فشلها حتى الآن ، وكانت سبب ما أصبحت تعرف الأمة من كثرة الإساءات الدنيئة والقذرة للدين ..
وبدل ذلك ، طلع علينا الكثير من رجال الدين ، والعديد من جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وشيوخها وفقهائها ، بموافق صادمة ، تدل على ما يبدو أن نداءات تنقية الخطاب الديني وتصحيحه ، قد أثارت انزعاجهم وأججت غضبهم ، وجعلتهم يحنون إلى محاكم التفتيش وأساليب مصادرة الفكر ومراقبة الرأي ، ودفع ذاك الحنين بالكثير منهم إلى قيادة معارك ضارية ضد كل من فكر من أصحاب الرأي -النجباء ناصعي الفكر طيبي الأخلاق جميلي المشاعر ، والعلماء الوطنيين الصادقين ، والفقهاء الشرفاء المخلصين الذين تحبل بهم البلاد العربية – أو خطر بباله فضج ما يروج له التافهون المفبركون للمبادئ والمواقف ، أو إنكار ما يروجون له من المغالطات والادعاءات والأكاذيب المنسوبة للإسلام ، والتي اعتقلت عقول البسطاء طويلا ، ولازالت تعبث إلى اليوم بأفئدة الأجيال ، بما تحض عليه من كراهية وعنف ، وما تحرض عليه من تطرف وقتل من خلال الأحاديث المدسوسة في صحيح الدين ، والتي وصل التآمر بها إلى حدوده القصوى ، بإدماجها في المناهج الدراسية وإضافتها إلى الكتب المدرسية ، بعد أن أُلبست أقنعة عاجية مختلفة عن أصولها المشرقة ، وحيكت بكلمات الوهم والخداع والكذب والضياع وتضليل الحقيقة -وجعلها على الرغم من قوتها ، ضعيفة أمام نفور البسطاء من إعمال العقل وكرههم لكل ما يحفز على التفكير ، وبليدة أمام كفرهم بالأدلة ، وتفضيلهم الشرك بالبراهين ، وغبية أمام تقديسهم للإشاعة على اليقين ، وإجلالهم للموروث على الدين- وغيرها من الأساليب العقيمة الخالية من المنطق والعقلانية ، والمفعمة بالشتم والتحقير ونصب مشانق إعدام العقل ، وتحطيم جسور التواصل والتفاهم الاجتماعي ، وتوزيع البلاغات والتهم المجانية كازدراء الدين الإسلامي ، التهمة الجاهزة التي ينساق الكثير من البسطاء للترويج لها وإشهارها في وجه كل من يدعو إلى إعمال العقل وتحفيزه على التفكير ، ويطالب بالخروج من ظلام الجهل إلى نور العلم ، وطي صفحة الاستبداد وافتتاح عصر الكرامة والحرية ، وينصبون لهم مشانق الإعدام كما فُعل مع الباحث “إسلام بحيرى” الذي قُدمت فيه بلاغات إلى النائب العام لمحاكمته وإغلاق برنامجه “مع اسلام بحيري” ، وذلك بتهمة ازدراء الدين وإهانة أئمته وإنكاره لأحاديث الجهاد وإحياء الخلافة ومواعدة حوريات الجنة ، الفرية التي ضللت بها العمائم البيضاء غالبية البسطاء . وليس اسلام بحيري وحده من يواجه هذا المصير ، والذي لن يكون الأخير فيه ، حيث أن هناك ادباء ورجال فكر وعلم أفذاذ -شهد لهم التاريخ بالمصداقية – اتهموا بنفس التهمة ، لا لشيء إلا لأنهم خاطبوا عقول الناس ومخيلاتهم.
الكاتب والمفكر الدكتور فرج فودة الذي شنت عليه جبهة علماء الأزهر هجوماً وأصدرت بيانا بتكفيره ووجوب قتله بسبب مؤلفاته التي طالب فيها بفصل الدين عن السياسة، وليس عن الدولة أو المجتمع ، كمؤلفه “حتمية الاجتهاد وإعمال العقل ، الحجاب والسفور ، هل كان نظام الخلافة إسلامياً حقاً ، الفرق بين الربا وفوائد البنوك.. والتي أثارت جدلا واسعا بين المثقفين والمفكرين ورجال الدين، واختلفت حولها الآراء وتضاربت ، إلى أن تم اغتياله . .
وكالأستاذ نجيب محفوظ ، الذي عمل الأزهر على منع نشر مؤلفه “أولاد حارتنا ” بإيعاز من جماعة إخوان الأزهر في التحريض عليه ونجا من محاولة اغتياله وأصيب بإصابات بالغة من متخلف سلفي لم يقرأ جملة من كتابه ” أولاد حارتنا “..
والدكتور سيد القمنى.. الذي طارده الأزهر حتى نيابة أمن الدولة لتصديه للإسلام السياسي وفكر الجماعات الإسلامية في معظم أعماله الأكاديمية.. والتي تلقى على إثرها العديد من التهديدات. كان آخرها باسم «أبو جهاد القعقاع» من تنظيم الجهاد المصري يطالبه فيه بالعودة عن أفكاره وإلا تعرّض للقتل، ما دفع بالسيد القمني لكتابَة رسالة بعثها إلى وسائل الإعلام والى مجلته روز اليوسف ، يعلن فيها توبته عن أفكاره السابقة وعزمه على اعتزال الكتابة ، صوناً لحياته وحياة عياله ، وقد عبر القمني عن استقالته بقوله ليست استقالتي من القلم وحسب، بل ومن الفكر أيضاً.
إن ما حدث ويحدث حولنا ، هو نتاج تلك الثقافة الغريبة ، التي برمج عليها تلقائيا العقل العربي ، فأضحى معها التقدم أو التقهقر ليس سوى التجسيد الحي لتلك الثقافة وما تتضمنه من أنماط التفكير ، الذي برمج عليه –مع الاسف-مجتمعنا بكامله ، وحدد في اتجاهه كل اهتماماته ومعارفه الدقيقة ومهاراتها العالية ووسائله المتطورة المكرسة للتخلف واحتقار الحياة ، وكراهية الآخر ، التي أصبحت لدى البعض من الشباب مبرراً قوياً لكره الدين ..
الوسومالازهر التصدي الدين الاسلامي