تشهد مدينة فاس في المغرب، على امتداد السنة، العديد من المهرجانات الفنية والتظاهرات الثقافية التي يشارك فيها فنانون ومبدعون من داخل المغرب وخارجه، من بينها (مهرجان الموسيقى العريقة، مهرجان الثقافة الصوفية،مهرجان الثقافة الأمازيغية، مهرجان فن الجاز، منتدى الحضارات والتنوع الثقافي وغيرها). وتستقطب هذه اللقاءات جمهورا عريضا من هواة كل فن من الفنون الموسيقية والأدبية والمشاغل الفكرية، مما يساهم في انتعاش ما يطلق عليه «السياحة الثقافية». فبجانب حضور تلك النشاطات، تتاح الفرصة للجمهور لاكتشاف مختلف معالم هذه المدينة الضاربة في القدم.
كما أن ذلك النشاط الثقافي والفني الدؤوب والمستمر على مدار العام يكرس السمة الحضارية التي التصقت بمدينة فاس باعتبارها «عاصمة علمية» للمغرب، لكونها تحتضن «جامعة القرويين»، أقدم جامعة في العالم (بحسب تصنيف المؤرخين الذي أكدته مؤخرا موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية)، بالقدر نفسه الذي احتضنت العديد من المدارس العلمية والدينية واللغوية منذ اثني عشر قرنا.
أسست مدينة فاس على يد السلطان إدريس الثاني ابن إدريس الأول بن عبد الله بن حسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله (ص) وزوج ابنته فاطمة الزهراء. وقد خلف إدريس الأول أباه على رأس الدولة الإدريسية بعد فراره من مطاردة العباسيين للعلويين في الشرق حيث قدم إلى مدينة وليلي التاريخية مصحوبا بمولاه المخلص راشد. بدأ البناء في مطلع عام 808 على الضفة اليمنى لنهر فاس «عدوة الأندلس»، حيث ضرب معسكره في مكان يعرف إلى اليوم باسم «جرواوة». وفي السنة الموالية، قام بتأسيس «عدوة القرويين» على الضفة اليسرى للنهر، حيث شيد في البداية قصرا لسكناه سمي بـ»دار قيطون» بجانب «مسجد الشرفاء». ثم بنى «قيسارية» (محلات تجارية) إلى جانب المسجد. بعده، شهدت فاس في عهد السلاطين الأدارسة الآخرين الذين اتخذوها عاصمة لملكهم، تطورا عمرانيا مهما، حيث أقاموا فيها الأسواق والدور والحمامات والفنادق والمساجد. وحيث إن المدينة شهدت إقامة وافدين عليها بعضهم من الشمال: «الأندلس» والبعض الآخر من الشرق «القيروان»، فقد أصبحت فاس مدينتين: «عدْوة الأندلس» و»عدْوة القرويين» (تخفيفا لتسمية القيروانيين). وكان من بين الوافدين من القيروان محمد بن عبد الله الفهري الذي توفي بعد وصوله إلى فاس، تاركاً لابنتيه فاطمة ومريم ثروة طائلة، فقامت فاطمة (أم البنين) بإنشاء مسجد في «عدوة القرويين» عرف بـ»جامع القرويين»، بينما قامت أختها مريم ببناء مسجد في «عدوة الأندلس»، وبذلك كان هذان المسجدان من أوائل المساجد المغربية التي شيدت بمبادرة فردية إنسانية، كما كان وقْف السيدتين المحسنتين فاطمة ومريم على المسجدين المذكورين من أوائل الأوقاف المضبوطة تاريخيا في المغرب.
إشعاع علمي متواصل
لم تأت شهرة «جامع القرويين» من كونه مسجدا تقام فيه الصلوات فحسب، وإنما جاءت من كونه أول جامعة إسلامية ضمّت حلقات الدروس، ودرست فيها الكيمياء والحساب والفلك، إلى جانب العلوم الدينية، وتخرج منها العديد من العلماء، كما توافد عليها علماء آخرون من شتى بقاع الأرض، مما جعل منها نقطة إشعاع بلغ تأثيرها إلى أوروبا وإلى المشرق العربي.
وبحسب المؤرخ المغربي الدكتور عبد الهادي التازي، فقد كان في فاس على عهد بداية حكم السلاطين العلويين (1076م) مئة كرسي لتدريس العلوم، موزعة على مختلف فروع «القرويين» المئتين والخمسين المنبثة في كل منعطف وفي كل زقاق، ومن تلك الكراسي يوجد عشرون كرسيا بجامعة القرويين نفسها، يجري العمل على نيلها على نهج الأكاديميات العصرية.
وإلى جانب الجامع/ الجامعة، توجد «مكتبة القرويين» الشهيرة التي أسسها أحد السلاطين المرينيين (أبو عنان)، وتشتمل في قسمها الداخلي على المؤلفات والكتب التي قدمها الملك الإسباني «دون سانش» إلى السلطان المغربي أبي يوسف يعقوب المريني، بمناسبة الهدنة التي وقعت بينهما سنة 1285م بالأندلس. كما تشتمل هذه المكتبة على مخطوطات محترمة، من بينها رسالة ابن رشد «البيان والتحصيل»، وهو مؤلف ضخم يقع في 638 صفحة مصنوع من رق الغزال، وكذلك كتب ابن رشد الصغير. وقد لعبت هذه المكتبة أدوارا مهمة في تنمية الحياة الفكرية بمدينة فاس، وجذبت إليها مؤرخين وعلماء أجلاء كابن خلدون ولسان الدين بن الخطيب وابن بطوطة وغيرهم من الفلاسفة والأطباء، وما زالت إلى اليوم تؤدي هذا الدور بالنسبة للطلب والباحثين الذين يجدون فيها ما يبتغون من مصادر تهتم بجميع المعارف.
وحيث إن التعليم كان مقتصرا على جامعي القرويين والأندلس، فقد كانت تعترض الطلبة الوافدين على فاس مشكلة السكن والإيواء، مما حدا بالملوك المرينيين، الذين تولوا الحكم في أواسط القرن الثالث عشر الميلادي، إلى إحداث مجمعات تعليمية تستغل للدراسة وفي الوقت نفسه لإيواء الطلبة الغرباء، فكانت كل مدرسة تتركب من عدد كبير من قاعات للدرس وحجرات للنوم ومسجد صغير يمارس فيه الطلبة واجباتهم الدينية، ومن أبرز المدارس التي بنيت في هذا الصدد: مدرسة الصفارين (أو النحاسين) التي شيدت عام 1320م، ومدرسة دار المخزن (أو مدرسة القصر)، مدرسة الصهريج، مدرسة القراءات السبع، مدرسة العطارين، المدرسة المصباحية، المدرسة العنانية، مدرسة الشراطين.
وقد جرى، خلال العقود الأخيرة، ترميم المدارس المتبقية وتوسيعها وإعادة زخرفتها ونقوشها الخشبية والجبصية، بحيث أصبحت عبارة عن قطع فنية رائعة يؤمها السياح ويقفون مبهورين أمام زخرفتها والذوق الفني الذي تمتع به المشرفون على بنائها وزخرفها. وجل هذه المدارس ما زال موجودا إلى الآن، يشهد بعظمة هذه المدينة وبمستواها الحضاري والعلمي المتفوق.
من بين المعالم الحضارية الكبرى التي ميزت حكم المرينيين في عاصمة ملكهم فاس: إنشاء دار السكة لضرب النقود، ودار لصناعة الأسلحة، وصنع «الساعة المائية» بالمدرسة البوعنانية، وإحداث دولاب أو ناعورة كبرى لنقل الماء من الوادي عبر قناة تمر بأعلى الدار الذي يشكل الواجهة الرئيسية لـ»باب المكينة»، حتى تصل إلى «حديقة المصارة»، بالإضافة إلى تشجيع الحرف والصناعات وتنشيط الاقتصاد المحلي.
صناعات وحرف تقليدية
وتفيد بعض الوثائق، ومن بينها كتاب أعده المجلس البلدي لمدينة فاس، أن تصميم هذه المدينة، منذ تأسيسها، تم بطريقة تمكن من الاستجابة لمتطلبات الحياة الاجتماعية والنشاط الاقتصادي لسكانها، وبكيفية كانت تضمن لها أمنها وتسهل لها الدفاع ضد الهجمات المحتملة (مثلما هو حال معظم المدن العريقة في المغرب). فكان يحيط المدينة سور عظيم تتخلله ثمانية أبواب، كما تعلوه تحصينات ناتئة تزيده مهابة وجلالا. وعلى مقربة من الأبواب أقيمت من الناحية الشرقية معاصر للزيتون ومصانع للصابون. وإذا تقدمنا قليلا نحو داخل المدينة انطلاقا من الأبواب، وجدنا أماكن عمومية واسعة أعدت لبيع الحبوب بالجملة. كما أقيمت فنادق لإقامة الوافدين ومحلات للصناعة والتجارة وخزن الأسلحة والبضائع ومشاغل للحياكة وسبك المعادن… وغيرها.
وخارج المدينة، وُظّفت مياه النهر في تشغيل المطاحن التي بلغ عددها في إحدى الحقب التاريخية إلى 400 مطحنة تدور بقوة المياه، كما وظفت مراكز الدباغة العديدة، حيث يعتبر الماء ضروريا لهذه الصناعات المتعلقة بالجلود والصوف.
حراس كنوز الأجداد
وما زالت دروب مدينة مدينة فاس وأزقتها وأحياؤها، حتى أيامنا هذه، تشهد حركية منقطعة النظير، إنها الحركية التي يحدثها الحرفيون وهم يبدعون في صنع تحفهم الفنية التي تنال على الدوام إعجاب القاصي والداني. إنهم يعملون حراسا بدون كلل على كنوز أجدادهم الذين استودعوهم إرثا ثمينا، فيه من المقومات ما يدعو إلى المفخرة بحضارة طيبة الأعراق. فداخل أسوار فاس، تحار أذهان الزوار أمام ما تجود به أنامل الصانع التقليدي من منتجات فنية اعتمد صانعوها على أدوات بسيطة. وتتجسد روعة هذه الفنون في حرف متعددة وعلى مواد مختلفة، فهناك الخياطة التقليدية التي تشمل الزرابي والألبسة والمنسوجات التقليدية، وهناك الفخار والفسيفساء التقليدي المعروف بالزليج والمصنوعات الجلدية ولاسيما الأحذية الرجالية والنسائية التقليدية والمعادن من حدادة فنية ومجوهرات وأوان نحاسية وفضية، وكذلك الصناعة الخشبية والمنتجات النباتية والنقش على الجبس ومستحضرات التجميل التقليدية…
فرادة وخصوصيات
كانت مدينة فاس، على الدوام، عاصمة للدولة المغربية، إنْ سياسيا أو علميا أو روحيا، ورمزا لاستمراريتها ومقاومتها وأصالتها، ومن ثم، كان السعي دوما إلى ترسيخ وتلميع الوظائف الروحية والثقافية لفاس، فدأب العديد من سلاطين المغرب المعاصرين على تكرار الزيارات لهذه المدينة وأداء الصلاة في جامع القرويين، كما جرت العادة أن تشتمل برامج الزيارات الرسمية للقادة العرب والمسلمين على مرحلة يزورون فيها هذه العاصمة الروحية، وفي المدينة نفسها انعقد مؤتمر القمة العربي الثاني عشر المعروف بـ»مؤتمر فاس» (تشرين الثاني/نوفمبر 1981 وايلول/سبتمبر 1982). كما عقدت فيها مؤتمرات دولية ذات صلة بصوت التراث الإسلامي والعالمي. وللتأكيد على رمزية فاس والحفاظ على طابعا الأصيل، وجه المغرب سنة 1980 نداء إلى منظمة «اليونيسكو» من أجل إنقاذ المدينة العتيقة، وهو ما ترتب عنه في السنة الموالية تصنيفها تراثا عالميا وإلقاء نداء عالمي لإنقاذها.
تحتوي فاس على معالم تاريخية متنوعة، يمكن أن نذكر من بينها على سبيل لا الحصر:
ـ باب المكينة: توجد هذه الساحة في الجهة الشمالية لـ»فاس الجديد»، كانت باب المكينة المدخل الرئيسي للقصر الملكي، وتم بناؤها سنة 1886، أيام السلطان الحسن الأول. وتتكون من ساحتين، تحيط بهما أبواب تسمى «المشور»، حيث كانت تجري الاحتفالات الرسمية قديما للقاء الوزراء والوفود الدبلوماسية.
ـ باب أبي الجنود المشهور بــ»بوجلود»: تمت تهيئة هذه الساحة في عهد المرابطين في القرن 11 الميلادي، ووقع تجديد بابها الكبير مرات عديدة، وتمت إعادة بنائها سنة 1913 على عهد السلطان العلوي مولاي حفيظ، ويؤدي باب بوجلود إلى ساحة كبرى محاطة بالأسوار، تمت صيانتها خلال السنين الأخيرة.
ومن الأبواب التاريخية الأخرى لمدينة فاس: باب الفتوح، باب الخوخة، باب المحروق، باب الحديد، باب الدكاكين، باب البرجة، باب السمارين، باب جبالة، باب الكيسة، باب سيدي بوجيدة، باب شمس، باب زيات.
ـ متحف البطحاء: من القصور القديمة التي بناها السلطان الحسن الأول في نهاية القرن التاسع عشر (َ1873 ـ 1894)، هذه البناية الأندلسية كانت عبارة عن مكان اللقاءات الملكية، تحولت منذ 1915 إلى متحف للفنون والتقاليد الفاسية، وأُعلنت معلمة تاريخية سنة 1925.
ـ دار التازي: بني هذا القصر سنة 1900، صار مركزا للإقامة الفرنسية من سنة 1914 إلى سنة 1956. ثم توالى على السكن فيه عاملان (محافظان). واتخذته جمعية فاس سايس، بعد ذلك، مقرا لها.
ـ قصر عديل الذي شيد في أواخر القرن السابع عشر الميلادي على يد أحد تجار المدينة، عبد الخالق عديل، الذي عين في عهد السلطان مولاي عبد الله (1757 ـ 1728) حاكماً عليها. بعد فترات من المجد الهندسي، صار القصر يتهدده الخراب، وبعد عملية ترميم جديدة جرت في 1999 تمكن قصر عديل من استعادة بريقه.
كما تحتوي على أسوار تاريخية وحدائق غناء وبنايات أصيلة وأضرحة كضريح المولى إدريس الأزهر الذي يعد إلى جانب جامعة القرويين، المعلمة الأكثر شهرة والأكثر جذبا للزوار بمدينة فاس.
كل ذلك يجعل منها وجهة سياحية ذات قيمة تاريخية وروحية وترفيهية. ومما يقوي من مكانة فاس توفرها على مطار دولي، ووجودها في قلب خط سكة الحديد الرابط بين مدن الساحل الأطلسي والحدود مع الجزائر. كما أنها لا تبعد عن المنتزه الصحي مولاي يعقوب ومحطة المياه المعدنية سيدي حرازم وجبال الأطلس المتوسط المتوفرة على بحيرات وأنهار وعيون ومحطات للتزحلق على الثلج، وهذه المعطيات كفيلة بجعلها قبلة للسياحة الدولية والداخلية. والملاحظ أن نوعا من السياحة شهد تطورا ملحوظا، وهو السياحة الإفريقية، التي يقوم بها المريديون التيجانيون الوافدون من بلدان جنوب الصحراء، خاصة من السنغال، لزيارة الزاوية التيجانية التي يوجد مقرها المركزي في مدينة فاس.
الطاهر الطويل