بلاغة الصمت والبوح في ديوان (مواويل الشجن) للشاعرة سميرة فرجي

       ولا مراء في كون القصيدة العموديةـ حتى لا نقول التقليديةـ لا زالت في الوقت الراهن وستظل تمارس تألقها الوهّاج وتثبت وجودها الفعّال وتمارس تأثيرها المستمر على القارئ، ودونك كثير من الشواعر والشعراء الذين أثبتوا حضورهم في الساحة الثقافية بالمغرب وخارجه عن جدارة واستحقاق، لأنهم ظلوا أوفياء لهذا النمط الشعري الأصيل الذي يخترق الأزمنة ويتواجد في غيرها بقوة  واستمرار على مر العصور التاريخية، ولا غرابة في ذلك ما دامت القصيدة العمودية تمتلك قوة تواجدها بامتلاكها لنظام دلالي[1] داخلي يؤطر مقوماتها الفكرية والفنية والجمالية.

       وإذا كان التكلف قد يغلب على بعض الكتابات التي تنتمي إلى هذا النوع من الكتابة الشعرية فإن اللافت للنظر  حضور أصوات مائزة وتجارب شعرية راقية أبهرت وتبهر القارئ وتثير فضوله وترجعه إلى زمن القصيدة العمودية الجميل في أقوى لحظاته وأبهى تجلياته وأرقى نماذجه الخالدة لأنها تصدر في ذلك عن طبع سقيل وذوق رفيع ودربة عميقة، من هذه الأصوات الشاعرة المغربية سميرة فرجي التي ظلت وفية للقصيدة العمودية في إصدارها الثالث  (مواويل الشجن)،                                                          موضوع هذه المقاربة، بعد أن أصدرت ديوانين (صرخة حارك) عام 2010م، و(رسائل النار والماء) عام 2013م.

       وإذا كانت مقاربات الأعمال الفنية والأدبية والشعرية تطرح على القارئ الناقد عدة أسئلة وإشكالات تختلف باختلاف المنظورات القرائية المعتمدة وتتعدد بتعدد التجارب والحساسيات الشعرية التي تشكل مدونة الشعر الحديث وترسم معالم تضاريسه المتشعبة، فإن قراءة ديوان (مواويل الشجن)                                                          تُؤطِّر زاويةَ نظرها الخاصةَ وموقعَها وموقفَها حين تُراهن على بتبني بلاغة وجدلية الصمت والبوح على مستويات تكوينية وشعرية مختلفة، وهي أطروحة تقترحها قصائد الديوان:

              ويَا ليْتني صَمْتٌ يغُازِلُ صَمْتَهُ // لأسألهُ إنْ كنْت أمْلكُهُ وَحْديǃ

              ويا ليتني بوْحٌ لأنْطـقَ بـــــاسْمِهِ // وأغْمرَ قلْبي بِالْمـَـحبَّةِ والْودِّǃ[2]

      ـ المنظور التشكيلي/ السواد والبياض:

        يغطّي الديوان مائة وواحد وتسعين صفحة، أنيق في شكله الخارجي، يثير متصفحَه منذ البدء من خلال غلافه المتين، ونوع الورق المقوى الذي صنع منه، ومن خلال حجمه المتوسط مما يسهل حمله. ويلاحظ القارئ فراغ وبياض الصفحات التي تقع يسار الكتاب، أي يمين القارئ، وهو ما يساعد على قراءته، فبين كل صفحتين من السواد يجد القارئ صفحة فارغة، وبين كل صفحتين فارغتين يقرأ تتمة القصيدة السابقة أو بداية قصيدة جديدة. والصفحات الفارغة لا تحمل ترقيما لكنها تُحتسَب عند ترقيم الصفحات المكتوبة ممّا يجعلها تشكل نصف الديوان، وتؤشر على تعاقب وتفاعل وجدلية البياض والسواد، النور والظلام،  البوح والصمت.

         جاء عنوان الديوان مركبا تركيبا إضافيا مؤلفا من مكونين إسميين؛(مواويل) جمع مَوّال وهو فن جديد من الفنون الشعريّة المستحدثة التي ظهرت بين الطبقات الشعبيّة في بلاد المشرق الإسلاميّ في إطار التجديد والتطوير في نظام القصيدة العربيّة الموروثة من حيث وحدة قافيتها طلبًا للسهولة واليسر بين عامّة الناس تأليفا وغناءً وسماعًا، ويُغنَّى الموّال عادة في صحبة ناي أو ربابة. وتحيل في العنوان على قصائد الديوان، وقد استعملت الشاعرة هذه الكلمة بصيغة المفرد في عنواني قصيدتين (موال الشجن) و(موال الروح). و(الشَّجَنُ) الحزن والجمع أشْجَانٌ وقد شَجِنَ من باب طرب فهو شَجِنٌّ، ويقال الحديث ذو شجون أي يدخل بعضه في بعض؛ وتحدد الكلمة الثانية في العنوان صفة الكلمة الأولى، وهي وفق ما سبق ذات بعدين دلالين وبلاغيين تناقضين ومتجادلين: الحزن والفرح، الصمت والبوح.

          وتعضد لوحة الغلاف هذه الافتراضات الأولية إذ تم إقحامها في فضاء أسود يخيم على الغلاف كله، وتعكس اللوحة منظر غروب الشمس على المحيط وحالة الجو المضطرب والمتقلب، وقد غطت السحب السوداء الأفق مما ينم عن ضبابية الرؤية، إذ يبدو ضوءُ الشمس باهثا، والزورق راسيا فوق سطح البحر الذي استحالت زرقته إلى سواد، أما البياض فضعيف تعكسه بعض السحب المتناثرة في حين تبدو أشعة الشمس متوارية خلف الغيوم والسحب الدّكناء. وتنسجم اللوحة مع العنوان انسجاما قويا بالتأشير على دلالات الاضطراب والحزن والشجن،  ومعاني الحنين والشوق والجمال.

        ويحتضن الديوان إحدى وعشرين قصيدة تثير القارئ بعناوينها التي صيغت صياغة محكمة، وجلها جملٌ شعريةٌ تنتهي بنقط الحذف وعلامات التعجب والاستفهام،  ومقتبسة من النصوص الشعرية نفسها، إلا ما جاء تقريريا وهو نادر، وهي على الشكل التالي: (موال الشجن)، (لن أخطو الخطوة الأولى…ǃ)، (طيف)، (سأشهد جهرا بأني لك…)، (رسالة من الحدود)، (مكابرة امرأة)، (وجع الحنين)، (في حضرة الوله)، (يا ليتني…ǃ)، (على وتر الجنونǃ)، (على ماذا العتاب؟ǃ)، (قل أي شيء…ǃ)، (قال الطبيب…)، (تفارقني وأرْضَى بالفراق…)، (أخاف…ǃ)، (لن أعود…ǃ)، (ما السر؟)، (ما قاله…ǃ)، (موال الروح)، (الوصايا العشر)، (ارجع…ǃ).

       تنبعث من رماد أشجان قصائد الديوان مواويل حزينة مفعمة بالعشق والشوق والحب من جهة وبالأسى والكمد والسهد من جهة أخرى تعكسها الشاعرة سميرة فرجي عبر مستويات تكوينية وفنية مختلفة يؤطرها النظام الدلالي للقصيدة العمودية التي اختارتها الشاعرة قالبا فنيا لتعبر من خلاله عن تجربتها الشعرية بأبعادها الفكرية والفنية والجمالية.

      ـ المنظور الدلالي/ الذات والآخر:

      إذا تأمل القارئ معجم قصائد الديوان يلاحظ تفاعل جملة حقول معجمية، أهمها الحقل الدال على الغزل والحزن، وتؤثثه ألفاظ مثل: (إشجان،الضنى، الصبوات، اللوعة، المواجع، حرقة، معذب، أحزان، وجع، سلوان، الضنى، العنا، الجفا، عذاب، أشواق، حب، همٌّ، الوصل، العشق، هواك، متيم، المجنون، العاشق، الولهان، الهوى، الجراح، غرام، عاشق، الوصال، صبابة، هيام، الْتياع، مغرم، الغرام، الجفا، حنان، حبيب، الجوى، أقبل، حبيبي، الوداد، حنين، الوالهين، المعاناة، السهد، صبابات، التجافي…) والمعجم الدال على الطبيعة والمكان (بحر، الموج، المد، المكان، الليل،  أحجار، تيار، إعصار، البدر، الظلام، دعم، ظل، الفلك، الجزائر، الوطن، أرض، ماء، السماوات، البدر،نسيم، بركان، سفن، الأحجار…). والمعجم الدال على الذات (العين، القلب، كياني، دمي، النبض، صدري، خفقاني، الفؤاد، أحضاني، عمري، الروح، أنا، أسراري، عيني، عروقي، جلدي، عقلي، صدري، بالي، أهلي، الفم، اللسان، الخدود…)

        يستطيع قارئ ديوان (مواويل الشجن) للشاعرة سميرة فرجي أن يصنفه استنادا إلى نوعية معجمه ضمن الاتجاه الرومانسي، على اعتبار أن التجربة الشعرية تتمحور حول الذات، ذلك أن كل النصوص الشعرية التي يحتضنها الديوان توظف ضمير المتكلم الدال على المفرد في أغلب الحالات، والدال على الجمع في حالة واحدة مع قصيدة (رسالة على الحدود) التي تعبر فيها الشاعرة عن           حبها الكبير لأرض الجزائر وحرقتها وحزنها على فراق أهلها:

                      كَبُرَ الشَّوْقُ يا جزائرُ فينا // وبَكينـا بأدْمُعِ الـْوالِهـيــنَا

                      فَرَّقَتْنا الْأقْدارُ ظُلْماً وقَهْراً // وَفُجِعْـنَا في أهْلِنا وذَوينَا

       وتقوم مجمل قصائد ديوان (مواويل الشجن) على الحوار بطرق فنية مختلفة تؤثث مقام التواصل وتتحكم في هندسة النصوص الشعرية ومستوياتها الخطابية، وحتى عندما لا تجد الشاعرة مُحاوِرا تعمد إلى خلقه فنيا، فتستحضره على وجه المجاز. من أمثلة ذلك كاف الخطاب الذي يحضر بقوة في كثير من النصوص ويدل على المحبوب أو ينزل منزلته، على غرار ما تعود عليه القارئ في شعر الغزل العذري، وهو ما يجعل قصائد الديوان تتفاعل مع هذا الغرض الشعري في أرقى نماذجه،  وتتكرر كاف الخطاب في قصائد كثيرة، ولا تُحدده الشاعرة بقدر ما تركز على صفاته ومعانيه وحالات حضوره مما يجعله يظل مفتوحا على تأويلات عدة، كما نجد في قصيدة (في حضرة الوله):

كَأنّي خُلِقْتُ وقلبي مَعَـــكْ // وأتبــعُ قَلـْـبــي لِكي أتْبَعَكْ

رَسَمْتُ مقامكَ في مُهْجَتي // وَفيكً حَـــلَلْتُ لِكَي أتْبَعَكْ

 وَجَمَعْتُ أشْتاتَ حُبٍّ سَمـا // وَفيك انْتَشَرْتُ لِكَيْ أجْمَعَكْ[3]

       وفي كثير من النصوص الشعرية يؤشر ضمير المخاطب، على خلاف ضمير الغائب، على الدينامية التي تخلقها صيغة التخاطب داخل قصائد الديوان مما يجعل القارئ يتفاعل مع المقروء وينخرط في عالم النصوص الشعرية للديوان ويتتبع نموها واكتمالها من بدايتها حتى نهايتها. كما تؤشر الكاف الدال على ضمير المخاطب بمختلف تشعباته ومظاهره على النبرة الاحتجاجية الممثلة في المواجهة وعدم الهروب من الواقع ومن الرجل والكشف عن الحقائق بجرأة واقتدار، فلا هروب ولا نكوص ولا ممانعة، فيما يكشف عن الذات الشاعرة:

بِحَقّ الفُـــؤاد الّذي دَلَّلَكْ // وَسِحْر جُفــــوني الّذي جَللَكْ

بِحَـقِّ الْـعُهــــودِ الَّتي بَيْننا // وتــاجِ الْغــرام الّذي كَللَكْ

 تدللْ وقل لي لماذا الجفا؟ // وكيف رحلت ومن رحَّلَكْ؟![4]

        ويرد المخاطب محددا في بعض النصوص الشعرية إلا أن ذكره لا يعني أنه وحده المقصود لذاته بقدر ما يُتَّخذُ كرمز دال على قيم كثيرة. وهذا يدل على أن دلالة ضمير المخاطب على الحاضر لا تعني الحضور الفعلي أوالجسدي أو العيني للمحبوب بقدر ما تؤشر على مكانته في القلب والوجدان والشعور، فهو حضور معنوي يعكس جدلية ثنائية القرب والبعد، الوجود والعدم، الصمت والبوح في الديوان، ويرقى بالدلالات إلى معاني العشق الطهراني الذي يسمو بالذات إلى مراقي التبتل والتأمل والتدبر في الذات والمخلوقات والكون، فتلج عالما بلا قيود ولا حدود ولا حواجز، عالم العشق الروح واليقين.

 بَعيدٌ عن الْعَيْنِ، لكِن أراكْ // بقَلْبي.ورُوحي تُناغِي بَهاكْ

وَحـينَ تَغيـــبُ كنَجْمٍ نَأى // أكـــادُ أقَبِّلُ شَوْقـــا ثـَـراكْ

                    وأطـْـلُبُ وَصْلَكَ يــــا آسِري // عَساكَ تَحِنُّ إلَيَّ عَسـاكْ

                 …ومــا لي رَجاءٌ ولا حاجة // قُبَيْلَ رَحــيلــي إلا رِضاكْ[5]

      ولا تبدو الشاعرة متفردة فيما تعانيه كأنثى بقدر ما تتجلى كذات موجودة في الواقع، وتجد ملاذها في الرحيل إلى عوالم مثالية عبر الحلم والأمل والحنين والتذكر رغبة في التخلص من الواقع المرفوض الذي لا يحقق لها توازنها العاطفي والوجداني، الاجتماعي والفكري،  الوجودي والرؤيوي، فلا تملك النفس غير الاحتماء والارتماء في عالم الطبيعة وعالم القصيدة كليهما لتثبت وجودها وكينونتها وقيمها النبيلة التي تنشدها وتتمنى تحقيقها على مستوى الواقع.

     ـ المنظور الفني/ التناظر والتضاد:

       على الرغم من التزام الشاعرة بالبناء العمودي في نظم الشعر إلا أنها تقيم ثورة قوية وحقيقية من داخل هذا البناء ومن داخل البيت الشعري بتفردها في ظل الالتزام، وبجل قواعده الصارمة لاعتبارات عدة، أولها أن الخروج عن العروض الخليلي إمكان غير مُكَلِّفٍ لأنه مُتاح للجميع، في حين أن الالتزام هو الاختيار الصعب، وثانيها أن الشاعرة تسعى إلى التفوق على النموذج من داخله بخلخلة جملة ثوابت وتقاليد شعرية دون أن تهد البيت هدّاً أو تدك البناء العمودي دكّاً.

      ويلاحظ القارئ هيمنة الأسلوب الإنشائي، بمختلف أشكاله مقارنة بالأسلوب الخبري، بما في ذلك من استفهام وتعجب وأمر ونهي وتنمي، وهو ما ينسجم ويتناغم مع الحالة النفسية للشاعرة المشحونة بعدة إحساسات عاطفية ووجدانية، يطبعها الوجد والشوق والحنين والترقب. واستنادا إلى كون الأسلوب الإنشائي لا يصح الحكم عليه بالصدق أو الكذب، لأنه لم يقع بعد، إذ يجوز اعتباره من المؤشرات الدالة على الصمت، والأسلوب الخبري مؤشر على البوح. إلا أن هذا لا ينفي كون الأسلوبين يتفاعلان معا في بناء شكل القصيدة وصرحها الهندسي. وإذا كانت أمثلة الأسلوب الإنشائي مطروحة في الديوان، فإن من أمثلة الأسلوب الخبري الأبيات الشعرية الأخيرة من كل قصيدة، والتي تأتي كمسك الختام على شكل حكمة، مثل قولها:

              وما كلُّ مَنْ أذْرى الدُّموعَ مُتَيَّمٌ // وما كُلُّ مَنْ غَنّى الصَّبابَة مُغْرَمُ[6]

              إنَّ الْمَحَبَّةَ نِعْمَةٌ يا ســـــــــادتي // وبِدَفْنِها مــــا عادَ قَيْصَرُ قَيْصَرا [7]

     وتتجلى نبرة البوح الإخبارية أيضا في قصيدة (الوصايا العشر) والتي توجهها الشاعرة على سبيل المجاز إلى قيصر رمز الصولة والقوة، وتنسج الشاعرة حوارا شعريا بين المحبوبة الشاعرة رمز الحب، وقيصر رمز الجبروت، والعذال رمز الوشاة والأعداء، وتَقْهَرُ الشاعرةُ قيصرا بسلاح الحب والجمال الذي له الغلبة والنصرة، وهو ما أثار استغراب الأعداء في قولها:

             مَنْ أنْتِ؟ـ قالواـ كَيْ تَجُرِّي قَيْصَرَا // لِيذُوقَ مِنْ شَهْدِ الْغَرامِ ويَسْـكَرَا

            عَصَفَتْ رِياحُهُ بِالْعِدى في رَمْشَةٍ // وَبِرَمْشَةٍ مِنْ مُقْلَتَيْكِ تَقَهْـقــَـــــرَا؟![8]

      إن استعمال الشاعرة للأسلوبين الإنشائي والخبري وجه من أوجه التضاد المتعددة التي تراهن عليها قصائد الديوان على مستويات تكوينية وشعرية متعددة من قبيل الجمع بين المخاطب والغائب، والتصريح والتلميح، بين الصمت والبوح، أي بين التحديد واللاتحديد عموما، أما التناظر على مستوى الاختلاف فيبدو واضحا في تثبيت هذه الخصائص جميعها من أخل التميز في القول والفعل.

                 أجَدِّدُ كُلَّ حُلْمٍ تَبَتغــــيه // وأهْدِمُ في الْهوى ما كُنْتَ تَبْني

                 وَقَدْ أسْقيكَ مِنْ كأسي سَلاما // وَأقْلبُ عنْوَةً ظَهْرَ الْمِجَنِّ[9]

         ـ المنظور الجمالي/ الصورة والرؤيا:

          إن قارئ ديوان (مواويل الشجن) يكتشف بالفعل أن الشاعرة استطاعت في ظل الالتزام الوفي لضوابط القصيدة العمودية أن ترسم باقتدار رؤيتها الشعرية المتفردة وأن تعبر عن تجربتها المميزة وتوصل رسالتها الفنية والجمالية الراقية، وأن تبوح بأسرارها، وتبرز تفوقها كأنثى، وقدرتها على أن تعبر عن شعورها نحو الرجل بمفهومه ودلالاته الرمزية، وأن ترسم  بعمق عواطفها وإحساساتها وأن ترفع صوتها معلنة عن ثورة شعرية من داخل القصيدة العمودية، من خلال التأكيد على فروسيتها في ميدان الشعر الذي ظل في الغالب، بمعناه الفحولي، حكرا على الرجل:

              وَمــا هَدَّ ليْلى الْعامِريَّةَ لاعِجي // وَلا مَنْ تفانى في هَواهــا كُثَيِّرُ

             ولا هِنْدُ أو أسْماءُ ذاقَتْ صَبابَتي // ولا أوْجَعَ الْخَنْساءَ مِنّي التَّذَكُّرُ

            وحَيَّرْتُ نِصْفَ الْعالَمينَ بِحَيْرَتي // وما زِلْتُ في هذا الْمُصابِ أُحَيِّرُ[10]

       وتعكس الشاعرة سميرة فرجي القاعدة وتقلب الصورة والمعادلة المتعارف عليها في الغزل العربي حول المرأة، والتي ظل فيها الرجل/الشاعر هو المرسل والمرأة/المحبوبة هي المرسل إليه وتغير الشاعرة منظورها هذه المعادلة في زمن قلَّ فيه الحب العفيف، أو انعدم، وما صدود الرجل إلا تعبير رمزي عن انفصام العلاقة:

                أخْشاكَ يا رَجُلا قَدْ كان يَجْرِفُني // إلى هَلاكِي كَما أنَّهُ النَّهـْــرُ[11]

                مَا أتْعَسِ الدُّنيْــا بِكُلٍّ نٍسائـِــها // لَمَّا يَصومُ عَنِ الْكلَامِ رِجـالُ[12]

     والغريب في هذه المعادلة أن الوصال لا يتحقق في تجربة الشاعرة لأن رؤيتها تتأسس على لعبة الكَرِّ والفَرِّ والسير في الاتجاه المعاكس، ولذلك تغدو قصائد الديوان صرخة قوية في وجه الآخر الذي يجسد المعادل الرمزي للشاعرة وطَرَفا مركزيا في الرؤيا التي تسعى الشاعرة إلى تحقيقها على مستوى الواقع من خلال نصوص الديوان قولا وفعلا حقيقة وتخيلا حاضرا ومستقبلا.

      وعبر تشكيلات خطابية تختلف باختلاف النصوص الشعرية يحضر الآخر ويتمثل للذات الشاعرة، باعتبارها كائنا إنسانيا، في الرجل الذي يجسد للشاعرة كأنثى طرفا لا تتحقق اللحظة الشعرية بدونه، وقد يقترن في سياقات شعرية متعددة ببعض الظواهر التي تعاني منها الذات الشاعرة مثل الظلم والإهمال والتهميش والإقصاء والنسيان.

       وإذا كانت الشاعرة تعتمد وحدة الوزن والروي والقافية، وتلتزم بالتصريع في مطلع كل قصيدة، وتتبنى بناء شعريا متناظرا يحقق التوازن بين الصَّدْر والعَجُر، وتحسن حبك نهاية القصيدة وختمها بحكمة تلخص عصارة مضمونها، فإنها بالمقابل تعتمد تعدد الأوزان والقافية والروي، وهو ما يتضح جليا للقارئ عندما يقارن بين قصائد الديوان التي راهنت فيها الشاعرة على التعدد والاختلاف في أوزان البحور الخليلية التي نظمت عليها قصائدها، وهي حسب حضورها وأهميتها: البسيط، والكامل، والمتقارب، والطويل، والخفيف والوافر، والمضارع.

     وتمتلك الشاعرة سميرة فرجي ناصية اللغة فتطاوعها في رسم عوالم القصيدة وفق الرؤيا الفنية التي تراها ملائمة للموضوع الذي توَلِّدُه القصيدةُ ذاتُها وقد لا يكون محددا سلفا، وتحتكم الشاعرة في بناء صرح القصيدة على مخزونها الشعري ورصيدها المعجمي المختلف الذي يمنحها إمكانات تعبيرية تستقيها من ذخيرتها المكتسبة التي هي في الأصل رحيق مقروئها الفكري والأدبي والشعري الذي ينم عن تجربة عميقة.

      تبحث الذات عبر لغة تصويرية عن متعة العشق في كل شيء في الوجود من خلال تجلياته الجمالية، ويغدو القبض على هذه المظاهر مطلبا عسيرا ولحظة هاربة، تؤرق النفس وتحزنها حزنا شديدا، وتصبح القصيدة بوحا شفيفا لذات تعاني الهجر والشوق وتكاد تذوب هياما ووجدا في الآخَرِ الْممتد في النفس الشاعرة والمخترق لكيانها. والأسلوب المهيمن في رصد مواطن الجمال مجازي بامتياز، فالْفعل في الغالب يسند لغير صاحبه على وجه الاستعارة والمجاز، وتُلْحِقُ الشاعرةُ بالأشياء صفات ليست لها وتعتمد أسلوبا تصويريا يشخص الإحساسات والأفكار والمواقف ويقربها بحيوية وحركية ودقة.

      ويظل الحب عند الشاعرة تحررا وانعتاقا من قيود اليأس والظلم والشر توقا نحو الأمن والأمان والسلم والسلام ولا يتحقق لها ذلك إلا عبر فتح أبواب الأمل والتمني رغبة في تحقيق الوصال، وقبل الرحيل، وهو وصال صعب تحققه لأنه يتعالى عما هو مادي ودنيوي وعابر ويصبو إلى ما هو روحي، وبيان ذلك قصيدة (موال الروح). وتفوح من قصائد الديوان نسمات شاعرية متدفقة، وتؤثثه صور شعرية محبوكة تحفز القارئ على تتبع مكامن الجمال في الألفاظ الموحية والعبارات الرقيقة في شدو رومانسي رقيق، ويتنسم القارئ في شعر الشاعرة سميرة فرجي نفحات من شعر ابن زيدون وقيس بن الملوح وإيليا أبو ماضي وغيرهم من الشعراء الفحول.

      لا شك أن قارئ الديوان (مواويل الشجن) يستشف أن قصائده ولدت بعد مخاض عسير، وأن وراء نقش قصائده معاناة كبيرة، وأن خلف استوائها تمثلا قويا لقواعد الشعر العربي، واستيعابا رصينا وجيدا لمقومات القصيدة العربية في أزهى عصورها وأرقى نماذجها التراثية الأصيلة والخالدة، وأن الشاعرة اعتنت بمولودها الثالث عناية مركزة لأنها أرادته أن يكون ديوانا متفرِّدا ومُتألقا ومُدْهشا فكان لها ما أرادت.

[1]  ـ قراءة القصيدة التقليدية، إدريس بلمليح، الطبعة الأولى، دار القرويين، 1999.

[2]  ـ قصيدة، يا ليتني…ǃ، ص 79،81.

[3]  ـ قصيدة، في حضرة الوله، ص65.

[4]  ـ قصيدة، سأشهد جهرا بأني لكْ…، ص 31.

[5]  ـ قصيدة، موال الروح، ص 161.

[6]  ـ قصيدة، طيف، ص 29.

[7]  ـ قصيدة، الوصايا العشر، ص 171.

[8]  ـ نفسه، ص 671،169

[9]  ـ قصيدة،على وتر الجنون!، ص89.

[10]  ـ قصيدة، أخاف…ǃ، ص 129.

[11]  ـ قصيدة، تفارقني وأرْضَى بالفراق…، ص 119.

[12]  ـ قصيدة، قل أي شيء…ǃ، ص 109.