من جديد عادت عاصمة أوروبا بروكسيل إلى مدينة الأشباح لتشهد رأس سنة ميلادية مظلمة لا تشبه ليال سنوات خلت كانت فيها عروسة الأنوار تتلون بأبهى الألوان وتتطاير شهبها مفروقة بكل الألحان كما يتطاير النوم من جفون الساهرين المعتكفين على المكان والأطفال الصغار.
ماتت البسمة في الحناجر وتجمدت العبرات داخل المقل لتضيء هدوءها شموع باكية حزينة تتوسط جانب دور تعبد أو معلقة على جدار بيوت مرعوبة لم يترك لها صوت التهديد أي حظ في دمعة لعام مضى كئيبا أو قبلة على خد عام وليد تتمنى أن يكون من جديد عام سعيد ومجيد بعد كل الوعيد والتضييق والتهديد.
كل شيء زاد توترا في هذه الليلة مع فراغ محلات الباعة وتشدد أعصاب التجار ورعب يملأ الزمان والمكان يظهر فيمن خلال حركات بعض المواطنين ومن سكونهم ومن تدبدب نظراتهم الخجولة التي تترقب شيئا كبيرا مهولا لم يعتادوه كان متوقعا ولم يقع بعد، شيئا يفوق تصوراتهم وانتظار اتهم، تخيلاتهم وتوقعاتهم يكبر من كل ما تصوروه قبل سنة.
كان الشارع يتسع لجميع المارة منهم من يهرول ولم يبالي وغيره من يحمل هموم الوطن والمجهول تجره خطى وانية وهو شارد الفكر حائر الطرف لا يعي لما يدور حوله، حتى يوقظه وقع خطوات وحدات الجنود المشاة أو تثير انتباهه وفضوله مرور وحدات من الشرطة التي تحادي في بعض الأحيان مسار طريقه وهي على أتم استعداد متأهبة للانقضاض على أي شيء مشبوه ينطق ببنت شفة أو يتحرك عكس التيار لإفراغ خزانات بنادقها الأوتوماتيكية. وفي أحسن الأحوال تصحّيه منبهات سيارات الشرطة التي تصم الآذان بصراخها وترعب القلوب بمؤشر ضوئها الأزرق المتراقص في اعين الناس المرعوبة التي لا تعرف النوم ولا الهدوء حتى ينتهي كابوس التهديد.
نعم كانت وما تزال الحرب النفسية كبيرة وثقيلة على الكثيرين بما فيهم الزائرون من السياح التي تظهر في نظراتهم وملامحهم المثقلة بالتعب والرعب قلة الأمان والاطمئنان وهم يتجولون في “الساحة الكبرى” la grande place وسط العاصمة بروكسيل أجمل وأفخر ساحات العالم التي تلتقي فيها لمسات الفن المعماري والعبقرية الإنسانية بوجه تاريخ زاهر اجتمعت فيه العبقرية بالذاكرة الحية لهذا البلد الصغير في مساحته والكبير بوزنه بجماله وبعطاءات أبنائه.
نعم تحت التهديد بالإرهاب ومنذ ذلك اليوم الذي عرفت فيه فرنسا أبشع المجازر في تاريخها بفقدان 130 شخصا من أبنائها جعلت الغرب يتزعزع ويفقد توازنه عاشت بروكسيل مرحلة عصيبة تفترش الهموم وتتغطى بالمجهول مترنحة بين الحقيقة والخيال في واقع جديد يفوق بعض دول العالم المهددة بالإرهاب.
في جو هذا الارتقاب المخيف صادف العالم احتفالات عيد الميلاد وليلة رأس السنة الذي فرض على الدول الأوروبية حالة من الهلع والرعب أفسدت عليها احتفالاتها وأظلمت عليها ليلة كانت دوما ليلة مقمرة بالشهب والأضواء الاصطناعية ومليئة بالأفراح والمسرات.
لم تكن عاصمة أوروبا في منأى من هذا التخويف بل كانت هي المستهدفة من الإرهاب مما جعلها تعيش بين الحيطة والحذر مرتبكة الخطى بين أنفة الدولة ووعيد الإرهاب الذي لا يتأن في ضربه ولا يرحم.
تحت طائلة هذا التهديد المروع الموجه ضد الشرطة والجيش معا وبعد تحذير وزير الداخلية وصدور مذكرة “مركز الأزمات” قرر “ايبان مايور” عمدة بروكسيل الاستغناء عن إقامة الحفلات ومنع إطلاق الشهب الاصطناعية واستعمال القنابل والمفرقعات، معلنا أنه من باب الحيطة والحذر لا يمكنه المغامرة ولا الإقدام على أي خطوة غير محسوبة النتائج والعواقب كما لا يمكنه أن يعرض أرواح الناس للخطر لأن الشرطة لا يمكنها مراقبة 100.000 شخص من المتوقع أن يحضروا هذا الاحتفال البهيج في الساحة الكبرى وفي ساحة بروكير.
كل التهويل كان منصبا على بروكسيل خاصة ليس فقط لأن بها شباب متهمون بتفجيرات فرنسا أو لأن الإرهاب كان ينتظر مجيء مناسبة كليلة رأس السنة حيث يزداد التكتل والتجمعات في الشوارع والساحات، بل لأن في هذه المدينة كل المؤسسات الأوروبية ومقر حلف شمال الاطلسي الذي يجب حمايتها من أي اعتداء أو عمل تخريبي.
لم تكن بروكسيل وحدها المهددة خلال هذه الاحتفالات فأوروبا لم تكن بمنأى أو في مأمن فالشرطة والجنود كلهم واقفون على قدم الحرب لمرور هذه الليلة بدون اعتداء، تركيا على سبيل المثال رفعت من درجة الخطورة واستعملت قوات أمنها الصدريات الواقية من المتفجرات استعدادا لأي طارئ وهذا ما ساعد في إبطال عمليتين انتحاريتين في أنقرا واسطنبول، على نفس التأهب صارت هولاندا والنمسا وروسيا التي أغلقت هذه السنة الساحة الحمراء مجمع الأعداد الرهيبة والجموع الغفيرة. أما فرنسا فكان لها حظ الأسد في الاستعداد لأنها ذاقت مرارة العلقم فكرهت حتى شهد العسل بحيث أعدت 11.000 شرطي وعسكري ورجل إطفاء لحراسة العاصمة الفرنسية باريس وضواحيها ليلة رأس السنة، منها 1600 شرطي ودركي لحماية متحف “الشون إيليزي” فقط في أكبر تحرك أمني منذ انطلاق حالة الطوارئ الأخيرة.وعلى هذه النار المؤججة المليئة بالتخويف والتهويل خرجت عن نطاق التأويل فاق دخان لهيبها حدود الدول الأوروبية ليصل إلى العاصمة الأمريكية ويخيف رواد ساحة “تايم سكوير”
على هذه الوثيرة الملتهبة بمستوى درجة ثالثة من الخطورة نامت بروكسيل ليلة رأس السنة بدون أضواء ولا شهب ولا أذنى مفرقعات تنتظر مذكرة جديدة من مركز تقييم الأزمات من المحتمل أن تناقش بعد الرابع من شهر يناير حول سنة مضت انتهت مضطربة بين الخوف والظلام وسنة جديدة ازدادت في حضن قوانين وتهديدات ترى هل ستنتهي بانتهاء السنة أم سيطول وبالها في انتظار الأوقات؟
كل شيء بدأ يتغير في صورة هذه المدينة الجميلة الحالمة الكثيرة الأعراق والأجناس والثقافات، نخالها سحابة صيف عابرة ستعود من بعدها تلك اللوحة الخالدة المرسومة بخيوط ذهبية بنقوش التعايش والاستقرار وخيوط مزركشة من المحبة والإخاء، ونحن نحلم وأملنا السلم والسلام حتى لا تخرج الأمور عن نصابها ونغرق في نقلة نوعية تتحول فيها الأزقة والدروب والساحات والشوارع إلى ثكنات عسكرية الغلبة فيها للغة القوة وبطش السلاح والمواطن المسالم الآمن يرتعش بين مطرقة الارهاب الغادر وسندان قانون الطوارئ المضيق للحريات.
وبين كل هذه الوقائع وما سيأتي من أحداث يبقى المتضرر العالق دائما بالأذهان الذي لم يسلم لا من المطرقة ومن السندان ولا من لسعة العنصرية ولا من حرقة كراهية الإسلام هو ذلك المهاجر الحيران الذي لم تنصفه لا ساسة ولا قداسة ولا حضن ولا جفن ولا حصانة أوطان.