على نقيض السندباد المعولم هناك الكاوبوي وعولمته. الكاوبوي عند المرنيسي هو الرحالة المهجوس بتملك الجغرافيا واحتلالها واعتبارها اقطاعيته الخاصة. همّه نصب القواعد والأركان وحماية ما تم احتلاله من أراض. على عكس السندباد الرحالة الأبدي، الكاوبوي هو المتملك الأبدي. الأول يتملك كي يقتدر على الترحال، الثاني يرحل كي يقتدر على التملك. ليست المسألة حصراً بالتعرف على جغرافيات جديدة. بل هي ابعد من ذلك وأعمق، يلخصها ما نقلته المرنيسي عن الجاحظ، ناصحاً خلفاء بني العباس، ومؤسساً لعولمة السندباد: «الأدب عقل غيرك تزيده في عقلك». تلتقط فاطمة هذا «البرادايم» الافتراقي عن ذلك الذي يؤسس للنظرة الى «الأجنبي» في عولمة اليوم. تتوقف عند النظرة الاستكشافية المعرفية إلى «الغريب» واعتباره مصدراً للمعرفة يتم التواصل معه لزيادة المعرفة الذاتية. الغريب في عولمة السندباد هو مصدر للاستكمال الذاتي، كأنه جزء من الذات مُبحر في الجغرافيا، لكنه قيد الانتظار وقيد الالتقاء والتكامل. ثمة غموض صوفي لذيذ هنا في تعقل الغريب بكونه جزءاً من أنا غير مكتملة، وبعض ترجمات هذا الغموض جاء في صفحات ابن بطوطة وابن جبير وابن باجلان وجحافل رحالة طافوا الأرض وتأدبوا وتاجروا وتزاوجوا … وماتوا وهم في الرحلة الدائمة. الرحلة التي جمالها في استمرارها، لا في وصولها الى محطة محددة فيها التملك والسيطرة. يفترق ذلك كله عن عولمة الكاوبوي الراهنة واستبطانها نظرة عداء مسبقة تجاه الغريب، الذي هو مصدر خطر، او ضحية مرتقبة، لا مصدر تأدب واستكمال. في خضم دفاعه عن الجغرافيا التي احتلها وسيّجها وحصن نفسه فيها خلف أسوارها المنيعة، صار الكاوبوي يتعامل مع الغريب بالرصاص والتحصينات. من يقترب من السياج يدفع ثمناً غالياً. وفي المرات التي يخرج فيها الكاوبوي من قلعة تحصيناته يخرج مدججاً بالسلاح غازياً ومحتلاً جغرافيات جديدة. العلاقة مع الآخر لا ينتظمها التوق نحو الاكتمال، بل النزعة نحو الإقصاء.
ما نفهمه من طرح المرنيسي لمفهوم السندباد المعولم التواصلي the communicator أنها تريده بديلاً لمفهوم الكاوبوي المعولم التسلطي the dominant، وهي قطعاً محقة في ذلك. الأول فيه اندفاعة المعرفة والاستكشاف لذات المعرفة، والثاني فيه اندفاعة الإمبرطورية الباحثة عن المغانم. تنعطف فاطمة هنا في شكل فجائي لتطرح علينا ما تراه سندبادَ العصر الحالي في لعب الدور ذاته الذي لعبه السندباد القديم من حل وترحال وتجوال، وتقول إنه البث الإعلامي الفضائي العربي. ترى صاحبة العين اللاقطة ان في ترحال اللغة العربية على أثير الفضاء بلا حدود ولا رقيب ثراءً تجوالياً متواصلاً يعيد توليد سندباد التاريخ في حلة معولمة ومعاصرة. والانتباه المركّز الذي تمحضه المرنيسي للبث الفضائي العربي يعود إلى تجربتها الخاصة في التنقل في الريف المغربي حين دُهشت لمتابعة أميي ذلك الريف لقنوات «الجزيرة» و»العربية» و»أبو ظبي» وغيرها. رأتهم يعرفون أسماء شعراء وأدباء ومقدمي برامج مشارقة وكأنهم أصدقاء لهم. وأهم من ذلك رأت منهم من يتابع برامج محددة بغية المعرفة والتعرف. ثم أعجبها أن هذا البث الفضائي الإعلامي يجوب العالم بحثاً عن المعلومة والخبر ونقل المعرفة إن في برنامج توثيقي، أم في تغطيات إخبارية أو حتى سياحية. وهي ترى في بعض إعلاميي الفضائيات الدائمي التنقل والسفر نسخة متجددة من السندباد، يطيرون على أجنحة العولمة وينقلون أخبار العالم للعالم.
ليس بالإمكان لواحد مثلي اشتغل في برنامج ثقافي تلفزيوني قالت فاطمة انها تحدثت مع مشاهديه في قرى نائية، إلا الشعور بالطرب لما تقوله المرنيسي بخاصة في وقت تعج فيه الأجواء بنقد الفضائيات العربية. وكذلك لأن مثل هذا الطرح يأتي في سياق نزوع إنسانوي عارم في الدوائر الثقافية والأكاديمية التي تنشط فيها المرنيسي يستحق التقدير بلا تردد. لكن ربما يحتاج سندباد فاطمة، وفي سياق الوفاء لأفكارها التي أرادتها متواصلة الثراء دوماً، إلى إغناء ونقاش إضافي حتى يزداد غنى وصلابة ويفلت من الاتهام بالمركزية الشرقية عكساً للمركزية الغربية.
على ذلك، ونقاشاً للسندباد ووفاءً للراحلة، تأتي ابتداءً مسألة تحرير مفهوم السندباد والكاوبوي من أية إحداثيات جغرافية وزمانية متجمدة، وإطلاق كليهما كسيرورات تحل وتنتقل من وإلى أي جغرافيا وفي أي زمان، ووسط أي مجتمع أو حضارة. بهذا التحرير يتم تفادي التورط في مانوية تبسيطية تعتبر الشرق ملاذ البراءة والغرب مصدر التوحش، بما يخدم أطروحات تصفيف الحضارات والثقافات ضد بعضها بعضاً. فهنا علينا القول إنه في شرق السندباد الذي حفل بأدبيات وممارسات رائعة حول التثاقف مع الغريب وترجمة الثقافات والانخراط معها وفيها واستيعاب علومها كان هناك كاوبوي الشرق يغزو العالم أيضاً بحثاً عن المصالح واحتلال الأراضي وضمّها وضمّ ثرواتها. وبعيداً من البراءة الساذجة التي كثيراً ما ندعيها لأنفسنا فقد كانت هناك حقب في تاريخنا سمتها الغزو الخارجي والاحتلال، أياً كانت التسميات التخفيفية التي نطلقها عليها.
في المقابل وفي الوقت الراهن نرى في عولمة الغرب متصارَعين اثنين: سندباد الغرب يقاوم كاوبوي الغرب، بما يؤكد أن المفهومين غير محصورين بالجغرافيا بل يخترقانها والثقافات. ففي الآن الذي يتوحش فيه الكاوبوي الغربي نجد أن أشد مقاوميه ضراوة هو السندباد الغربي نفسه، متجسداً في الحركات الإنسانية المعادية للتوحش الرأسمالي المعولم، والمعادية لأسلحة الدمار الشامل، والمعادية للحروب الإمبريالية. ومتجسداً أيضاً في الحركات الداعية إلى إنهاض أفريقيا والعالم الثالث وإلغاء ديونه ومساعدة شعوبه، والانتصار للشعب الفلسطيني وعدالة قضيته. هذه الحركات هي التي تسند سندباد الشرق المعاصر في معارضته لكل التوحش الذي يقدم عليه كاوبوي الغرب، لأن الأول يهرّب المعرفة وتكنولوجيا المقاومة والاعتراض لرفاقه في العالم الثالث ويناصرهم.
وهكذا فإن لم نفرق بين سندباد الغرب وكاوبوي الغرب فإننا نقع في شباك نفس التعميمات العنصرية التي نظرت الى الشرق الماضوي بأنه «عاطفي» و»حريمي» وغير عقلاني مثلاً، أو إلى الشرق المعاصر بأنه كله «بن لادني» أو «داعشي» ومتطرّف ومعادٍ بالتعريف لكل ما هو غربي. وذاتياً، عندما نملك الثقة على التفريق بين ما هو بريء فينا، سندبادنا، وما هو بذيء فينا، كاوبوينا، فإننا نكون أقدر إنسانية على مقاومة كاوبوي الغرب ومقارعته وهزيمته.
في سياق التلاقح الثقافي المطلوب قيامه بين حضارات وثقافات متوجسة من بعضها بعضاً، يبدو ان ليس ثمة بديل من تحالف سندبادات الشرق والغرب والشمال والجنوب ضد كل أصناف الكاوبوي أياً كان مصدرها. خصم كل سندباد في اي عصر ومكان هو العنف والتوحش والاعتداء على الآخر، تلك هي قيم الكاوبوي. ومبتغى كل سندباد في كل عصر ومكان هو قيم المعرفة والتكامل والعدل والمساواة، وهي القيم التي يتعجرف عليها الكاوبوي ويسترذلها. إنه تحالف تنداح معه أرضية واسعة للالتقاء والثراء الإنساني، عدا عن كونه التقاء ضرورة البقاء والانتصار لكل القيم السامية فينا. بيد أن المفارقة الكبيرة تتأتّى من صعوبة إن لم يكن استحالة تحصّل مثل هذا التحالف «السندبادي» من دون استثمار الجانب التواصلي، من العولمة الراهنة ذاتها على رغم توحشها. فهذه العولمة التي صنعها الكاوبوي لمصالحه تقدم على رغم أنف الكاوبوي نفسه مساحات متجددة للتواصل والنشاط السندبادي الإنسانوي المعولم. وهي تفتح نوافذ ما كان لها أن تُفتح لولا أن الكاوبوي لم ير بداً من فتحها حتى يدلف منها قاصداً أراضيَ مُستهدفة وغزوات جديدة. غير أن حقائق الحياة الساخرة تشلّ يده عن غلق كل طريق يفتحها، أو أن يحصرها لنشاطه الاستغلالي، إذ سرعان ما تصبح الطرائق عامة واستخداماتها مشاعة. وهذه المشاعية الحتمية النابتة ليس فقط على حواف العولمة بل أيضاً في قلبها هي ما يتيح للسندبادات القفز عن الشراك، والتكاتف مع بعضها بعضاً، والإفلات من المصائد المنصوبة على الدوام.
في قلب عولمة الكاوبوي، قادت سندبادة فاس انتفاضة تخترق حدود الزمن والمكان والحضارات والانتماءات. استدعت سنادبة الترحال من كل فضاء، جمعتهم وقادتهم ثم قفزت بهم إلى صدوع جدران العولمة المتوحشة، وهناك فردت ذارعيها وساقيها على أقصى مدى كراقصة باليه خرافية القدرة والجمال توسّع الصدوع في الجدران وتدفعها للتشقق أكثر، وكذلك فعل السنادبة وراءها، يوسّعون الصدوع، يقاومون التوحش، ويخلقون المساحات لعولمة السندباد كي تقاوم وتنتصر، فيما عولمة الكاوبوي تذوي وتنحسر.
** جزء من مساهمة في كتاب «شهرزاد المغربية: شهادات ودراسات عن فاطمة المرنيسي»، إعداد وتحرير ياسين عدنان، وإصدار مركز الشيخ إبراهيم آل خليفة في المنامة، ويُنشر هذه الأيام لمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاة المرنيسي.
عن جريدة الحياة