إلى جانب المآثر التاريخية والمعمارية التي تؤثث مختلف الثنايا والحومات والدروب الضيقة لمدينة فاس العريقة فإن هذه الحاضرة تتوفر على تراث ونفائس أخرى خاصة منها التراث المكتوب الذي يتضمن العديد من المخطوطات والوثائق النادرة وغيرها والتي تشكل تراثا ثمينا لا يقدر بثمن .
وقد تم تجميع هذه المخطوطات والنفائس منذ عدة قرون بمكتبة القرويين التي تعد من بين أقدم المكتبات في العالم باعتبار أن تاريخ تأسيسها يعود إلى القرن الثامن للهجرة ( تأسست سنة 750 هجرية على يد السلطان أبي عنان المريني).
وتضم هذه الخزانة التي يقترن اسمها بجامع القرويين باعتبارها ظلت لقرون عديدة تحتل جناحا داخل هذا الجامع الذي يعد من بين أقدم الجامعات في العالم العربي والإسلامي نفائس ثمينة من المخطوطات ورصيد من الوثائق النادرة والتي لا يوجد بعضها إلا بين رفوف هذه الخزانة العريقة .
وتشكل خزانة القرويين التي عرفت على مر القرون العديد من عمليات الترميم والتوسيع والإصلاح وجهة علمية لا محيد عنها للطلبة والباحثين والأكاديميين سواء من المغرب أو من الخارج والذين يفدون إليها لنهل العلوم والمعرفة من المضان التي تحويها هذه الخزانة بالنظر لما تضمه من مخطوطات بعضها فريد من نوعه .
وتتوفر خزانة القرويين على حوالي 4000 مخطوط مفهرسة بطريقة إلكترونية علمية وحديثة وهي فهرسة دقيقة وشاملة تهدف بالأساس إلى تسهيل عملية البحث على الطلبة والباحثين الذين يقصدون الخزانة لإنجاز أبحاثهم ودراساتهم .
ومن بين الذخائر النادرة من المخطوطات التي توجد في رفوف خزانة القرويين مصحف كريم نادر يعود إلى نهاية القرن الثاني الهجري وبداية القرن الثالث مكتوب بماء الذهب على رق الغزال بخط كوفي قديم .
ولا توجد أية نسخة مطابقة لهذا المصحف الكريم في أية خزانة أخرى سواء داخل المغرب أو خارجه .
كما تتوفر الخزانة على نسخة فريدة من كتاب ( العبر ) لابن خلدون الذي حبسها شخصيا على خزانة القرويين حين كان يقيم ويدرس بمدينة فاس حتى يستفيد منها جميع رواد الخزانة وميزة هذه النسخة أنها ممهورة بتوقيعه بخط يده.
وقد تم مؤخرا اختيار هذا المخطوط من طرف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة ( اليونسكو ) ضمن التراث العالمي الإنساني من خلال برنامج ( ذاكرة العالم ) .
وبالإضافة إلى هذه الدرر والنفائس من المخطوطات التي لا تزال شاهدة على غنى وتفرد الموروث الحضاري لمدينة فاس تتوفر الخزانة على مخطوط نادر عبارة عن أرجوزة طبية كتبها ابن طفيل وهي النسخة الوحيدة المعروفة في العالم لهذا المفكر والفيلسوف والطبيب .
وهذه الأرجوزة الطبية التي كتبت بطريقة رجزية يتطرق فيها ابن طفيل من خلال أبيات شعرية إلى مختلف الأمراض والأسقام التي كانت معروفة في عصره وأعراضها وطرق ووسائل علاجها .
وهناك أيضا مخطوط لكتاب ابن رشد ( البيان والتحصيل ) وهي نسخة سلطانية فريدة وجميلة جدا مكتوبة على رق الغزال ومذهبة وتم اعتمادها في تحقيق هذا الكتاب الذي طبع في عدة مجلدات .
ومن بين نفائس خزانة القرويين إنجيل مكتوب باللغة العربية يعود إلى القرن 12 الميلادي بالإضافة إلى مجموعة من المطبوعات الحجرية القيمة والنادرة والتي يقدر عددها بحوالي 600 مطبوع حجري .
وإضافة إلى هذه المخطوطات والمطبوعات الحجرية النفسية تتوفر خزانة القرويين على مطبوعات تقدر بحوالي 24 ألف عنوان منها مطبوعات نادرة يصل عمر بعضها إلى حوالي 150 سنة وبالتالي فقد أضحت في حكم المخطوط باعتبارها غير موجودة في مكتبات أخرى ولا يمكن للباحث أن يعثر عليها إلا داخل خزانة القرويين ولذلك ارتأى المشرفون على الخزانة أن تكون الإعارة داخلية لتفادي فقدان أو ضياع هذه المطبوعات النفيسة .
وتتوفر الخزانة على عدد لا بأس به مما يطلق عليه اسم ( الخروم ) والتي هي مخطوطات ووثائق نادرة ولكنها غير مكتملة أو متلاشية أو تنقصها بعض الورقات .
ولإنقاذ هذه ( الخروم ) عمدت وزارة الثقافة إلى تشكيل لجنة من الباحثين في مختلف التخصصات بهدف جرد وتصنيف وفهرسة هذا النوع من المخطوطات قبل ترميمها باعتبارها ستساهم عند اكتمال هذه العملية في إغناء رصيد الخزانة من المخطوطات .
ويقول عبد الفتاح بوكشوف محافظ خزانة القرويين إن عملية المحافظة على هذا التراث المخطوط الذي تتوفر عليه الخزانة وصيانته فرضت على المسؤولين توفير مختبر للترميم يضم آخر الابتكارات المعتمدة في مجال الترميم من معدات وتقنيات يشرف عليها مهندسون متخصصون حيث يقومون بعمليات الترميم وفق المعايير الدولية المعروفة في هذا المجال .
وأوضح محافظ الخزانة في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء أن ميزة خزانة القرويين أنها لم تغلق أبوابها في وجه الطلبة والباحثين منذ تأسيسها بجناح داخل جامع القرويين العتيق في منتصف القرن الثامن الهجري وذلك بفضل عمليات الترميم والإصلاح والتوسيع والتجديد التي خضعت لها .
وأشار إلى أن النواة الأولى للخزانة كانت داخل مسجد القرويين حيث عمد السلطان أبو عنان المريني إلى إقامة هذه الخزانة بأحد أجنحة هذا المسجد العريق لمساندة ودعم مهمته في التدريس وحتى تكون قريبة من الطلبة والعلماء كما وضع لها قانونا للقراءة والمطالعة والنسخ وزودها بكتب نفيسة في مختلف العلوم والفنون.
وقد عمد سلاطين المغرب والأمراء والعلماء والعائلات المعروفة بالعلم والفكر والثقافة على مر العصور إلى إثراء محتويات هذه الخزانة وتزويدها برصيد من الكتب والمؤلفات لكبار علماء ومفكري المغرب والعالم الإسلامي وذلك من خلال عملية الوقف والتحبيس بهدف إغناء رفوفها وتمكين الطلاب والعلماء والباحثين من نفائس تهم مختلف الحقول المعرفية .
وحسب محافظ خزانة القرويين فإن هذه المعلمة ظلت داخل مسجد القرويين رغم عمليات التوسعة والتجديد التي خضعت لها خاصة في عهد السعديين الذين قاموا بتوسعتها وبنوا جناحا خاصا يسمى ب ( القبة السعدية ) داخل مسجد القرويين وذلك إلى حدود القرن 20 وبالضبط سنة 1940 حين قام الملك الراحل محمد الخامس ببناء جناح يعرف الآن بجناح العلويين حيث تم نقل الخزانة إلى هذا الجناح لتنفصل بذلك عن مسجد القرويين ويصبح لها باب خارج المسجد .
وكان لهذه المبادرة دلالة كبرى لأن فصل الخزانة عن مسجد القرويين تعني من بين أمور أخرى أن مخطوطات وكتب الخزانة لم تعد حكرا على المسلمين فقط بل بإمكان كل الطلبة والباحثين من ديانات أخرى أن يستفيدوا منها مما يؤكد على قيم التسامح والاعتدال التي كانت سائدة في ذلك الوقت .
يقول محافظ الخزانة عندما نتصفح ( ورقة التحبيس ) التي توضع عند أول صفحة من المخطوط نقرأ فيها إلى جانب اسم المحبس الذي أوقف هذا المخطوط على الخزانة عبارة يشير محتواها إلى أن هذا المخطوط هو محبس لكافة الناس أي أنه ليس حكرا على فئة أو ديانة معينة .
وتغلب على مخطوطات خزانة القرويين المواضيع المرتبطة بالعلوم الشرعية حيث تتوفر على العديد من المصاحف والتفاسير وكتب الفقه والحديث والأصول إلى جانب مخطوطات تشمل عدة تخصصات منها الطب والرياضيات والجبر وعلوم الفلك والفلسفة والشعر والأدب والتاريخ والسير والرحلات وغيرها من الفنون .
وحسب بوكشوف فإن تنوع هذه المخطوطات وتمحورها حول كل ما له علاقة بالعلوم الشرعية والفقه والأدب والتاريخ والسير والعلوم الرياضية والطب يرجع بالأساس إلى أنها كانت بمثابة الكتب المدرسية التي تدرس بجامعة القرويين في مختلف العلوم والمعارف حيث كان طلاب الجامعة يعتمدونها في مناهج تكوينهم.
ومن أجل الحفاظ على هذه المخطوطات القيمة يقول محافظ خزانة القرويين عمد الخبراء إلى تخزينها بطريقة ” الميكروفيلم ” مما يسهل على الباحثين والطلبة والأكاديميين عملية البحث وكذا صيانة هذه النفائس من التلف والضياع مشيرا إلى أن الخزانة مجهزة بأحدث الوسائل التكنولوجية للحفاظ على تلك المخطوطات والوثائق النادرة من الرطوبة والحرائق والسرقة .