كان الرهان، على الأقل على مستوى الصورة ودلالاتها، أن يتم إسقاط حزب العدالة والتنمية في استحقاق 7 من أكتوبر 2016 من خلال نتائج الصناديق، ولو عبر الأموال المشبوهة ونفوذ الأعيان وعمليات الترهيب والترغيب وغيرها من الوسائل، إلا أن صمود “البيجيدي” والتفاف عدد كبير من المغاربة حوله، بمنحه المرتبة الأولى، فرض على منظومة التحكم الانتقال إلى الخطة البديلة لاحتواء الانتكاسة الانتخابية وتبعاتها السياسية.
إطالة أمد المشاورات بواسطة أحزاب وقيادات استدعيت على عجل للعب هذا الدور، وإن بدا ظاهريا صراعا حول حقائب وزارية وعلى مواقع داخل التركيبة الحكومية المقبلة أو رغبة من بعض الأحزاب في استعادة مكانتها من خلال استغلال هامش المناورة الذي تتيحه المشاركة في الحكومة، فإنه يبرز في العمق حجم التخبط والارتباك الذي تعانيه مكونات تلك المنظومة، بين عدم قدرتها من جهة على اتخاذ قرار سحب حق “البيجيدي” في رئاسة الحكومة بحسب منطوق الدستور، نظرا لكلفته السياسية الداخلية والخارجية، وبين السماح له من جهة أخرى بتشكيل الحكومة مع ما يعنيه هذا الأمر بالنسبة لها من تخلّ عن مساحات كبيرة من آليات الضبط والتحكم.
رسائل عديدة يحرص التحكم على بعثها في كل الاتجاهات من خلال “البلوكاج”، أولاها إلى ابن كيران وحزبه، ومن خلالهما إلى كل الأحزاب والتيارات مستقلة القرار وكل المشاريع السياسية المتحررة من التبعية، مفادها أن الحصول على ثقة الشعب وعلى المرتبة الأولى، ورغم المقتضيات الدستورية التي أقرّها المغاربة، ليست بالضرورة محددا لتشكيل الحكومة دون رضا ومباركة الجهات المعلومة، ودون الخنوع والقبول بتعليمات مراكز الظل والانخراط الفعلي والتام في منطق التوجيه، وذلك رغبة منه في خدش رأسمال هذه الأحزاب المعنوي المرتبط باستقلالية قرارها، كأحد أبرز وسائل امتداداتها الشعبية.
الرسالة الثانية إلى الشعب، خلاصتها أنه مهما علا سقف طموح التحرر من التحكم والتطلّع إلى استقلالية الاختيار الحرّ، ومهما كانت من محاولات للتخلص من القيود والتمرد على الخطوط المرسومة غير قابلة للتجاوز، أو تملّك زمام المبادرة والقدرة على إفراز المؤسسات الدستورية الوطنية بالرهان على أشخاص وأحزاب من خارج السرب ومن غير القيادات التي تدور في فلك السلطة والإدارة فإن مصيره الفشل، وذلك في محاولة لبث اليأس في النفوس وتكريس روح التذمر والإحباط من أجل الخضوع للأمر الواقع في أفق الاستكانة إليه والقبول به والتعايش معه.
الهدف الثالث لهذا “البلوكاج”، وهو أنه حتى لو تشكلت الحكومة برئاسة العدالة والتنمية في هذه اللحظة، يكون التحكم، بهذه المدة الزمنية التي ربحها منذ الاستحقاق الانتخابي الأخير إلى يومنا هذا، قد نجح على الأقل في إفراغ لحظة الانتصار الكبير الذي حققه “البيجيدي” مباشرة بعد الانتخابات من حمولته السياسية ومن أبعاده الرمزية في علاقته بالمواطن المغربي وبالمشهد السياسي على وجه عام، ووأد في المهد كل محاولات استثمار تلك اللحظة التاريخية وتوظيفاتها السياسية على المستوى المتوسط والبعيد.
بالإضافة إلى هذه الرسائل، يعبّر الارتباك الذي وجد التحكم نفسه فيه، والذي يدفعه إلى تمطيط المشاورات وإطالة أمدها إلى حين العثور على الخلطة المناسبة، عن صراع داخلي بين أقطابه النافذة المؤثرة، ومحاولة كل واحد منها ضمان أكبر قدر من المواقع الحكومية والأدوار السياسية لأدواته الحزبية المرتبطة به والدائرة في فلكه.
جهات نافذة، موقنة بكلفة “البلوكاج” الحالي السياسية والاقتصادية والاجتماعية على الوطن مع رغبتها في تخطّيه، إلا أنها محرجة في ذلك بعلاقتها بشركائها الحزبيين، معتبرة أن التسليم بفوز العدالة والتنمية والسماح لابن كيران بتشكيل الحكومة بالسلاسة التي تقتضيها الأعراف الديمقراطية ويؤطرها الدستور المغربي لسنة 2011، من شأنه تفكيك “الحلف المقدس”، ودفع هؤلاء الشركاء إلى التوجس مستقبلا من الاستمرار في القيام بالمناولة السياسية للغير، أو الإقدام على لعب دور “حصان طروادة” في معارك هامشية فاشلة يغيب فيها العائد السياسي.
منظومة التحكم تعيش ورطة حقيقية اليوم، فلا هي تملّكت جرأة الانخراط في منطق تنزيل الدستور بالسماح لابن كيران بتشكيل الحكومة، لما تعتقده إقرارا بكون “البيجيدي” بات لاعبا سياسيا قويا يزاحم مجالات وهوامش واسعة ظل يشغلها التحكم منفردا دون منازع، ولا هي قادرة على تبرير الحرج الذي قد تفرضه عليها محاولة تجاوز ابن كيران وحزبه العدالة والتنمية، لما في الأمر من تكلفة سياسية واجتماعية كبيرة، أبرزها مضاعفة مستويات عدم الثقة التي تطبع العلاقة المتشنجة بين المواطن وبعض التنظيمات السياسية والمدنية بمؤسسات الدولة، وأيضا لما قد تعجّل به كل المحاولات الانقلابية على شرعية الصناديق من تقويض لشعارات النموذج المغربي الاستثنائي في مرحلة فارقة من الصراع الإقليمي والتحول الدولي.
_ عن الموقع الرسمي لحزب العدالة و التنمية _