المغرب والقمم العربية.. براغماتية أم قطيعة؟
محمد طيفوري
10 أبريل 2017
شكل غياب عاهل المغرب، محمد السادس، عن القمة العربية الثامنة والعشرين في منطقة البحر الميت في الأردن، بعدما رجّحت أخبار عن مشاركته بعد غياب طويل (12 سنة)، خصوصا وأن القمة انعقدت بعد زيارة رسمية للعاهل الأردني، عبد الله الثاني، إلى المغرب، دعاه فيها لحضور أشغال القمة، واتخذت جميع الإجراءات والترتيبات قصد المشاركة؛ قبل العدول عن ذلك في آخر لحظة.
ويستمر الملك محمد السادس بذلك في “مقاطعته” القمم العربية التي لم يحضر مؤتمراتها سوى في مناسبتين منذ توليه العرش؛ الأولى في بيروت عام 2002، والثانية في الجارة الشرقية الجزائر عام 2005. وجدير بالذكر أن المغرب لم يحتضن أي قمة عربية في فترة حكم محمد السادس، واعتذر السنة الماضية عن استضافة القمة السابعة والعشرين التي كان مزمعاً تنظيمها في مراكش قبل أسابيع من موعدها. وجاء في معرض تبرير الرباط ذلك الموقف من في القمة التي نقلت إلى العاصمة الموريتانية نواكشوط “إن اعتذار المملكة أملاه واجب التحليل الموضوعي المتجرّد للواقع العربي، وضرورة التنبيه إلى المخاطر الداخلية والخارجية التي تستهدف تقسيم البلدان العربية، وذلك حتى نستنهض الهمم لمواجهة تلكم المخططات، ولاسترجاع سلطة القرار، ولرسم معالم مستقبل يستجيب لطموحات شعوبنا في التنمية، ويليق بالمكانة الحضارية لأمتنا العربية”.
لا تعد واقعة البحر الميت في الأردن سابقة في هذا الشأن، إذ سبق لمحمد السادس أن تخلف عن المشاركة في عدة قمم عربية في آخر لحظة؛ منها قمة الرياض سنة 2007. بعدها بعامين صدر بلاغ (بيان) عن الديوان الملكي بشأن عدم حضوره شخصيا في القمة العربية
“اختارت الرباط منذ تولي محمد السادس مقاليد الحكم منهجا جديدا في دبلوماسيتها الخارجية، يعلن القطيعة نهائياً مع ما دأبت عليه السياسة الخارجية للمغرب في عهد الحسن الثاني” المقرّر تنظيمها في الدوحة، وفي القمة العربية الاقتصادية في الكويت. ولم يكتف البلاغ، حينئذ، بالتأكيد على عدم الحضور الشخصي في القمتين؛ بل حمل رسالة مهمةً وقف، من خلالها، بصراحة على مجموعة من الاختلالات التي تطبع العمل العربي المشترك في إطار جامعة الدول العربية، والتي تجعل من عقد القمم العربية أمرا غير مُجد بالمرة.
تاريخيا، كان الراحل الملك الحسن الثاني حريصا على منافحة المشارقة في بلدانهم، ولم يترك فرصةً ولا مناسبة إلا ودعا فيها إلى عقد قمة عربية، وسارع إلى احتضان أشغالها في إحدى مدن المملكة؛ فعلى مدار ربع قرن استضاف المغرب سبع قمم عربية؛ ثلاثاً في الدار البيضاء (1965، 1985، 1989)، واثنتين في الرباط (1969، 1974)، واثنتين في فاس (1981، 1982)، جاعلا المغرب قبلة للزعماء والقادة العرب، ليتداولوا في الملفات والقضايا العربية الشائكة، من دون أن يخفي طموحاته الشخصية في السعي نحو الحضور في طليعة القادة العرب.
اختارت الرباط منذ تولي محمد السادس مقاليد الحكم منهجا جديدا في دبلوماسيتها الخارجية، يعلن القطيعة نهائياً مع ما دأبت عليه السياسة الخارجية للمغرب في عهد الحسن الثاني، إلى درجة تعدّدت التأويلات فيها بشأن موقف عاهل البلاد من اجتماعات الزعماء العرب؛ وخصوصا في قمة البحر الميت التي كانت الرغبة قوية فيها لدى الملكيات العربية للخروج منها قوية موحدة.
يذهب محللون إلى اعتبار المسألة بداية طلاق صامت بين المملكة المغربية وجامعة الدول العربية، ويعضد هؤلاء طرحهم بتأكيد المغرب المستمر رفضه الطابع الشكلي، وغير الفعال الذي تتسم به هذه القمم، حتى تحولت إلى ما يشبه “مناسبات للمجاملة”، في ظل عجز الجامعة عن لعب دور مؤثر إقليميا ودوليا، من ناحية، وخضوع العمل العربي التشاركي لتقاطبٍ كثير من خارج جامعة الدول العربية، حتى أضحى رهين الانقسامات الكبيرة بين دول المنطقة، من ناحية أخرى.
ويستندون لتعزيز هذه القراءة إلى أن أغلب المبادرات؛ بشأن الملفات العربية الساخنة في السنوات الأخيرة، طرحت خارج أروقة جامعة الدول العربية؛ فعملية “عاصفة الحزم” بشأن اليمن، ورعد الشمال، والتحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب (السعودية)، والمصالحة الفلسطينية (قطر)، والحوار الليبي (المغرب)… ثمار تحركات فردية لدبلوماسيات عربية، بعيدا عن أي دور لهذه الجامعة التي فقدت دورها، بوصفها نظاماً إقليمياً يوجه السياسات العربية لكل دولة.
تأويل ينطوي على مبالغة كثيرة في نظر كثيرين، بالنظر إلى الدينامية التي طبعت الدبلوماسية المغربية أخيرا بتوجهاتها الجديدة؛ فالسياسة الخارجية لا تبنى على كثرة التحركات والمواقف والشعارات، وإنما على المردودية بمفهومها الاقتصادي. وهو ما بدا واضحا في تحرّكات عاهل البلاد في العمق الأفريقي، على أساس تعزيز العلاقات المغربية على مستوى جنوب- جنوب، ثم التوجه شرقا نحو الهند وروسيا والصين، وأخيرا تغيير لهجة الحديث والتخاطب مع بلدان الاتحاد الأوروبي.
وعليه، تكون البراغماتية القائمة على ثنائية الربح والخسارة ضابطاً محوريا يرسم حدود السياسة الخارجية للمغرب، من خلال تنويع حلفائها في عدة جبهات. وهذا التوجه الاستراتيجي نحو حلفاء جدد لا يتبناه المغرب وحده، وإنما يتعلق الأمر بمبدأ عام لبلدان عديدة، تبحث عن حلفاء أقوياء جدد، يمكن الاعتماد عليهم في الأوقات الصعبة. ويجد اختيار المغرب قوى دولية،
“استضاف المغرب سبع قمم عربية؛ ثلاثاً في الدار البيضاء (1965، 1985، 1989)، واثنتين في الرباط (1969، 1974)، واثنتين في فاس (1981، 1982)” مثل الصين وروسيا، تفسيرا له في كون البلدين، مثلا، الأقل حرصا على قضايا حقوق الإنسان، والأكثر اقتناعا بالمذهب المصلحي/ النفعي في علاقاتها الخارجية.
وتبقى الأولوية حاليا للقارة الأفريقية التي بدأت الدبلوماسية المغربية فيها تؤتي أكلها هذه السنة، من خلال استعادة بطاقة العضوية في النادي (الاتحاد) الأفريقي؛ بعد غياب دام أكثر من ثلاثة عقود. علاوة على تعزيز العلاقات مع الدول العربية الأكثر نفوذا، ممثلة في دول مجلس التعاون الخليجي؛ إما بشكل فردي في علاقات ثنائية أو بصيغة جماعية على شاكلة “القمة المغربية الخليجية”.
بهذا النهج البراغماتي الجديد، يضمن المغرب في دبلوماسيته مكاسب عديدة؛ أولها الخروج من مأزق الاصطفاف العربي داخل جامعة الدول العربية. وبالتالي، التبعية لهذا الحلف أو ذاك، حيث اكتفى بالصمت في قمة البحر الميت في الأردن. وثانيها مقايضة المواقف السياسية بالمكاسب الاقتصادية، إلى درجة غدت معها الدبلوماسية الاقتصادية في مقدمة الأولويات لدى دولةٍ غير نفطية من المغرب. وثالثها تسجيل موقف بخصوص رفض انعقاد القمم العربية لمجرد الانعقاد، في غياب الظروف الموضوعية لعقد قمة عربية ناجحة، قادرة على اتخاذ قراراتٍ في مستوى ما يقتضيه الوضع العربي المتشظي.