ذ. طارق الحمودي
جريمة الطعن في صحيح البخاري، من المستفيد
محاولة أخرى مدفوعة من جهات نعرفها للنيل من “الجامع المسند الصحيح” للإمام البخاري، وهذه المرة من صحيفة “الأيام الأسبوعية” في عددها “753” لشهر “أبريل 2017م” على لسان من وصفته بـ”كاتبنا“، نشرت حوارا أجرته معه، ونصوصا من كتابه الذي بشرت به في صفحاتها مشاركة له في الطعن والسب لعلماء الأمة وكتبها وتراثها وإبداعاتها دون رقيب أو حسيب قانوني.
وإني أبشر “كاتبهم” بأننا نعلم مسبقا ما سيكون في كتابه، لأننا نعرف مصادره، فقد خبرنا ما ينشره “الشيعة” الرافضة الموظفين لمرتزقة البحث والكتابة، ومعهم بعض المغرورين والعلمانيين، وليعلم أنه لن يأتي بجديد، فحراس الشريعة ينتظرونه، فقد أبدى استهانة بخصومه، استهانة قد تكون سببا في فضيحة مدوية…
وننتظر ظهور الكتاب الذي وصفته الصحيفة بـ”القنبلة” والتي ستنفجر بالتأكيد في وجه صاحبها، وفي انتظار صدور “القنبلة”، سأكون مضطرا للرد بنوع من التركيز والإجمال، وأقول والله المستعان:
“شكون قاللك” ؟
زعم “كاتبهم” أن علم الرجال أو علم الجرح والتعديل اختراع بشري، وأنه من حقه أن يمحصه ويطوره أو يرفضه إذا اقتضى الأمر ذلك، وهذا الكويتب مضلل، فلم لم يقل إن ما أنتجه العقل الإسلامي “إبداع” وهو المطابق لحقيقة الأمر؟ وهو ما اعترف به كبار المؤرخين غير المسلمين مثل أسد رستم في كتابه “مصطلح التاريخ“، والذي ينبغي معرفته أن أصول علم الرجال في كتاب الله وسنة رسوله.
فإن الله تعالى قال: “يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين“.
وقد نبه علماء الحديث إلى فلسفة هذا العلم ،فقد صح عن محمد بن سيرين أنه قال: “إن هذا الأمر دين فانظروا عمن تأخذون دينكم“، وقد علموا أنه لا يقبل إلا الخبر الصدق، وهو عندهم الخبر المطابق للواقع، ولأجل ذلك اشترطوا سلامة الراوي من “الكذب“، إذ الكذب “مخالفة الخبر للواقع“.
وعلموا أن لهذا الكذب سببين، إما التعمد أو الخطأ،ولضمان عدم التعمد اشترطوا الصدق الشرعي في الراوي النابع من دينه وسموها العدالة، ولضمان عدم الخطأ اشترطوا أن يكون الراوي ممن عرف بضبط محفوظاته في صدره أو مقيداته في كتابه، ثم لاحظوا كل رواية رواية عند من تحقق فيه الشرطان زيادة في النقد والملاحظة حتى لا يتسرب إلى الدين ما ليس منه.
واشترطوا أن يذكر كل راو واسطته حتى يتبين أمرها، وإلا كان الانقطاع موجبا لرد الخبر للجهل بحال الساقط من السند.
واضح لكل عاقل ذكي أن هذا التسلسل تسلسل منطقي يدل على عقل توثيقي راق عند المسلمين، بل ينبغي ملاحظة أن هذا العلم له أسس أخطر، فإن الله تعالى ما أقام الحجة بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ابتداء إلا بشيئين، هما الصدق والأمانة، ثم توالت الآيات، ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم مشركي مكة يقرون بصدقه ويعترفون بأمانته، وليست الأمانة إلا أداء ما أعطيه الراوي بلا زيادة ولا نقصان ولا إفساد.
وأنبه إلى أمر آخر، وهو أن أصول علم الرجال فطرة في الناس، فإن الخبر جزء من حياتنا اليومية، وقد طور الناس ضوابط في التعامل معه، فلا يعدو الواحد منا أن يكون مخبِرا أو مخبَرا أو يكون هو متعلق الخبر، فإن ذكر لك خبر سألت القائل: ومن أين أتيت به، من أخبرك (شكون قاللك)؟
ولا فائدة من السؤال إلا لاستحضار ما تعرفه عن المصدر من “جرح وتعديل“، بل من الأمثلة اللطيفة في هذا، أن الرجل لا يُقبل مروره عبر الحدود والجمارك إلا إن عرف حسن حاله، فإن كان العكس أو لم يكن عند الرجل جواز سفر للتعرف عليه ومعرفة حاله جرحا وتعديلا رد أيضا، وهو نفس ما يفعله المحدثون كما تجده في “نزهة النظر“.
وأما اختلاف العلماء في الراوي أحيانا فمن باب تفاوت الناس في الاطلاع على المعلومة والوقوف على حقيقة الحال، ومن عرف حجة على من لا يعرف، وهي من أهم قواعد التعارض في الجرح والتعديل.
وسنطبق هذا على “كاتبهم” ونقول: ثبت عندنا ضعف عقله، وربما صلح الطعن في صدقه، فلا يؤخذ عنه.
دلالة السنة مبينة لدلالة القرآن
انتقد “كاتبهم” على العلماء قولهم: “السنة قاضية على القرآن“، واصفا قولهم هذا بأنه “وقاحة وجرأة على الله” مستغربا أن يكون ما غالبه ظني الثبوت قاضيا على ما هو قطعي الثبوت، وهذا يثبت ضعف عقله الشديد، فليس الحديث هنا عن الثبوت بل الدلالة، فدلالة السنة قاضية على دلالة الآيات القرآنية -وكلاهما ظني الدلالة في الأغلب- باعتبار في غاية المعقولية والمشروعية، وهو أن السنة بيان للقرآن كما قال تعالى: “وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم“، ولئن تورع الإمام أحمد عن هذه العبارة فإنه حقق معناها بقوله: “ولكن السنة تفسر الكتاب وتعرف الكتاب وتبينه” كما في الكفاية للخطيب البغدادي.
فيبدو أن الوقاحة كانت من نصيب “كاتبهم”.. فإنه قد جنى على العقل والفهم السليم بكل وقاحة.
تلقي المحدثين المتخصصين لأحاديث الصحيح بالقبول والأمة تبع رغما عن “الأيام”!
زعم “كاتبهم” أن ما يدعيه العلماء من كون الأمة اتفقت على تلقي صحيح البخاري بالقبول كذبة، مدعيا أنه يكفي لهذا أن الشيعة يخالفون أهل السنة في ذلك. وهذا يعني أن الكاتب لا يفهم مصطلحات العلماء، فليس المقصود بـ”الأمة” هنا إلا “المحدثين” أهل الاختصاص، وغيرهم تبع لهم في ذلك، ولذلك عبر عن ذلك ابن حجر في “نزهة النظر” بـ”تلقي العلماء“، وبين العقلي هذا فقال:
“لما ألف البخاري كتاب الصحيح عرضه على علي بن المديني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة إلا أربعة أحاديث، قال العقيلي: والقول فيها قول البخاري وهي صحيحة”، فعلي ابن المديني أحد أئمة علم العلل المتخصصين الكبار ومعه الإمام الجبل أحمد بن حنبل ويحيى بن معين… وغيرهم ممن هم على شاكلتهم.
أفنلزم ما اتفق عليه المتخصصون، ونقبل قول “كاتبهم“!؟ وعلى هذا فلا يدخل الشيعة في هذا، ولا أثر لمخالفتهم، لا لكونهم شيعة، بل لكونهم لا يعد فيهم من هو من أهل هذا الشأن مثل أهل السنة.
انتقد أحاديث الصحيح
شاغب “كاتبهم” بأن بعض العلماء انتقد على البخاري أحدايث فيه، لكنه لم ينتبه لـ”سبب ما” أن غالب انتقادهم كان للأسانيد لا المتون، أي أنهم يسلمون بصحة المتن، لكنهم عابوا عليه استعمال أسانيد فيها رواة منتقدون، ومن ذلك انتقادات الدارقطني، وقد عدد ابن حجر أنواعها فجعلها ستة في الجملة لا تضر أصل الكتاب، وليس هذا محل التفصيل في هذا.
وقد كنا تدارسنا قديما مع شيخنا محمد محفوظ البحراوي جزءا من “سياق الأحاديث التي انتقدها الدارقطني وغيره على البخاري” والجواب عنها، وتحصل عندنا من ذلك ما قاله ابن حجر.
نقص عقل مركبة… وعملية حساب فاشلة
زعم “كاتبهم” أنه إن كان البخاري قد انتقى صحيحه من نحو ستمائة ألف حديث، وأنه كان كلما أراد وضع حديث في كتابه صلى ركعتين فإنه يكون قد صلى مليونا ومائتي ركعة!
وهذه العملية الحسابية تدل على “نقص ما في عقله“، فمن معاني “حديث” في لغة المتقدمين “رواية“، فكل رواية بإسناد تعد حديثا وإن اتفق المتن، وهذا يعني أن عدد المتون سينزل إلى نحو مائة ألف!
هذا النقص الأول في عقله الأولى، وأما الثاني وهو أنقصها، فإن البخاري كان يصلي ركعتين لكل حديث “يضعه” في صحيحه، لا لكل حديث “يحفظه” في صدره، وهذه من أمهات “التكليخات“، فمجموع ما رواه البخاري بالمكرر بضعة آلاف رواية…! وأما “كاتبهم” فلم تنفعه دعواه “الاعتماد على لغة الأرقام الصماء التي لا تحابي أحدا” لأنه كان يفتقد شيئا آخر أهم…وهو العقل!
نسخة البخاري..التي وصلت إلينا !
لعل أقوى حجج “كاتبهم” المغرور زعمه أنه لا توجد نسخة لصحيح البخاري بخط صاحبه، وأقام الدنيا ولم يقعدها، وتحدى علماء الأمة أن يأتوا بنسخة بخطه، وهو أمر مضحك، يدل على “نقص عقل” “كاتبهم“، فليس هناك عاقل ولا باحث في علم “الكوديكولوجي” -الذي ذكره منتشيا به كلابس ثوبي زور، وكأنه يحسب نفسه إماما فيه، أو داخل إلى الصحراء والماء في فيه- زعم أن ذلك شرط، وسأبين سبب “نقص عقله“، فإنه أوهم نفسه أن هذه هي الحجة التي لا ترد، ولم يع عقله أنها لا قيمة لها …على الإطلاق.
يعرف علماء المسلمين طريقتين لتلقي الطالب العلم والحديث من الشيخ، باللفظ المسموع والكتاب المقروء، أما اللفظ فأن يؤخذ العلم المسموع من لفظ الشيخ يمليه على الطلبة، يستظهره من حفظه أو من كتابه، أو يقرأ عليه الطلبة كتابه وهو يتابعهم مصححا ومقررا، وأما الخط فأن يناول الشيخ نسخة مصححة من كتابه لطالب فيمتلكها، أو يعيرها له لينتسخ منها، أو يرسلها إليه أو يوصي له بها، وكل هذا مع الإذن له بروايتها وهي الإجازة.
وقد شدد العلماء في ضبط الكتاب وتصحيحه حفظا للسنة من التصحيف والتحريف والزيادة والنقص، وقد بين أوجه ذلك القاضي عياض المالكي في “الإلماع” ألطف بيان وأحسنه.
أخذ عن البخاري صحيحه جملةٌ من المحدثين الفضلاء، وقد اشتهر عند العلماء منهم محمد بن يوسف الفربري المتوفى سنة (320 هـ) وإبراهيم بن معقل النسفي (المتوفى سنة 295هـ) وحماد بن شاكر النسوي (المتوفى سنة 311هـ) وأبو طلحة منصور بن محمد البزدوي وأبو عبد الله المحاملي وآخرون.
وقد انتشرت روايتهم عند العلماء واعتمدوا عليها، ودخل الأندلس منها روايتان، رواية الفربري ورواية النسفي كما قال القاضي عياض في “الغنية“، وتميز الفربري بأن ملَّكه البخاري نسخته الأصلية، فبقيت عنده ونقل منها عدد من الرواة، وقد انتشرت بين العلماء اثنا عشر رواية عنه، وهذا يكفي في الرد على “كاتبهم” المغربي، ويراجع في هذا كتاب قيم جدا بعنوان “روايات الجامع الصحيح ونسخه” للدكتور جمعة فتحي عبد الحليم.
ورسالة خاصة إلى من وراء كل هذا، وإلى مرتزقتهم، سيكون أتباع الأنبياء وأنصار الوحي لكم دائما بالمرصاد، والله غالب على أمره.
_ عن هوية بريس _