في فاس.. أول جامعة في التاريخ لم تتوقف عن العمل

فاس (المغرب) – بعد 12 قرناً، لا تزال “القرويين” في فاس المغربية، تؤدي دورها كإحدى أقدم الجامعات في العالم، بل وتصنفها موسوعة “غينيس” كأول جامعة في التاريخ، لم تتوقف عن العمل.

تغيرت الدول، التي تعاقبت على حكم المغرب، وبقيت “القرويين”، التي شيدتها فاطمة الفهرية، شاهدة على عصور أنجزت “منارات” المعرفة الإنسانية.

فمن هنا مر بن خلدون وبن رشد وبن حزم والشريف الإدريسي، وغيرهم كثير.

في إحدى زوايا جامع القرويين، الذي يوصف بـ”جوهرة الهندسة المعمارية المغربية” بفاس (شمال)، بصومعته البيضاء المتفردة، اجتمع 20 طالباً، بينهم 3 طالبات، حول كرسي خشبي اعتلاه أحد أساتذتهم، بجلبابه المغربي التقليدي.

يقرأ أحد طلبة الفصل الثالث نهائي، من كتاب “صحيح مسلم”، المقرر في فقه الحديث، فيما يتولى الأستاذ شرح ما قرأه الطالب، وباقي الطلبة يستفسرون حول ما تعذر عليهم فهمه، قبل أن يأذن الأستاذ للطالب بمواصلة القراءة من الكتاب.

يمر شرح الدرس، وفق الطريقة المعمول بها في القرويين، حسب عمر الدريسي، الأستاذ بجامع القرويين، بستة مراحل، تبدأ بقراءة الحديث وحفظه، ثم الوقوف عند بعض روايات الحديث، ورواته لمعرفة مدى صحته.

ثم شرح الحديث، قبل الوقوف عند الأحكام الفقهية، وأخيراً معاودة سرد الكتاب من أجل استحضار ما درسه الطلبة، واستدراك ما قد يكون فات في المراحل السابقة.

أما عن منهجية التدريس في القرويين، والتي تختلف فيها عن باقي الجامعات الحديثة، فتقوم، حسب عمر الدريسي، على دراسة “المتون” (كتب مرجعية قديمة)، سواء تعلق الأمر بعلوم اللغة العربية أو الشرعية، أو حتى بعض العلوم العقلية، كالفلك والتوقيت وغيرهما.

وأضاف “في التدريس بالقرويين نعتمد الكتب لا الملخصات، كما في الجامعات الحديثة”، موضحاً أنه “بما أن هذه الجامعة ضاربة في التاريخ فإننا نرتبط بالكتب القديمة”.

واعتبر أن “الطلبة عندما يدرسون كتب العلماء الكبار القدامى يسيرون على نهجهم”.

وكما لو كان يدفع تهمة “الجمود”، التي طالما طالت التعليم الديني، قال الدريسي إنه “بالإضافة إلى علم المتون في التدريس، فإننا نحاول دمجها مع طريقة التدريس الحديثة”.

بعدما حفظ القرآن صغيراً، وأتقنه حفظاً ورسماً، إلتحق أيوب العياشي، طالباً بالقرويين، بعدما اجتاز امتحان الدخول إليها.

ومن شروط الالتحاق بالجامعة العريقة أن يكون الطالب متمكناً من حفظ القرآن، وبعض المتون الضرورية، حسب أيوب العياشي، الذي يستعد وزملاءه للتخرج حاملاً شهادة “العالمية” نهاية العام الدراسي.

ورغم أنه كان يمكن أن يلتحق بإحدى الجامعات الحديثة الأخرى، إلا أن العياشي اختار القرويين لـ”مكانتها الكبيرة ولقيمتها ولأهميتها وللمواد التي تدرس بها والأساتذة الذين يدرسون فيها”.

وأضاف أن “التدريس في القرويين يعتمد على طريقتين، وهي الاسلوب القديم الذي نقول عنه (ما كان أصح علم من تقدم) أي منهج من تقدم، والطريقة البيداغوجية الحديثة”.

وكشف أن السبب الذي جعله يلتحق بها، هو الانتساب إلى هذا الصرح العلمي الشامخ، والرغبة في الحصول على شهادة “العالمية” لما لها من مكانة علمية واجتماعية.

يقضي الطالب 12 عاماً من الدراسة بالقرويين ليتخرج ويحصل على الشهاذة المرموقة في في العلوم الشرعية واللغوية، قبل أن يلتحق بمعهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات، لشغل وظيفة مرشدين دينيين، أو أئمة وخطباء، او في خطة موظفين بوزارة الأوقاف والشؤون العلمية، والمؤسسات الدينية الرسمية (المجالس العلمية).

كما يمكنهم الإلتحاق بالجامعات الحديثة لاستكمال دراستهم في الماجستير ثم الدكتوراه في الشريعة والدراسات الإسلامية.

“منذ تأسيسه في أواسط القرن التاسع الميلادي، على يد امرأة، لم يتوقف جامع القرويين عن أداء رسالته العظيمة”، يقول عبدالمجيد المرضي، الإمام المشرف على القرويين.

وشيد “القرويين” العام 859 ميلادية، على يد فاطمة الفهرية المنحدرة من القيروان بتونس حالياً، وبني في البداية على مساحة صغيرة، قبل أن يتم توسيعه وتزيينه وترميمه، في فترات متلاحقة من التاريخ، وبتعاقب الدول التي تعاقبت على حكم فاس والمغرب.

وظلت “القرويين” قطباً تعليمياً مهماً ومركزاً للمعرفة العلمية والدينية في العالم الإسلامي، منذ تشييدها.

ويضيف “هذه المنارة التاريخية تصنف الآن، من قبل موسوعة غينيس للأرقام القياسية، كأول جامعة في التاريخ، من حيث توفرها في مرحلة مبكرة على مجموعة من المواصفات جعلت منها جامعة”.

وأضاف المرضي أن القرويين هي أول جامعة أنشأت الدرجات العلمية، وكذلك ما يسمى بالكرسي العلمي المتخصص، مشيراً إلى أن “هذه المنارة العلمية أدت أدوراً تاريخية وعلمية عديدة، وظلت معطاءة في مجال العلم والإنتاج الفكري ولم تتوقف.

ومرت هذه الجامعة عبر مراحل مختلفة من جامع بسيط إلى جامعة متخصصة في علوم شتى، درس فيها الطب والفلك، والفكر الإسلامي والعلوم الإسلامية وعلوم المنطق والفلسفة والحساب وغيرها، وفق المشرف عليها.

وتابع المرضي أن القرويين “كانت مقصداً للعلماء من أنحاء شتى من العالم، حيث أن علماء الأندلس يتوافدون عليها للانتساب إليها وتحصيل الدرجات العلمية فيها والاستفاذة من علمائها وتبادل الخبرات في المجالات العلمية”.

وامتد إشعاع “القرويين” عبر محيطها، إلى درجة أن الكثير من الصناع والحرفيين في فاس كانوا يشاركون علماء القرويين في مناقشات دقيقة للفقه والحديث، بل في علوم المنطق والعلوم العقلية، وأفردت دروساً خاصة للصناع والحرفيين وعموم الناس، حسب المتحدث.

واستقطبت العديد من العلماء والفلاسفة، وبينهم بن رشد، بن باجة، ومؤرخون مثل بن خلدون وأطباء فلاسفة مثل بن ميمون، وجغرافيون مثل الشريف الإدريسي، ومتصوفة مثل بن حزم وعبد السلام بن مشيش وغيرهم.

ميدل ايست أونلاين

https://youtu.be/BuiwVWAijMg