في لقاء تاريخي تخطى تيمات الثقافة والسياسىة، ختم المقهى الثقافي نسخته السادسة بمحاضرة ألقاها إدريس اليزمي، رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان، في موضوع : “حقوق الإنسان وتنزيل الدستور”.
فبعد حسن أوريد وأحمد عصيد وإدريس خروز وحسناء أبو زيد وعبد القادر الشاوي، كان رواد المقهى الثقافي بقصر التراب، أمس الأربعاء 10 ماي 2017، على موعد مع المنجز الحقوقي ببلادنا منذ تسعينيات القرن الماضي، وليس فقط منذ 2011.
من هذه المقاربة التاريخية انطلق اليزمي في تواصله مع نخبة من الأساتذة الباحثين والطلبة، ونخبة من الحقوقيين والمهتمين، الذين حجوا لقصر التراب حاملين معهم، عشرات الأسئلة الحقوقية الجارحة، تتعلق بالشغل والمساواة والحق في التظاهر والإرث والإجهاض والتعليم والدولة المدنية،ليكشف عن وقائع حقوق الإنسان في المغرب على ضوء ما جاء به دستور 2011، في علاقة مفصلية مع ما سبق من إرث هيأة الإنصاف والمصالحة، وتقرير الخمسينية، وانطلاق بناء مؤسساتي لحقوق الإنسان ( المفهوم الجديد للسلطة – إحداث الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري (2002)– إحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية (2002))، ونظامية وتطبيع العمليات normalisation الانتخابية منذ 2002 وحياد متزايد للسلطات العمومية المكلفة بإدارة العمليات الانتخابية، ومسار العدالة الانتقالية (2004-2005).
واعتبر رئيس المجلس الوطني لحقوق الانسان ضيف النسخة السادسة، أن أهمية التوصيات المتعلقة بالإصلاحات المؤسساتية، هي التي شكلت فيما بعد أساسا لخيارات حقوق الإنسان، ببلادنا، وهو ما توج بدعم الحقوق الإنسانية للنساء (مدونة الأسرة، قانون الجنسية 2007)، وإقرار مدونة الشغل سنة 2004، في إطار توافقي لبين الفرقاء الاقتصاديين والاجتماعيين.
ومن جهة أخرى، استحضر إدريس اليزمي، كيف تم إدراج مقاربة حقوق الإنسان والديمقراطية التشاركية في السياسات العمومية الوطنية والترابية (المبادرة الوطنية للتنمية البشرية (2005)، التخطيط التشاركي المبني على النوع الاجتماعي في إعداد مخطط تنمية الجماعة (الميثاق الجماعي ل 2008) ، اللجنة الاستشارية للمساواة و تكافؤ الفرص (الميثاق الجماعي ل 2008)، تقرير النوع الاجتماعي المرفق بقوانين المالية (منذ 2007)، الخطة الوطنية للطفولة (من أجل مغرب جدير بأطفاله)، خلاصات اللجنة الاستشارية الملكفة بالجهوية (2010)). كل هذا جاء في إطار الدور المتزايد للمجتمع المدني في الترافع حول قضايا حقوق الإنسان ، وحريات الجمعيات، التي مست المساهمة في مراجعة قانون الجمعيات سنة 2002، والحقوق الانتخابية للنساء من خلال المساهمة في تعديلات القوانين الانتخابية في 2002 بالنسبة للانتخابات التشريعية و 229 بالنسبة للانتخابات الجماعية، بالإضافة إلى الحكامة الترابية والديمقراطية التشاركية (المساهمة في تعديل الميثاق الجماعي).
هكذا استحضر رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان المسيرة الحقوقية التي عاشها المغرب، والتي دشنها قبل دستور 2011 ، بالتقاء أجنداتConvergence des agendas عدد من الفاعلين و السياقات : دور المؤسسة الملكية، دور المجتمع المدني، تجاوب ملائم على العموم من قبل البرلمان و الحكومة، و سياقات ملائمة (كسياق العدالة الانتقالية)، و هو ما خلق جوا جد ملائم لتقوي الطلب على الولوج إلى الحقوق (الديناميات الاحتجاجية الاجتماعية منذ 2008، حركة 20 فبراير…) .
وتماشيا مع نفس السياق، إنتقل اليزمي في عرضه من دستور تنظيم السلط إلى دستور بمثابة صك Charte للحقوق و الحريات: ثلث المتن الدستوري مكرس لضمانات الحقوق و الحريات، دسترة عدد من الحقوق ذات الطابع الإجرائي (ضمانات المحاكمة العادلة)، دسترة الالتزامات الإيجابيةles obligations positives المتعلقة بالمناصفة، و بتعبئة الوسائل من أجل التمتع الفعلي بالحقوق الاقتصادية و الاجتماعية، دسترة المنظومة الوطنية لحماية حقوق الإنسان le système national de protection des droits de l’Homme (استقلال السلطة القضائية، الدفع بعدم الدستورية، دسترة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، الوسيط، هيأة المناصفة و مكافحة كل أشكال التمييز، مجلس الجالية)، الإطار الجديد للحكامة الترابية و حقوق الإنسان (مبدأ التدبير الحر للجماعات الترابية).
وتفاعلا مع العديد من الأسئلة التي طرحت للنقاش، أعتبر اليزمي أن الضمانات الدستورية الجديدة هي بمثابة capitalisation لمجهودات جميع الفاعلين قبل 2011، حيث أحدثت جسور مؤسساتية بين المؤسسات الدستورية والتعاون فيما بينها في مجال حماية الحقوق والحريات، وتجويد التشريعات وملائمتها مع الاتفاقيات الدولية وكمثال ملموس على ذلك عضوية كل من رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ووسيط المملكة ضمن المجلس الأعلى للسلطة القضائية وكذا التعاون القائم بين مجلسي البرلمان والمجلس الوطني لحقوق الإنسان.
واعترف اليزمي ومن دون مركب نقص، بضرورة رفع التحديات لتجاوز النواقص وبعض الاختلالات، للرقي إلى مستوى استكمال مسار أجرأة دستور 2011 تنزيله، بشكل يستجيب للمتطلبات الدستورية و الالتزامات الاتفاقية : استكمال المصادقة على قوانين تنظيمية هامة مثل: القانون التنظيمي للدفع بعدم الدستورية، القانون التنظيمي المتعلق بتفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية، القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الوطني للغات و الثقافة المغربية، القانون التنظيمي المتعلق بحق الإضراب. ثم رفع تحدي استكمال بناء المنظومة الوطنية لحماية حقوق الإنسان، والتي تهم الاختصاصات الجديدة للمجلس الوطني لحقوق الإنسان، وضع هيأة مكلفة بالمناصفة و مكافحة كل أشكال التمييز ذات اختصاصات حمائية في مجال مكافحة التمييز على أساس النوع، بالإضافة إلى ضرورة بناء نظام متكامل لعدالة جنائية فعالة ومنصفة وإنسانية ومسؤولة، خال من عقوبة الإعدام، يوسع نطاق العقوبات البديلة والتدابير الوقائية وكذا أشكال ملائمة لتنفيذ العقوبات، يحمي المجموعات الهشة (الأطفال والأشخاص في وضعية إعاقة والمهاجرين في وضعية غير قانونية وضحايا الاتجار بالبشر والمجموعات الهشة الأخرى كمستهلكي المخدرات…)، يطور الحماية و الوقاية من التعذيب والتمييز والعنف ضد المرأة، يرتكز على مقاربة لا تنص على عقوبات ضد السلوكات التي تدخل في باب ممارسة الحريات الفردية والجماعية. واستكمال أجرأة المبدأ الدستوري للمساواة، وفي مقدمته: أولوية مراجعة مدونة الأسرة، دعم المنظومة القانونية لتدابير التمييز الإيدابي للرفع من تمثيلية النساء في مناصب المسؤولية سواء فس الانتدابات الانتخابية أو غير الانتخابية، و في القطاعين العام و الخاص.
وفي الأخير، وتفاعلا مع العديد من آراء رواد المقهى الثقافي، دعا اليزمي إلى إعمال مقتضيات الدستور و توصيات هيأة الإنصاف و المصالحة المتعلقة بالحكامة الأمنية، من بينها: المجلس الأعلى للأمن، مراجعة المنظومة القانونية للتظاهر السلمي و التجمعات العمومية. كما طالب من كل الفاعلين العمل على وضع إطار متكامل للسياسات العمومية المرتكزة على حقوق الإنسان بناء على مقتضيات الدستور، وتنفيذ الالتزامات الاتفاقية لبلادنا، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، إعمال المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة بشأن الأعمال التجارية و حقوق الإنسان، و كذا الالتزامات الناتجة عن الاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة بشأن التغيرات المناخية و اتفاق باريس، من دون أي قفز على مبدأ تكريس ثقافة حقوق الإنسان: منظومة التربية و التكوين، مكافحة خطاب الكراهية، و العنصرية و التمييز و التحريض على الإرهاب، دعم قدرات فاعلي المنظومة الوطنية لحقوق الإنسان.