إن قمت بجولة ببلاد المغرب فلا تستغرب من المفارقات العجيبة بين مدن الحظوة ومدن المغضوب عليهم ولا الضالين. خرجت يوما عاقدا عزم الرحالة ابن بطوطة على حط الزيارة بمدينة طنجة العالية. بيني وبينكم أحمل حبا تاما لمدينة مكناس بعد الوطن الكبير، أحمل نذوب شر ما تعانيه وتكابده مكناس من وضعية بئيسة ورؤية إصلاح تصرف قولا (كطاحونة الطلاسم…)، وجدالا مقيتا بحد المزايدات السياسية الفظة. اليوم انكشف عني حجاب طول انتظارية التنمية المندمجة بمكناس، انكشف عني التسويف -(عمُر نفسك بالصبر)- شهرا بعد شهر، وسنة تتلوها الأخرى، والتي يصرف علينا الزمن الضائع بالتعدي والتسويغ الممل.
ملاقاة مدن الشمال بالزيارة كانت منشأ جولة بسيطة غير مخططة بسبق طبعي الإجرائي. قادتني تلك الزيارة إلى حدود محج الملك محمد السادس ( كورنيش مدينة طنجة العالية ). أذكركم أن جل كتاباتي عن مدينة مكناس يغلب عليها الطابع الواقعي الوصفي، دون ربطه بالتوابل السياسية للمدينة والتي أفرزت حرارة (فلفل) منفرة من طنجرة إصلاح وهيكلة مدينة منسية.
سابقا قبل جولتي كنت أحمد العلي القدير على تلك الحركة البطيئة للإصلاح والترميم بمكناس، كنت أمني نفسي بالأمل وأقول ” العماش و لا بلاش” . لكني اليوم رفع عني حجاب غشاوة أهل كهف مكناسة الدراويش، شعرت كالمغرر بهم بتنمية مندمجة مستديمة بمكناس، أحسست أنني خرجت من مكناس وتجاوزت سرعة مجلسها الموقر والمحددة في سلم التنمية ب (65 عضوا) ، أحسست أننا بمكناس تمارس علينا صناعة القيل والقال (الشفوي فقط )، أحسست بالحكرة ووجوب انحناءة الرأس كرها، أحسست باليقين أن مرتبة مكناس بين مدن المغرب (82 عمالة وإقليم) تساوي المرتبة (65) في التنمية المجالية. آه، كم أنت مسكينة مكناسة؟.
لحد الساعة ألسعكم بكلام سام عن مدينة المولى إسماعيل، فمعذرة سادتي الكرام. لما الحنق يشد حنجرة كل محب لمدينة مكناس؟ . في جولتي القصيرة المدة و التي دامت يومين، رأيت أن جل المدن المغربية في حركة تنموية سريعة، شاهدت مدى الحركة الاستعجالية في تأثيث المجال العمراني والبنية التحتية لمدن الامتداد الطرقي نحو طنجة. وقفت بعين الفاحص بالمقارنة أن مكناس هي البدء بمدن المغضوب عليهم. أدركت أن مفتاح المدينة (الذي سلم للمغني المغربي الدكالي) كان عنوة من النحاس المصقول.
مدينة طنجة، لا أزايد عليكم القول حين خبرتها كانت تشبه بالتمام مكناس وأقل، الآن مدخلها الذي يوازي (30كلم) ينشرح الناظر عبر جنباته المخضرة ، يبعث في السائق والزائر راحة من متسع طريق تحتضن كل السيارات والعربات ودون منبهات تلوث السمع، كل جوانب الطريق فارغة من العربات البالية المركونة بالتقادم، وحتى الطوار لا يحمل لون الأحمر والأبيض (ممنوع الوقوف) بل هناك علامات متباعدة تحمل رمز ممنوع الوقوف والتوقف، هناك ممرات خاصة للراجلين تحترم بالأولوية المطلقة. هناك محاور طرقية عبر أنفاق، إنها طنجة العالية وأنعم.
بمدينة مكناس تم تقليص مساحة الطرق ومخارجها، و التي كانت من وحي فقهاء فقه التضييق الافتراضي ومهندسي الإبتكار. هو التخطيط المندمج والسياسة بمتسع معاقبة الساكنة على المطالبة بالإصلاح و التنمية، هو رؤية التخطيط من وسط المكتب المكيف والذي لا يراعي ما يقاسيه المواطن المكناسي وسط مدينته من اكتظاظ وازدحام وضغط نفسي، و ما يكابده من غبار أتربة الإصلاح غير المنتهية، ومن برك الماء الآتية مع أول نقطة في فصل الشتاء.
بمدينة طنجة، تم كسح الساحل من كل الخمارات و علب الليل ومن كل أشكال الفيدورات، وتم فتح المدينة على مشرق بحر برحابته الشاسعة بعد أن كانت طنجة تولي ظهرها للبحر. بمدينة مكناس لنا من الآثار الإسماعيلية ما يفوق مراكش، لكننا نسعى إلى التضييق عليها بالغرف والعمارات بمقرر جماعي / استثنائي حتى لا يعدو لها أثرا ظاهرا للعيان.
بمدينة طنجة، تم إنجاز موقفا للسيارات بالمعايير الدولية (تحت الأرض) وعلى طول المحج (الكورنيش)، بمكناس تجد الديبناج يطوف بالمدينة إيابا وذهابا لاصطياد سيارات الزبائن الغافلين عن علامات منع الوقوف المتقادمة (الكاشفة) والمستحدثة (بدون إخبار تنبيهي)، إنها فخاخ أهل مكناس ( يديو ليك السيارة مرفوعة، كما داو دار سيدي قدور العلمي سلفا)، هي مكناس التي تحتاج إلى قلب (الطرحة) وبناء علاقة جديدة مع الساكنة والأرض والإرث الحضاري.
شريط الطريق الممتد بعد مكناس إلى طنجة يعرف حركة توليفية للمجال التنموي، هو في شد سريع على تعشيق جودة التنمية المندمجة. هنا نزلت علي نار حرارة مكناس بردا وسلاما بطنجة . ملعب كبير، محاور طرقية واسعة وبجودة عالمية، كلية طب ومستشفى جامعي بالمعايير الدولية، مستشفى للأنكولوجيا من الخارج تتضح به علامة واجهة الدار بالحسن والجودة، سياحة أنيقة ومربحة، محج (الكورنيش) بحري ممتد بطول الشاطئ، أمن يقظ ومتتبع للحركة السياحية بالمدينة. إنها طنجة وأنعم ثانية، وفي مقابل وجه المخالفة يتموضع موقع مكناس.
بين مكناس وطنجة مال عمومي صرف على الأخيرة ، مال عمومي تمد به مكناس يدها فلا مجيب . فرغم أن المجلس الذي يدير الشأن المكناسي هو من نفس المكون السياسي الذي يرأس الحكومة، فإنه لم يستفد من أي تمييز ايجابي، لم يستفد من دعم تخطيط مستقبلي لملعب كبير، لمسرح كبير، لشبكة طرقية تفك ضيق وما تم تضييقه من مسالك مدينة، لرؤية جمالية للمدينة بالجودة، لاحترام تام للآثار التاريخي للمولى إسماعيل والتي تتهاوى يوميا بالسقوط وتسكنها الروائح الكريهة.
بين طنجة ومكناس مدفع واحد يشد الزوار إليه، بينهما أصبحت المسافة أبعد، بين من يعانق التحضر والتحديث وبين من يركب على الثرثرة المملة للسياسة والتنمية، حتى إن محب الاختصار يقول عن مكناس ماتت والسلام.
محسن الأكرمين.