بقلم : “عبد اللطيف مجدوب”
(إيموزار مرموشة)
ذهب الحسلاوي في زيارة إلى إيموزار مرموشة ، بمناسبة زفاف أحد أقربائه هناك . كان الطقس باردا والدنيا من حوله متشحة بالبياض الناصع ، سواء على القمم الصخرية أو أغصان شجر الأرز .. كان يحث طريقه الموحلة بين فجاج وسط أكوام جليدية ؛ تناثرت على ضفافها ، فلم تكن سيارته رباعية الدفع لتسعفه أحيانا في تخطي بعض المواقع والمطلة على أغوار بدت سحيقة في السفح . من حين إلى آخر كانت تلامس ناظريه خيوط أشعة دافئة تتسلل خجولة من وراء سحب كثيفة تجثم على القمم ، فيتوقف لحظة ليضع نظارته الشمسية ، ويولع سيجارته قبل أن يستأنف طريقه . تراءت له من بعيد دور وأكواخ متناثرة ؛ لا أثر لحركة بينها سوى أعمدة دخان تتعالى في الفضاء من جوار إلى آخر . كانت الساعة الثالثة بعد الزوال حينما شرع المدعوون والضيوف يتوافدون على منزل الحاج لهبوب ؛ معظمهم قروييون يتلفعون بالجلاليب السغروشنية بلون ضارب إلى الداكن ، مع خرق صوفية تتوشح بها رؤوسهم .. لكن الحسلاوي من بينهم كان يشكل استثناء بمعطفه الصوفي الذي تجاوز ركبتيه مع حذاء جلدي بسلسلة على طول ساقه ؛ بدا في حلته أشبه بضابط عسكري موال لهتلر .
الصبية الفاتنة
قاعة فسيحة ؛ تزدان جنباتها بأفرشة الموزونا ومتكآت وطنافس نحاسية لماعة وموائد ضخمة ، إلى جوار مدافئ تتقد جمرا كانت تتوسط القاعة .. وبدت غاصة بالضيوف . بين الفينة والأخرى كان الحاج لهبوب يخطو بينهم ولسانه لا يفتر عن الترحيب ” … إسواذو أتاي … إسواذو أتاي …” ، حتى إذا اقترب من الحسلاوي بادره باتسامة : ” آلدكتور إنو..إسوذ أتاي واتسحيذشا ..” . رد عليه بإماءة رأس وهو يهم بتثبيت سيجارة بين شفتيه .. قبل أن يتوجه صوب قاعة مجاورة بقصد الفضول ، وإن كانت التقاليد المحلية لا تسمح بولوجها إلا للمقربين ، كانت تزدحم بنساء الأعيان من كل القبائل المجاورة ؛ لباسهن مثقل بأساورة وأقراط وأحزمة ذهبية ، تشدهن إلى بعضهن نظرات التباهي والخيلاء والعجرفة .لم يكد بصره يجول بينهن حتى استوقفه وجه إحداهن ؛ ذات جمال أخاذ خلب لبه وجعل يمسح على جبينه من صدمة المفاجأة ، بينما كان صوت الحاج لهبوب يناديه من الخلف : ” … آلدكتور … آغروم ..دابا ..يالله ..” قبل أن يتحلق بإحدى الموائد الضخمة ، أسر في أذن أحد جلسائه : ـ ” .. من تكن تلك الغادة الحسناء ذات الشعر الأشقر والمنزوية بركن القاعة ..هلا عرفتها ؟” ـ ” ..عرفتها .. عرفتها وسأل عنها آخرون قبل مجيئك .. قيل إنها إبنة القائد رضوان ..”” .. آتشْ .. آتشْ .. مرحبا .. آلدكتور إنو..” .. لم يكن ليبالي لا بالترحيبات ولا بالخرفان المشوية التي كانت تزدان بها موائدهم تفترش لها الثريد وقضبان السفود مغروسة من حولها .انتحى الحسلاوي زاوية هناك وطلب فنجان قهوة ، لم يلبث أن وشوش في أذن عمه الحاج لهبوب ” …كيف هي صلتك بالقائد رضوان …ألم ..” قاطعه عمه بقهقهة كشفت عن أسنانه الذهبية : ” .. آرْحوبْ .. آرْحوبْ ..أيامشونْ ..آرح.. أتقصد بنته فتون ؟ ” ـ ” .. أي نعم .. الحاج ، هل تسمح لي بأن تتوسط لي عنده ..؟” ـ ” .. لا أعرف فالقياد جبابرة .. ويشترطون أمورا خيالية ..ثم إن ..” قاطعه الحسلاوي بتوسل باد : ” .. فاتحه .. وليكن ما سيكون ..” غاب عنه طويلا ، وبعد أن أخذ الضيوف في الانصراف لوح له عمه من بعيد ، حتى إذا دنا منه قال له بنبرة لا تخلو من ارتياح : ” .. قال لي سأنتظره صباحا بمكتبي ..”
الزواج وبعد ؛
الحسلاوي بمكتب القائد ، بادره هذا الأخير ” .. مرحبا بالسي الحسلاوي .. بالأمس حدثني عنك طويلا الحاج لهبوب .. بصراحة جاءتني طلبات عديدة بشأن خطوبتها ؛ معظمها من أصدقائي ، لكن كنت أمانع فهي آخر العنقود والزواج قسمة ونصيب ..”الحسلاوي منحنحا : ” … آسعادة القائد ..أنا ” قاطعه في الحين ” .. سي رضوان باراكا عليا لا قائد ولا سعادة .. الله يوفق ، لك الخيار في تحديد تاريخ الزفاف شرط أن تخبرني به قبل شهرين … أما المهر فلن أزيد على عمك الذي اشترط خمسين ألف درهم لتزويج ابنته .. اتفقنا ..؟ ” الحسلاوي بصوت خجول ..” .. اتفقنا سعادة …لا عفوا سي رضوان ”
نيران الغيرة ..
تزوج الحسلاوي بفتون واستقر بالدار البيضاء إلى جوار عيادته . كان جمال زوجته فتون ومفاتنها الأخاذة حديث الخاص والعام ، وهو ما ملأ عليه هواجسه ، فتحولت إلى نيران غيرة لا تطاق ، حتى إنه كان يدخل معها في سجال” ..لم تأخرتِ عن المنزل .. لماذا لا تردين علي نداءاتي في الحين .. لماذا … لماذا ” كانت تشعر بالمضايقة ، وبدت لها حياتها الزوجية في سنتها الأولى شبه جحيم ، لا سيما بعد أن كان يرفض اصطحابها إلى دعوات الأصدقاء والأقرباء .. حتى لا تحجب بجمالها وجوده إلى جوارها أو تصوره في أعين الآخرين مجرد حارس لأميرة فاتنة . كان يفرض عليها ارتداء نظارات وملابس بمقاساته ومزاجه حتى لا تمتد إليها أعين الطامعين أو تنقلب عليه من الحاسدين … منعها من أن تكشف عن رقم هاتفها لأحد غير أبويها … وبعد مشادات كلامية سواء على الهاتف أو مباشرة كانت تهدده بنبرة حانقة : ” .. سأتصل بأبي .. ليبحث معي عن حل يريحني من هذا العذاب .. ” وحينما يسمع بصوت أبيها على لسانها .. يخفت صوته ويجنح للسلم .. ذات صباح أيقظتها رنات هاتفها ؛ وهو إلى جوارها ، فلم يتمالك أن انتفض مسرعا إلى المطبخ ويمسك بشفرة حادة .. لكن ما لبث أن قذف بها جانبا لما سمع بزوجته دخلت في نوبة نحيب وصراخ ، وهي تتلقى نبأ وفاة والدها “.. أبي هها .. أبي هها..” ، أمسك هاتفها ليتأكد من نبأ الوفاة .ازدادت حياتها مرارة بعد رحيل والدها ، بل شعرت أنها باتت سجينة في قبضة هذا المارد البارد الذي منع عليها الخروج .. وجلب لها خادمة أوصاها بتتبع حركاتها ومكالماتها في غيابه .وذات مساء عاد إلى الفيلا في وقت غير معتاد ، دخل على حين غفلة وجعل ينادي الخادمة .. لم ترد عنه .. صعد إلى السطح ليجدها نائمة وإلى جوارها فتون تلهو بهاتفها ، فحركت أحاسيسه بنوايا خيانة لا حصر لها ، مما دفعه ليقدم على فعلته ؛ ياما راودته .
المرأة ذات الفم الممزق
بعد أن كبل يديها ورجليها معا ، ناولها مشروبا مخدرا وعلى أثره عمد إلى مقص طبي وشرع يقص فتحة شفتيها من الأذن اليمنى إلى الأذن اليسرى ليعيد رتقها بخيط رفيع .. وبعد أن عاد إليها وعيها أحضر لها مرآة وخاطبها من الخلف بقهقهة مدوية : ” .. هل ما زلت جميلة ؟” .. نظرت إليه بعينين رهيبتين يغمرهما الدم ، أخذ ينسكب على خديها .. فأصدرت صوتا مرعبا شبيها بصوت ثور هائج .. جعله يتراجع باحثا عن منفذ للنجاة بعد أن صكت في وجهه جميع الأبواب .. تقدمت منه وسألته بصوت رقيق ” … كيف تراني جميلة أم قبيحة ؟” ، رد عليها بصوت خنوع : ” … أنت جميلة ” … فما كاد أن يتمها حتى انقضت عليه وغرست في أحشائه طعنات مقص كانت تخفيه من ورائها . اتصل أحدهم من العيادة .. ولما عاود الاتصال تلقى صعقة على هاتفه ليمثل أمامه طيف امرأة نصف محجبة ، وتسأله : ” .. هل أنا جميلة أم قبيحة ..؟” … لم يعرف للجواب سبيلا فسمع صوتا هادرا يتردد من حوله أشبه بصوت طائر السقسقة : ” هيهي .. تسيسي .. هيهي .. تسيسي ..” قبل أن ترميه بمخالبها الحديدية ..
البورطابل المسكون
انتشر خبر اختفاء الحسلاوي ، رغم إجراء تحقيق من طرف الشرطة القضائية بعد أن عاينت مقصا ملطخا بالدم بغرفة النوم داخل الفيلا . لكن أحد عناصر هذه الفرقة تستر على هاتف عثر عليه في الحمام خال من الحرارة ، استبدل بطاقته وقدمه هدية إلى ابنته ذات الخامسة عشرة من عمرها ، فقد كانت مزهوة به بين قريناتها في الإعدادية ..وذات ليلة بينما كانت تدردش مع أصحاب لها أحست بيدها اليمنى باهتزاز غير عادي ، فما لبثت أن أغلقت نافذة الغرفة لاعتقادها بوجود تيار بارد مواجه لها ؛ لم يمض غير قليل حتى أخذ مصباح الغرفة يومض لوحده شيئا فشيئا حتى اكتسح الغرفة ظلام دامس لينكشف عن هالة ضخمة برز من خلالها وجه بشع بعينين حمراوين تتقدان نارا ، وذات فم ممزق يتقاطر دما .. دنا منها مقترنا بصوت جمل في حالة هيجان : ” .. هل أنا جميلة أم قبيحة ؟ ..” لم يبال أحد بصراخها في جوف الليل ، لكن والدتها تناهت إلى مسامعها طقطقة النوافذ وهي تصطك في مهب الرياح ، فنهضت تريد إغلاقها ، لكن كم كانت صعقتها وهي تشاهد ابنتها ملقاة على الأرض مدرجة في دمائها .انتحى أبوها جانبا .. لم يقو من فرط الصدمة على التحدث إلى أحد من المواسين والذين تداولوا على نطاق واسع بأن مجرما أقدم على تصفية حساب بينه وبين والدها في قضية ما . قرر الأب تغيير السكن .. أما أمها فقد وهبت كل متعلقات ابنتها من أدوات وأفرشة إلى أسرة بسيطة كانت تقطن إلى جوارها ، فعثرت هذه الأخيرة من بين مواد هذا “العفش” على هاتف ثمين زهدت فيه بثمن بخس .
الفرقة القضائية للتقصي
شاعت بين كثيرين من الأسر حوادث مصرع أبنائهم بكيفية تراجيدية ؛ تنتهي ملابساتها بعدة طعنات في البطن أو بخنق في التنفس .. مما حدا بهيئة بحث قضائية خاصة إلى تقصي قرائن هذه الجرائم ، فاهتدت إلى وجود جهاز الهاتف منصوصا عليه في كل محاضر الشرطة .السليماني رئيس غرفة البحث الجنائية الخاصة يتحدث إلى أحد رجاله فرغ لتوه من تحرير محضر وقوع جريمة بداخلية إحدى المؤسسات التعليمية :ـ ” .. ألو .. ألو ..سي أحمد احتفظ لي بكل الأشياء المادية التي عثرتم عليها في غرفة الهالكة ..”ـ ” .. نعم سيدي الرئيس .. ستكون في متناولكم في أقرب الآجال ..” داخل مكتب السليماني وبحضور خبراء في الجريمة .. يتداولون في هذا الملف بكثير من الحيرة والارتباك ..ـ السليماني متوجها إلى الحضور : ” .. قضية لم أر لها تعقيدا مماثلا طيلة 20عشرين سنة أمضيتها في هذا المركز…” ، وقبل أن يولع سيجارته استخرج من درجه كيسا بلاستيكيا محكم الإغلاق .. فتحه وأول ما سيسترعي انتباهه وجود هاتف ، أخذه بين يديه يتأمل شكله والماركة المسجلة عليه ، ثم وضعه على الطاولة قبل أن يستمع إلى أحدهم طلب الكلمة :ـ ” .. السيد الرئيس لدي اقتراح بتسجيل أرقام هذا الهاتف لمتابعة أصحابها على الشاشة الكبرى لرصد مواقعهم وعلاقاتهم برقم الهاتف ..”ـ السليماني يعطي أوامره لربط وصلات بين الهاتف والشاشة العملاقة التي كانت تحتل أحد جدران المكتب ؛ وفي لحظة أدار جهاز التحكم عن بعد فاستضاءت الشاشة ، وظهرت أرقام لا حصر لها أخذت تنساب بتلقائية جنونية .. حاول السليماني عبثا إيقاف تدفقها ، لكن الشاشة ستأخذ لونا رماديا ؛ كانت الأنظار مشدوهة ومرعبة وهي تتابع فصول الهاتف .. لكن وبفجائية غير متوقعة صدرت من الشاشة أصوات مروعة أشبه بخوار قطيع من الأبقار : ” ..غوموه … غوموه.. غوموه … غوموه ..”ـ السليماني وقد جحظت عيناه : ” .. لا .. .. لا .. .. لا .. .. لا ..أترون ما أرى .. ياللهول .. .. لا ..ماذا أرى .. إنها امرأة متحجبة تقبع في ركن هناك ؛ أسمع وقع حذائها وهي تقترب مني ..لا .. لا ..”احتلت الشاشة صورة لامرأة تزيح منديلا عن فم ممزق لها حتى الأذنين .. وتصدر صوتا هادرا اقشعرت له فرائص الجميع : ” … هيهي .. تسيسي .. هيهي .. تسيسي .. هل أنا جميلة أم قبيحة …؟” .. ولما لم تلق أي جواب عمدت إلى مقص تحتفظ به بين نهديها .. لتُبقِر بطون الجميع ، وتحول القاعة إلى بركة دماء .قيل إن أحدهم أجابها بأنها جميلة فاقتفت أثره ، حتى إذا كان الليل وخلوده إلى النوم جاءته إلى سريره في صورة جمل بشع ليخنق أنفاسه ، ويخلف من ورائه صوتا مدويا ” .. هيهي .. تسيسي .. هيهي .. تسيسي .. هل أنا جميلة أم قبيحة …؟” عن موقع : فاس نيوز ميديا