ولج قاعة مسرح المدينة بعد أن امتلأت أغلب كراسيها. إنارة خافتة أرخت بضبابها على جل أركان مساحة القاعة الفسيحة. كان يتحسس ممرات القاعة بالتأني والملامسة ، وكأنه ذلك الكفيف الذي علمته التجارب أن يتجنب الممرات الضيقة وشكل الهاوية. كنت في القاعة تسمع خليط أحاديث ثنائية بين كل ثنايا المقاعد المصطفة بالترتيب المتناسق، و لا يعكر اندماج الحاضرين بالوفرة إلا مقتطفات من الضحك وتبادل القبلات برمز الترحيب. إلا أن مهندس الصوت كان يوثر تجريب كل مكبرات الصوت عاليا حتى أنك ترغب في مغادرة القاعة إلى حين بداية العرض، أو تشميع الأذنين تحصينا من التلوث.
عند حافة بداية المقاعد اختار الجلوس والسكون إلى الراحة. لم ينظر يسرة ولا يمنة، ولا حتى في وجوه المتواجدين قعودا بالقرب منه . تفكيره يشتغل بمنتهى ضجيج المكان المفتعل بالتحضير الأولي. حينها احتل عنوان المسرحية (الحب القليل…) مخيلته بالفحص والتمحيص عن رمزية العنوان، وعن أثر الدلالة التي يجب أن يوجه بها العنوان أحداث فصول المسرحية وختم نهايتها.
لكن قبل أن يسقط في متوالية تخميناته حول رؤية المؤلف و المواقف المستهدفة من المسرحية، شدت نظراته الكاسحة للقاعة مع معادلة مضاعفة النظارة الطبية السميكة حجم وجوه الحضور. حيث عدد تنوع الحضور العمري وطغيان تواجد نزق الشباب الذي يتربص سرقة قبلات خفيفة وعناقات حميمية عند فواصل ظلمة القاعة. بين الكراسي لاح له بالتخيل طيف وجه الحبيبة، لاح له لون لباسها السماوي الزرقة المفضل عندها، لاح له بالتشكل ابتسامتها الجانبية بهدوء حركاتها. اشتم حلم وصول عطرها الذي لا تواظب على رشه بالخفيف إلا عند لقائه. لحظتها اختفى مشهد حقيقة القاعة ومريدي المسرحية من تفكيره بالمرة. لعن الكاتب حين قلص مساحة الحب وطالب بالقليل منه، تذكر يوما على يسار القاعة أول لقاء بالحبيبة ، تذكر وجهها الحزين وابتسامتها الخفيفة، تذكر ملامح نحافة جسمها آنذاك، تذكر قوس رؤيتها المائلة إلى الأعلى مثل شمس آخر النهار، تذكر اعتذاره وانسحابه بعيدا إلى زاوية منغلقة بالقاعة للجلوس وحيدا.
الدقات الثلاث نالتها الخشبة بإعلان بداية ” الحب القليل”. حينها علا القاعة التصفيق والصفير. لكنه لم يحرك لا يدا، ولا إشارة فرح، بل اعتدل جلوسا على مقعده، وانتظر انطلاقة العرض.
بين مسرح الخشبة ومسرح الحياة تتوحد الرؤى وتختلف، توحدت حين قدم البطل اعتذاره للحبيبة عن كل الحماقات التي ارتكبها، عن تصرفاته البئيسة بالجبن وخوفه التام من تكسير مسارات الحياة. لحظة اندماج سكنته وسحبته كأنه البطل والراوي بالتحرك على الخشبة، حتى أنك تراه يتمتم و يعدد اعتذاراته، حتى أنه اعترف بالإقرار أن حضوره لمشاهدة المسرحية كان لأجل الحبيبة والذكرى الموضعية.
ريح الخريف و مطر العيون تدل في الأدبيات العربية ” بموت الأرض و بوارها” ، لكنه آثر أن يغير من وضعية جلسته كثور الأسطورة التي تحكي أن هناك ثورا قويا يرفع الكرة الأرضية اعتدالا فوق قرنه الأيمن ، وحين يعييه ثقل الكرة الأرضية وضجيج ناسها ينقلها إلى قرنه الأيسر بخفة، وحينذاك يحدث الزلزال. اعتدل جلوسا حين أصابه زلزال نهاية الفصل الأول، ثم تدلى إلى أسفل الكرسي حتى أن ممثلي خشبة المسرح تسربوا عن الرؤية، ولم يبق منهم إلا صوت الحوار الفاضح للعلاقة الظرفية، وموسيقى الأحداث، وبكاء المحبين عن مآسي نهاية الحب القليل . كيف للحب القليل أن يكون حيا مزهرا لساعات، لأيام، لأسابيع، لأشهر معدودات، لسنوات غير عجاف؟، كيف له أن يترك ألما في الذات حين إعلان الإنسحاب و الإبتعاد ؟ .
رحل تفكيره إلى متاهات التشبيه و المتوالدات التقابلية. لكن، كرها منه فكر في وضعية علاقة البحر والشط وتعانق المياه بمد القبل المدوية، و والجزر بالتراجع الطوعي . قرر الرحيل إلى المنفى الاختياري حين شد الخلاف و الاختلاف حول مآلات العلاقة، دشن شريط الابتعاد والعين دامعة من شدة الصدمة. تساءل باستفهام اللحظة هل أنا كان قدرها المرسل من السماء، وهل هي كانت قدره بمباركة السماء؟ تساءل عن ربيع الحب وهل يتبعه بالتلاصق الخريف الحافي ؟ تساءل عن مدى قيمة الحب القليل والقبول به ؟.
لحظة صمت سكنت القاعة، وموسيقى أغنية فيروز احتلت المسامع، وأضحت تدوي وتهز أركان الشعور الداخلي ” يا هموم الحبّ يا قُبَلُ، في بحار الشوق تغتسلُ. كلّما قلنا صفا زمنٌ، رَجِعَتْ كالريح تشتعلُ. أيدوم الحب؟ تسألني، حلوة جُنّت بها السبل. أيُّهذا القلب كيف لنا، هربٌ من خطْوِهِ الملل. هات لي عمري فأجعله، طائراً في الأرض ينتقل…” .
صحوة القاعة عادت وقد أشعلتها الأنوار الخضراء المتحركة بالتبادلية بين متابعة البطلة التي كان يكسوها التعب ودلالات عدم استقامة حلاوة الحياة، وفي حركاتها الخلفية كانت تعبر عن أنها ستنسحب الآن، الآن وليس غدا . فيما وضعية البطل فقد كانت عيناه تشد بالتمام على جسم العشيقة النحيفة، وكان لا يحرك رأسه، كانت ملامحه تحمل طهر سريرة الحب، ويلتحف به أمنا وأمانا من أي فراق نكسي. هو حد الختم عند مؤلف “الحب القليل…”.
لم تنته المسرحية لكن البطل عاد إلى قلب الخشبة، حينها اعترف أن مطر السماء لا يبلل بدون حنان دمعة الحبيبة. دمعة حبيبة بالجمع مرات عديدة تكثف سماء العشق تلبدا، وتمطر فجأة بالثورة المفزعة والسالبة. أعلن للحبيبة اليائسة جهارا و إسرارا أن الحب القليل نورس حلق في سماء الطيور المهاجرة. تبسم في وجه الحضور وأسر قولا أن القدر يحاكمنا بالغضب حينما تبرد لزوما مشاعر المكان والذات.
بين إحساس الكآبة من كل حب قليل، دوت صرخة الخشبة و أعلنت الثورة عن كل الفتاوي الضيقة ، بقول جمعي لا حياة بدون حب ولو قل … تحمس كل من بالقاعة للمشهد بالاعتدال إلا هو، فقد حافظ على جلسته، لكنه ترك تفكيره حيثما شاء أن يكون و دخل الخشبة متتبعا بالبحث عن الحبيبة. وقال في صدمة الحب القليل والفراق، ملعون من يقول أنك ستسبح في النهر مرتين، ملعون من يتذوق الشفاه الحمر خلسة، ميت من يقبل ببعض هبة الحب. هي ذي خاتمة مسرحية اليوم في فصول “الحب القليل…”.
تصفيقات الحضور صنعت حدث نهاية المسرحية. ووقوفهم لم يحرك به ساكنا، بل بقي قاعد الذات في التفكير بحبه القليل المتسرب بين أصابعه، فهل هي نهاية فصل الأزمنة بين المتخيل والواقع؟، إنه نفس المكان الذي حمل قصة حب حقيقية، إنها نفس الخشبة والمكان اللذين لم يلملما شوقه المتراكم بالتزاحم للحبيبة. بين ترجله خروجا سقطت عيناه على قبلات ساخنة على مرمى مرأى فاضح بين حبيبين، كل العيون تسترق النظر وسمع التغزل الحديث. وفي غفلة لا إرادية رفع رأسه إلى السماء فإذا هي تمطر خريفا، وكل من ترجل خروجا من عتبة القاعة يسرع الخطى بالجري القليل. إنها روعة الإحساس بدمع السماء في ورطة بداية ونهاية الحب القليل، إنها اعترافات السماء بظلم الحياة، إنها نتف نقط ماء خريف لعل الحب القليل يساعد في نمو نوارة في الربيع الآتي.
Mohsine el akramine