هل حقا تعيش المدرسة العمومية المغربية زمن الإصلاح؟، وعن أي إصلاح نتحدث، الشكلي منه أم التربوي ؟. فمنذ أن تم الوعي و الإيمان بضرورة نهج سياسة التحديث وخلق مدرسة عمومية منذ بدء تاريخ الاستقلال ونحن نتحدث عن توأمها الشبيه والمتمثل في عنصر الإصلاح (المدرسة = الإصلاح). هذه هي إشارة الصعقة الأولى والتي كانت دلالتها أكثر وقعا حين تم التنبيه إلى لامتناهية ” إصلاح الإصلاح إلى ما لا نهاية له”. لنعمل على استباق نتائج الملاحظة بالوصف ونقول، بأن هدر زمن الرؤية الإستراتيجية للإصلاح وارد وبقوة، وأن أية ثورة مدوية ضد الرتابة المملة لمجموع عمليات الإرساء والتعميم لمشاريع الإصلاح المندمج في الوسط المدرسي العمومي لن تصنع الحدث القريب. لنقل أن هناك موت سريري لا زالت تعاني منه المدرسة العمومية منذ الزمن الأبعد، و أصبح لا ينفع معه إنعاش الصدمة الشكلية والبهرجة التسويقية. لنستخلص قاعدة باليقين أن المدرسة العمومية تتلحف بكل أزمات الدولة القطاعية، ومن هذا الأساس ينبغي بدء الإصلاح ولا يمكن عزل مشاكل المدرسة عن واقعها الطبيعي.
حين نسلط ضوء التفكير عن نتائج وعوائد كل الإصلاحات التربوية غير المطيرة بالإرساء ولا بالتعميم، حين تنتكس رؤية الإصلاح ولا تستوي ولادته السوية. حينها يتضح أننا نمارس حدة الخلافات السياسية العقيمة تجاه وجهة الإصلاح (مسح قرارات الإصلاح من وزير إلى وزير آخر) ، عندما يتبين كذلك أن الخلاف المذهبي يلقي بظلاله الوفيرة على نوعية ابتكارية منظومة القيم بالتجديد، و تحصين الثوابت الوطنية والثقافية والاجتماعية وفق التحولات الكونية المتسارعة. نكشف أننا نمارس لسان سفسطة عقيمة في تدبير حلول تصويبة لأزمة المدرسة العمومية المزمنة، ونكرس أفعال تأجيل الإصلاح إلى وقت لاحق ومجهول الأثر.
هدر زمن الإصلاح التربوي يلف وزارة الدولة الوصية اختناقا من العنق، وهو من أشًر بالسلبية على سلم النمو الوطني، وتم تضييع أفق التنمية المندمجة الرحبة التي تحف الوطن والمواطنين. وهذا ما أجل على المغاربة المسك الطيع لفصول الجودة.
لن نركب بأحادية الرأي ونعلن بأننا نمتلك حلول عصا النبي في إخراج تلاميذ المدرسة العمومية من صفة “كوباي” تجارب الإصلاحات المتتالية، لن نركب على أية معادلة يتيمة تلقي بالإصلاح على بوابات المؤسسات المدرسية العمومية بالتشتت والفواصل المتباعدة. لكننا لا بد أن نكون أكثر صدقا مع الذات والوطن، ونعلن جهارا بأننا نعيش مرحلة ” آخر إصلاح”. فيما مكروه الفشل (إن قدر) فإنه سيفكك لا محالة بنية المدرسة العمومية ويلقي بكفلاء الدولة نحو الشارع.
الإشكال الذي لا يوازيه منفذ حلول سوي المعالم و المخارج، حين نكيل سهام النقد واللوم نحو المدرسة العمومية بالمفرد، ونتهمها بشتى التسميات والنعوت. في تخريج أفواج من العاطلين المعطلين، في صب بنزين التسرب المدرسي على نار الشارع المشتعلة، في انحصار الاندماج في سوق الشغل والعمل، في صناعة جيل يجيد الاعتصام أمام بوابة البرلمان. بهذا التفكير السطحي وغيره، فإننا نخرجها بالإفراد من إستراتيجية الإصلاح الهيكلي الشمولي لكل متنوعات الأزمات التي تنهك حيوية القطاعات المجالية، فإننا نكشف عن مدى ضمور الفكر السياسي المغربي في إنتاج الحلول الموضعية لمشاكل التعليم العويصة وغيره، فإننا نقر يقينا بأن حجم الفساد في جل القطاعات زاد وألزمنا معاودة التفكير في بناء معالجة ضبطية، وبمقاربة كلية تحقق كسب رهان المطالب الشعبية المتمثلة في العدالة الاجتماعية.
لنعد إلى سؤال منطلقنا الأولي، هل حقا تعيش مدارسنا المغربية زمن الإصلاح؟. هنا نكشف بالمرة أن هناك هدرا ملازما لكل أزمات القطاعات الحيوية، وبالتخصيص منها الاجتماعية. فمن هدر الزمن السياسي (البوليميك البراغماتي المهرول نحو مناصب المسؤولية). إلى هدر في الزمن الاقتصادي وضياع البحث عن مآلات الثروة الوطنية (المادية واللامادية) . إلى هدر في الزمن الإجتماعي / الحقوقي، والإخفاق في امتلاك وجه الكرامة، وفشل ذريع في بناء أخلاق العناية و التضامن الخيًر. هي ذي الحقيقة التي سدت منافذ الإصلاح نحو بوابات المدرسة العمومية المغربية، هي ذي الرؤية التبسيطية التي تختزل عزل المدرسة عن وسطها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
كيف نمكن المغاربة من القبض على مقبض الإصلاح التربوي السليم؟. سؤال لن تنفع معه إجابة يتيمة، بل يستوجب نوعا من التحدي بالتعري والمكاشفة على المستوى العمودي والأفقي لمدبري الشأن التعليمي، وخلق ثورة تزلزل أركان بناء كل المؤسسات العمومية ذات الارتباط بالمنظومة التعليمية، زلزلة لا تدر إلا ما صلح بالمنظومة حتى ولو قل عدده.
بين الحركة الشكلية التي تصيب إصلاح المدرسة العمومية بالتلوين الزائل والبهرجة الإعلامية، وبين ضبابية زمن تعميم المشاريع التربوية المندمجة، يبقى موعد ومكان انتظار الحصيلة غير محدد وتمديده قد يطول. يبقى كل من يشتغل في القطاع المدرسي يتوجه نحو المغادرة و التقاعد النسبي أو البقاء كفيف الأنفاس( الفرار أم الردى، فلنقل أن خيرهما مر). يبقى السعي إلى كسب صك مناعة البراءة والغفران للذات من رزمة تعثرات المدرسة العمومية غير ذي جدوى أمام تراتبية أجيال الإخفاق. هي ذي الحقيقة التي يجب أن لا نقفز عنها والإعلان ولو بالصوت الخافت أن الجميع شريك بالاتساع وفي العمق تجاه أجيال معانات هدر زمن الإصلاح التربوي، وذلك في ظل غياب الحكامة وإدارة التغيير الجيد.
ليس الحديث يلتمس تحريك الوازع الأخلاقي نحو المدرسة العمومية فقط، بل نروم من خلاله إلى تصويب رؤيتنا تجاه أفواج أجيال ضياع التسرب من المدرسة المغربية، إلى تعديل قاعدة ” سلك وعدي، واقضي بلي كاين”، بالتخلي عنها كليا. إلى رسم ملامح مدرسة عمومية مغربية تتكافأ فيها الفرص بالتساوي بين كل المغاربة حتى في أبعد عمق جغرافي هامشي أو جانبي. مدرسة تعترف بالمعرفة الكونية، مدرسة تبتغي الجودة وتقر بأنها ليست هبة (منحة) دولة بل هي حق من حقوق المواطنة. مدرسة تربي في المتعلم(ة) بنية التفكير النقدي، ورأي الحق ومضامين الحرية المتسعة للجميع. مدرسة التنافسية والطموح بدل مدرسة تنتج سلوكات الخنوع والانبطاح والهرولة نحو ملاحقة عناوين الفساد والدق عليها بالولوج.
ذ محسن الأكرمين (مهتم بالشأن التربوي)
عن موقع : فاس نيوز ميديا