يشكل موضوع “الأمثال الشعبية المغربية”، مادة خصبة للدراسة والتحليل. ﺇذ بدأت تستقطب اهتمامات الباحثين والدارسين، ابتداء من المحاولات التجمِعية التصنيفية، وصولا ﺇلى البحث الدراسي التحليلي لبعض الظواهر، من خلال هذه المنظومة المعرفية، التي يحتويها في قالبه اللغوي المتداول به.
وسنحاول من خلال هذه ” الورقة “، أن نقوم بقراءة للمتن الذي توصلنا ﺇليه، من خلال قراءتنا لجملة من المصادر والمراجع. وقبل ذلك نود أن نلقي نظرة موجزة حول هذا النوع من الخطاب الشعبي، فما هو يا ترى المثل ؟ وماهي طبيعته، والخصوصيات التي تميزه عن باقي أشكال الثقافة الشعبية ؟
إذا عدنا إلى القواميس اللغوية، لنبحث عن مدلول هذه الكلمة ” مَثل ” فإننا نجد تعاريف عديدة، بتعدد السياقات التي يستعمل فيها. فمثُل الشيء، أي: قام وانتصب، وأصبح ظاهرا للعيان. والمثل العبرة، أي الشيء الذي يقوم وينتصب ليتعظ به الغير. والمثل الشيء، الذي يضرب لشيء ما فيجعله مثله، فهو ليشد أزره.
إذن، فالمثل ليس شيئا مجردا، بقدر ما هو ارتباط بشيء معين. قد يكون موقفا، أو حدثا أو تجربة؛ فهو يقوم ليعبر عنها ويحتويها، بما معناه أنه تعبير يحمل حمولات ومضامين معينة يستعملها الإنسان لتلبية رغباته النفسية والتعبيرية، التي لا تكون – بطبيعة الحال- حكر على فئة دون غيرها. فالمثل شكل مشترك بين العامة والخاصة كما يقول الفارابي.
ليتضح، بأن المثل يلخص تجربة فردية أو جماعية، في قالب لغوي تنتمي إلى الماضي. لكنه يتكرر في الحاضر، نتيجة وجود تجربة مشابهة لتلك التي أفرزته. وبحكم انتماء المثل إلى الماضي، فإنه يصبح مع الزمن بمثابة القول الفصل والحجة القائمة، التي تؤهله ليتسم بحقيقية مبنية على التجربة. فيستغل كشكل من أشكال المواجهة، يتسلح به الإنسان الشعبي، إما لتدعيم رأي أو دحضه، فينصهر بذلك في المنظومة الثقافية للمجتمع عبر الزمن. ولعل خير دليل على احتواء هذه الأمثال على تجربة انسانية متجددة، هو بقاء عدد كبير من هذه الأمثال إلى عصرنا الحالي.
وعليه سنحاول من خلال هذه الوراقات العلمية، أن نتطرق إلى مفهوم الرجل في المخيال الشعبي المغربي؛ من خلال المثل الشعبي، الذي يعتبر سندا مركزيا في الخطاب الشفهي، للانسان الشعبي المغربي.
I – المتن المعتمد :
1-1 : أمثال عن الرجل
1- الراجل بدراعو ماش بمتاعو.
2- الرجل بالهمة٬ أما اللحية راها عند العتروس.
3- الرجل من العود ولا القعود.
4- رجل من الفحم يجيب الخبز والحم.
5- كيغلبوه الرجال فالزنقة٬ كيرجع للحزينة في الدار
6- السبع مناين كيكبر٬ كيرجع قصارة للذياب
7- الجمل لايلعب مع الجديان
8- كيدفع شبابو غالي ٬ بحال خيزو في الليالي
9- عزري بودنو٬ رخيص بوزنو
10- عشاق ملال
11- ماخصك من ولد عفيفة غير الشريط والوظيفة
12- اللي مايقرا براتو ويغسل كساتوا ويذبح شاتو موتو حسن من حياته.
13- الرجل تيموت غير على بلادو وولادو.
14- الرجل حرمة ولو يكون عرمة.
15- لاخير في لسانو٬ لاخير في ركانو.
16- المطلق دوز على قبرو٬ ولادوز على دوارو.
من خلال هذه الأمثال التي قدمنا، سنحاول اﻹجابة من خلالها عن سؤال مفاده: كيف تحدد الأمثال الشعبية مفهوم الرجل ؟
ﺇن تحديد الشيء من قبيل اﻹعتراف باستقلاله عن الذات المحددة٬ وكون الشيء المحدد يبين عن نفسه، بشكل يقبل التجريب والملاحظة. وطرح سؤال التحديد يعني دائما وجود الشيء وجودا غير مقتنع به من قبل الجميع. ويعني أيضا : نوعا من الوعي الذي يبحث التدقيق. وطرحنا لهذه الأسئلة الآن ليس ﻹثبات وجود الشيء وجودا فعليا٬ ولكن لنصل ﺇلى التصور الذي يعطيه الفكر الشعبي لمفهوم الرجل من خلال الأمثال.
2-1 : الرجل كما تصوره الأمثال :
– مفهوم الرجل :
انطلاقا من هذا التصنيف المعتمد في هذا المتن المتعلق بالرجل، سنحاول استنتاج المفهوم المعطى للرجل في الفكر الشعبي في مختلف تجلياته. ابتداء من شخصية ( الضعف/ القوة)، وكيف بتم ﺇبراز هذه الشخصية أمام الآخرين. من قبيل ” الراجل بذراعو٬ ماشي بمتاعو”.
ولعل مايمكن استخلاصه وتحديده من مفهوم ( ذراعو)٬ هو مفهوم القوة٬ ومن ثمة يمكن للرجل أن بعمل من أجل أن يكسب قوت أسرته. فالمبدع الشعبي يرى بأن اﻹنسان لابصل مستوى الرجولة، ﺇلا عندما يصبح قويا. الشيء الذي يؤهله للعمل والكسب. فالرجل في هذا المثل هو ذلك اﻹنسان الذي يقدم أشياء تستحق الذكر والثناء ( الراجل بالهمة٬ أما اللحية عند العتروس).
وتجدر اﻹشارة٬ ﺇلى أن مفهوم الهمة في هذا المثل غير محددة٬ وبالتالي تبقى مسألة التأويلات والتكهنات مشروعة وواردة. فالرجولة٬ هي أن يقدم الرجل ما يؤهله ليكون كذلك ٬ أما مظهره فهو لايحدد رجولته بالمطلق٬ على اعتبار أن اللحية كصفة فيزيولوجية٬ ليست حكرا فقط على الرجال، بل حتى الحيوان ( العتروس ) أي العنز.
فانطلاقا مما تقدم، يمكن أن نلاحظ أن الرجل كمفهوم مطلق٬ لايُحدد بالمظهر؛ أي بالصفات الخلقية، ولا يحدد بما يمتلكه من مال وجاه؛ وﺇنما يحدد بقدرته على العمل واﻹنتاج. فصفة ” الهمة ” مرتبطة بالرجل ( ما في الرجال من همة٬ وما في الصمت من حكمة ). فكلمة حكمة غير محددة في المثل ٬ وبالرغم من ذلك فالصمت حكمة٬ كما يقول مثل آخر ( الصمت حكمة٬ أومنو تفرقو الحكايم ).
بمعنى آخر، أن ” الهمة ” مثل الصمت، الذي يعتبر حكمة. فهذا التصور المعطى للرجل تصور مطلق ( الصمت حكمة ). إضافة الى صفة خلقية ومادية تتمثل في الرجل ( بذراعو )، وصفة معنوية تتمثل في كونه ( همة ). فالمبدع الشعبي حاول جاهدا ها هنا، أن يحدد مفهوم الرجل بقوله : ( الرجل اللي ما يقرا براتو، ويغسل كساتو، موتو حسن من حياتو ). فمن خلال هذا المثل، يتبين أن الرجل في المخيال الشعبي٬ لا يصل ﺇلى مستوى الرجولة الفعلية٬ ﺇلا ﺇذا كان ذو مستوى علمي يؤهله لقراءة رسالته ( براتو ) والعلم بهذا المعنى يأتي نقيضا للجهل. لتأتي بعد ذلك، وظائف أخرى رصدها المثل في تسلسل منطقي دال. وتمثلت هذه الوظائف في العمل المنزلي: ( يغسل كساتو )، و( يذبح شاتو ). فالرجل الذي لا يقوم – بما سبق ذكره – من أعمال خير له وأفضل أن يموت، بدل أن يعيش حياة ذليلة .
وفضلا عن ذلك٬ فالمبدع الشعبي يضفي على الرجل صبغة الوقار واﻹحترام ( الراجل حرمة ولو يكن عرمة )، وهذا يناقض القول السابق ” الراجل بذراعو ماشي بمتاعو”. ليطرح السؤال، ترى كيف يمكن أن يكون الرجل ( بذراعو ) و( عرمة ) في نفس الوقت ؟
ﺇن ما يرغب فيه المجتمع، من خلال هذين المثلين، هو الرجل الفعال والفاعل في المجتمع٬ في حين أن الرجل ( العَرْمة )، يكون تقبله على مضض، نظرا لكونه غير مؤهلا للانتاج داخل هذا المجتمع؛ ﺇلا أن الغالب داخل المجتمع، أنه يحترم، وهذا راجع ﺇلى تأثر المخيال الشعبي المغربي بالدين والعقيدة الإسلامية.
فالمبدع الشعبي في هذين المثلين، يركز على القيمة اﻹنتاجية للرجل داخل مجتمعه؛ على اعتبار أن الضرورة تقتضي منه، أن يوفر ما يحتاجه من مستلزمات العيش الكريم. خصوصا إذا كان متزوجا وله أبناء. وفي هذا الباي يقول المثل: ( رَجلْ من الفحم يجِيب لخبز واللحم )؛ فالمفهوم المعطى للفحم هو الرجل الأسود. غير أن المبدع الشعبي في هذا السياق، لا يهمه الرجل سواء كان أبيضا أم أسودا، بقدر ما تهمه مردودية هذا الرجل؛ أي ما يوفره من خبز ولحم يسد به رمق جياعه في البيت.
ما يوضح، أن هذا المبدع الشعبي كان ذو نظرة حضارية تاقبة بعيدة كل البعد عن تلك الاختزالات الضيقة المتمثلة في الميز العنصري وما شابهه. وركز بشكل حصري، على انتاجية الرجل داخل مجتمعه، من خلال كسب حاجيات الحياة اليومية. الأمر الذي يقتضي حضور القوة ( ذراعو- من الذراع ) حتى يستطيع كسب قُوتَه، وقوت من يعول، ليظهر بشكل ضمني سلطته الأبوية. غير أن هذه السلطة، لا تعني أن يكون طاغية؛ من منطلق المثل القائل: ( العفا من الرجال )، فالعفة المقصودة هي تلك التي تجعل من الذكر رجلا متسامحا عفيفا، لا يفرض جبروته على زوجته أو أبناءه.
فالمثل الشعبي في هذا السياق، قد استشرف المستقبل -وفي نفس الوقت- أعطى الرجل المغربي عصا سحرية تمثلت في ” العفو عند المقدرة “، من منطلق أن السلطة المبنية على القوة والجبروت، سرعان ما تزول وتتلاشى؛ خاصة عندما يفقد الرجل قواه الجسمانية، ويصير كبيرا في السن؛ وهذا ما يؤكده المثل القائل: ( السبع مناين كيكبر٬ كيرجع قصارة للذياب )، فكلمة السبع لها دلالة القوة والشجاعة والعظمة، لكن مع ذلك فهذه الشجاعة تخونها القوة مع الكبر، الشيء الذي يؤدي بالسبع إلى الذل والهوان أمام الذئاب، الذين كانوا يموتون رعبا ورهبة وخوفا عندما يسمعون زئيره المجلجل في أرجاء الغابة. وهكذا ومثال الرجل عندما يفقد قواه الجسمانية، يصبح معرضا لعبث العابثين، ولعبة في يد الصبية الصغار ( الذياب – الذئاب) داخل البيت أو خارجه. وحتى يتجنب الرجل، مثل هكذا مواقف، عليه أن يكون حريصا في أيام شبابه/ قوته، أن يكون ورعا خلوقا في معاملته مع أفراد مجتمعه.
انطلاقا مما تقدم٬ يمكن أن نلاحظ أن هناك مجموعة من الصفات، التي تحدد مفهوم الرجولة في المجتمع المغربي؛ من خلال هذه الأمثال الشعبية: ( الهمة٬ القدرة على العمل والكسب٬ اﻹنتاج٬ العلم، العفة، القوة، الأخلاق …)، التي تعد بمثابة تشريعات تنظم وتهيكل دور الرجل داخل المجتمع.
وﺇجمالا، فلقد توصلنا أثناء تنقيبنا، عن مفهوم الرجل في الأمثال الشعبية المغربية؛ أن هذا المفهوم غير تابث٬ ولايخضع لمقاييس مطلقة ومحددة .
و في الختم، لاأزعم لنفسي أن هذه ” الورقات ” تستطيع استنفاذ كل مظاهر هذا المفهوم الإشكال٬ أو أن تجيب نهائيا عن تساؤلاتنا المعرفية٬ فالموضوع شاسع ورحب، ويحتاج ﺇلى وقت وجهد كبيرين حتى نستبين دلالات هذ المفهوم في ثقافتنا الشعبية المغربية.
عن موقع : فاس نيوز ميديا