ينقل الموروث الثقافي لنا مجموعة حمولات حكم وأمثال لا بد من إعادة النظر في توجيه دفتها بالتعديل والضبط، من قبيل “الصمت حكمة ” و ” الصمت أبلغ من الكلام “. هي القضية التي سأتناولها بالتحليل والرأي اليوم ” الصمت ” وسر الكلام المباح . لن أدخل في تعريفات الصمت و لا في دلالاته اللغوية ، ولكن أقول أن الصمت هو نقيض الكلام. هنا استوقفني ظلي الصامت، وتساءل عن فلسفة الصمت؟ . لكن حين كنت أود ركوب عنترية الكلام وبسط سيفه الفاصل، تيقنت من ملاحظة ظلي وانزويت برهة صامتا. هي ذي حكمة / فلسفة الصمت التي تربينا عليها جميعا بالإنبطاح، هو ذا البلوكاج الذي يصيبنا حين تجف الألسن عن الكلام المباح.
ممكن أن أثور على الموروث الثقافي الرخو الآتي من دهاليز ظلمة الصمت، وأنفض عباءة مقابض الصمت وأطوح بالكلام علوا مسموعا. اليوم لن يحاسبني إمام خطبة يوم الجمعة حتى وإن لغوت القول، اليوم ممكن أن يكون في كلامي تكسير لحواجز الصمت المستديم فينا جماعات وفرادى.
بين من يمجد قيمة الصمت وفضائل السكوت، ويجرهما إلى باحة تصفية النفس و تأهيل العقل لاستيعاب المعارف المجردة. وبين من يلح إلحاح المستميت ويقول ” تحدث لكي أراك”. لكني أعرف حد الصمت بأنه ما هو إلا انسحاب وانطواء محفوف بمخاطر الاغتراب واليأس، أوثق القول أن الصمت خلل نفسي يتلذذ بوجود مظلة الخنوع والخضوع فوق رؤوسنا.
الآن، بدأ ظلي ينكمش طوله ويكشف عن ملامح وجهه الأسود، بدأ يبدي ما خفي من أنيابه منذ سكتة لسان الصمت. الآن، ظلي أراد الكلام والبوح ، أراد ركوب الثرثرة المباحة رغم أنه يعرفني أني محب للاختصار، أراد ظلي أن يقنعني بالصمت والتستر بين أحضان “السكوت، حتى يدير الله خيرا” .
فرحت بتمام جدال ظلي حين صنع مساحة ولو ضيقة للتواصل، هو بدء للبوح والتأمل في حدود الصمت الفلسفية. تبسمت ورأسي أرضا حين ثار ظلي على حواجز الصمت وأعلى من سيولة نبرة صوته للكلام المباح. قال والعهدة على ظلي، حتى ألا تحملوني ما لا طاقة لي به. قال، أن جدلية العلاقة بين الصمت والكلام تأسست عند تدجين الإنسان و إخضاعه لمثال” شوف و اسكوت” . قال كذلك ، أن الصمت يمثل حديث “الأنا” مع الذات الداخلية، وأن الكلام ما هو إلا تعبير خطاب من “الأنا” نحو الآخر.
حين تأملت رؤية فلسفة ظلي اعتلاني مكر حكمته ، اعتلاني ركوبه على استحضار قاموس المصطلحات الكبيرة التي لا أفقه منها إلا الفتات القليل. لكني باركت حديث ظلي وسحبته نحو شمس الصبح الشرقية. سألته عن الكلام المولد للحرية النووية، سألته عن الصمت المنتج للتأمل والوعي، سألته البوح بدل ” الله يدير لينا الخير في الصمت ” . أسئلة الفزاعة الثورية جعلت من ظلي يغير مكان تشكله من الشرق إلى الغرب. هنا فهمت قصده بالدلالة و التأويل، هنا فهمت أنه أراد الإيقاع بي في ورطة الإختيار بين عمامة الحكمة الشرقية وجبة نقيضتها، الفلسفة الغربية.
لظلي شيطنة حياة متمردة، حتى ظلي أراد نقلي من النقل إلى العقل عبر الاستنجاد بآليات المفاهيم الكونية . قال ظلي خلاصة، أن الصمت ما هو إلا مقاومة مستميتة يرفعها الأنا بالوعي حين تسد أبواب التواصل بالآخر سواء كان ثابتا أو متحولا.
قررت اليوم مع ظلي أن تتفاوض جلوسا حول مائدة مستديرة بسؤال، متى ممكننا الصمت؟ ومتى نتحدث بالكلام المباح؟ لا أخفيكم سرا كان التفاوض للتعاقد متى ممكن الكلام؟ أصعب مما تصورت ليونة، حين لم أستطع مراوغته وتسجيل هدف سبق الفوز بالكلام والتأمل والنقد، لكن في الأخير توافقنا مستقبلا على ترك بيض صمت العدمية والسلبية في عش فزاعة الفوضى.
ابتسم ظلي طويلا وقال لن أخرس بعد اليوم عن الكلام المباح، هي بداية التفكير في وجودي ، هي بداية بناء هندسة سليمة للعقل والوعي الفردي و الجماعي، هي بداية نيل حقي من الديمقراطية و الحرية، هي بداية معالجة كل المشكلات القائمة… هي بداية إحياء قيمة السؤال والتحليل والتركيب والرأي والنقد…عجبت من صدق كلام ظلي حين تخلى عن مكره وشيطنته اليسارية، وتساءلت و “أنا”؟ أجابني لا تكن من المرجئة فالعالم كله يتحرك…