تسلم محمد عبد النباوي الوكيل العام للملك رئيس النيابة العامة، صباح اليوم السبت، بقصر المؤتمرات بفاس، وبمناسبة الندوة الدولية المنظمة من طرف الاتحاد الدولي للمحامين بتعاون مع هيئة المحامين بفاس حول موضوع “تطورات مهام المحامي”، (تسلم) درع الاتحاد الدولي للمحامين.
وفيما يلي كلمة رئيس النيابة العامة بمناسبة مشاركته في الندوة:
حضرات السيدات والسادة،
يأتي تنظيم هذه الندوة في ظرفية تعرف فيها بلادنا إصلاحات جوهرية وهيكلية في ميدان العدالة، تجلت معالمها الأساسية في تنصيب جلالة الملك للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، تم نقل سلطات وزير العدل إلى رئيس النيابة العامة، في تنزيل حقيقي لاستقلال القضاء الذي ارتقى به دستور 2011 إلى مصاف السلط الأساسية للدولة إلى جانب كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية.
هذا الاستقلال الذي كان مطلبا أساسيا لمختلف الفعاليات، والتي من بينها الهيئات المهنية للمحامين، التي كانت منذ عقود، وباستمرار في طليعة المطالبين باستقلال السلطة القضائية والداعين إلى بناء قضاء قادر على تكريس دوره في الحياة العامة كحام للحقوق والحريات، وملاذ للمظلومين، ومشجع للاستثمار، وضامن لسيادة القانون، يحقق المساواة للجميع أمامه في جميع الظروف والأحوال.
لقد حدد جلالة الملك المؤيد بنصر الله معنى استقلال القضاء بكونه “لم يشرع لفائدة القضاة، وإنما لصالح المتقاضين، وإنّه إذ يرتب حقا للمتقاضين، فكونه يلقي واجبا على عاتق القاضي.
فهو حق للمتقاضين في أن يحكم القاضي بكل استقلال وتجرد وحياد، وأن يجعل من القانون وحده مرجعاً لقراراته، ومما يمليه عليه ضميره سنداً لاقتناعاته.
وهو واجب على القاضي، الذي عليه أن يتقيد بالاستقلال والنزاهة، والبُعْدَ عن أي تأثر أو إغواء يعرِّضه للمساءلة التأديبية أو الجنائية”. (انتهى النطق الملكي الكريم).
حضرات السيدات والسادة،
لئن كان استقلال القضاء يعتبر ركيزة أساسية لإقامة دولة الحق والقانون القائمة على ربط حقوق الأطراف بالواجبات الدستورية والقانونية المقررة على عاتقهم، فإن قيام القضاء بدوره كاملاً في تحقيق العدالة والإنصاف لا يتم إلاَّ بوجود دفاع قوي في تنظيمه، حرٍّ في آرائه، منضبط للقانون ومتمسك بأخلاقيات المهنة الشريفة وبأعرافها النبيلة السامية.
إن المحاماة رسالة قبل أن تكون مهنة ..
رسالة في الأخلاق والقيم ..
رسالة في الدفاع عن المبادئ وكريم الشِّيَّم ..
ورسالة في نكران الذات .. والاستقامة والوفاء لأخلاقيات المهنة الراسخة في التاريخ بنبلها وما تمثله من شموخ وشرف للنساء والرجال المنتمين لها .. وما يُعبر عنه ارتداء البذلة من إيمان بالعدل واحترام للأحكام وقرارات القضاء، واستماتة في الدفاع عن القانون باتباع المساطر القانونية، والأساليب الشريفة المحترمة ..
حضرات السيدات والسادة؛
إذا كان الدور التقليدي للمحامي يقتصر على تمثيل الأطراف ومؤازرتهم والدفاع عنهم أمام المحاكم والمجالس التأديبية والترافع غيابة عنهم. وهو دور عظيم لما يحققه من حماية لحقوق الأطراف من جهة، وما يوفره من مساعدة للمؤسسات القضائية والتأديبية من إطار ملائم لمناقشة القضايا والتحقيق فيها واستصدار الأحكام والمقررات بشأنها، فإن التشريعات المقارنة – ومن بينها القانون المغربي – تتجه نحو إسناد أدوار جديدة للمحامي .. وهي أدوار لا تقل أهمية عن ذلك الدور التقليدي العظيم، الذي يظل في نظري أهم أدوار المحامي وأعلاها شرفاً. ومن هذه الأدوار مهام الاستشارة القانونية والأبحاث والدراسات وتقديم الفتاوى والإرشادات القانونية التي تجعل من المحامي، ليس فقط مجرد ممارس لإحدى مهن العدالة، وإنما كذلك عالِماً وفقيها يمتلك مفاتيح وأسرار النصوص، وممارساً مُلِمّاً بتطبيقاتها، يُعْطي النصيحة التي تؤدي بطالبها إلى التوفر على أوسع مجالات الأمن القضائي، الذي يجعل تصرفاته القانونية في مأمن من المفاجآت غير السارّة.
ومن بين هذه الأدوار كذلك تحرير العقود أو تمثيل الأطراف في إبرامها. وهو ما من شأنه جعل المتعاقد يستند في التزاماته التعاقدية إلى خبرة قانونية توفر له الوقاية الكافية من المنازعات .. وتشمله بالحماية القانونية اللازمة في حالة وجود خصُومات.
ومن جهة أخرى فإن التشريعات ماضية نحو تكليف المحامي بمهام التحكيم، بما توفره هذه الآلية المسطرية من وقت وجهد للأطراف، وما تمثله من حماية للاستثمار ولعقود الشغل وصفقات التجار. وهو ما ينعكس إيجابيا على الدورة الاقتصادية والمناخ الاجتماعي داخل المجتمع.
أيتها السيدات، أيها السادة المحترمين؛
لئن كان عالم اليوم بتحولاته المثيرة وتطوراته المدهشة، يستدعي بذلك كل الجهود لمواكبة المتغيرات من الأحداث والمستجد من السلوكات الاجتماعية والنصوص القانونية التي تُشَرَّع لمرافقتها، فإن هيئات المحامين مطالبة بالانخراط في هذا السياق العامة للحياة، وبتهيئ أعضائها لمواجهة المستجدات التشريعية ومسايرة التغييرات المتسارعة التي تفرضها العولمة الاقتصادية بتجلياتها المختلفة المتمثلة في المنافسة الشرسة، وفتح أبواب الأسواق الاقتصادية على مصراعيها للمنافسة الأجنبية. وهو ما يجعل تأهيل المحامين خياراً لا مناص عنه. وهو ما يقتضي وضع خطط واستراتيجيات للتكوين الأساسي والمستمر، وتشجيع التخصص.
فإذا كان التكوين الأساسي يوفر للمحامي الآليات التقنية الأساسية لممارسة المهنة، فإنَّ التكوين المستمر يجْعَله مواكباً للمستجدات القانونية، منفتحا على التجارب والخبرات المتطورة.
وفي نظرنا، فإن مواكبة المحامي للمستجدات القانونية والمسطرية عن طريق التكوين المستمر، رغْم نجاعته الكبيرة في تنمية قدراته الفكرية ومهاراته المهنية، فإنه لا يعطي للمحامي كل الفرص لإتقان المستجدات القانونية والإلمام الشامل بتطبيقاتها، بالنظر لحدود مقدرة العقل البشري من جهة، ولتوسع أنواع العلوم والاختصاصات القانونية من جهة أخرى. ولذلك فإن المحاماة مدعوة إلى تشجيع التخصص الدقيق، الذي يمكنه لوحده أن يساهم في خلق منتوج دفاعي عالي الجودة، يحصن حقوق الأطراف التي يمثلها أو يؤازرها المحامي. نقول هذا في الوقت الذي أصبح فيه المحامون في بعض الدول لا يكتفون بالتخصص في مادة قانونية واحدة مثل المادة التجارية، وإنما يتخصصون في جزئية معينة من تلك المادة، كالتخصص في صعوبة المقاولة أو في العلامة التجارية مثلاً، وهم يتحدون في شركات مهنية أو يتعاونون مع زملاءهم في اختصاصات أخرى يتطلبها تدخلهم. ونعتقد أن محاماة المستقبل في الأمد القريب يتوقف نجاحها على الانخراط من الآن في هذا الاتجاه، ونأمل أن يكون زملاؤنا أعضاء هيئات الدفاع في مصاف من يمتطي قاطرة المستقبل حتى يضمنون لأنفسهم الوسائل اللازمة للمنافسة المبنية على الجودة والاتقان ومواكبة المستجدات التي تفرضها العولمة.
حضرات الزميلات والزملاء أعضاء هيئة الدفاع المحترمين؛
إننا نعتقد أن نجاح المحامي في مهامه النبيلة في الأمد القريب، لا يتوفق على كثرة المهام التي يسندها القانون للمحاماة وتنوعها بين مهام الدفاع والاستشارة والتحكيم وتحرير العقود وغيرها من المهام التي تخولها لهم التشريعات، وإنما يتوقف على إجادتهم لنوع معين من بين هذه التخصصات وإتقانَهُم لجزئية خاصة من ذلك التخصص، مع توفره على امتداد مهني للاختصاصات الأخْرى بِواسطة زملاء آخرين له.
أيها الحضور الكريم؛
إن مجالات اشتغال المحامي الجديدة، والأدوار غير التقليدية التي أناطتها بها مجموعة من القوانين من قبيل التحكيم وتحرير العقود، بقدر ما تشكل ميدانا خصبا تنعكس عليه خبرة واجتهاد المحامي، بقدر ما تفرض الالتزام بالحرص والدقة والمسؤولية. وهي سمات ليست بعزيزة على زملائي أعضاء هيئات الدفاع.
ولا شك أن هذا الرهان يجعل المهنة مطالبة بتحديث أجهزتها وآليات عملها بعقلانية وتبصر وانفتاح على التجارب الأخرى للنهل منها، والاستفادة من تراكماتها، فالإصلاح مطلوب ومنشود. وطريقه الشاق لا بد وأن يبقى متواصلا بوتيرة سريعة، وغير متسرعة تغذية للإرادة الصادقة، كما أن الإيمان الراسخ بضرورة الاهتمام والارتقاء بمؤسسة الدفاع لتبقى على الدوام في الطليعة، وتساهم في صرح بناء العدالة الذي ما فتئ صاحب الجلالة نصره الله يركز عليه في العديد من خطاباته يجعله من أوكد ركائز تحقيق الإصلاح المنشود لنظام العدالة في بلدنا.
زميلاتي زملائي الأعزاء؛
إن انعقاد ندوتكم هذه هو تجديد للعهد، وحلقة أخرى يتواصل فيها المسير، وتوثق فيها الروابط، ويلحق الحاضر بالمستقبل في نطاق عمل دؤوب للسادة المحامين في لقاءات وندوات تميزت بعمق في التحليل، ووجاهة في التفكير، ورصانة في التقرير. ولا شك أن ما سيتمخض عن جمعكم هذا من توصيات وقرارات سيكون لها بالغ الأثر على تطوير المهنة، وجعلها في مستوى الرهانات والتطلعات.
أملي أن تكلل أشالكم بالتوفيق. وتحياتي الصادقة لضيوفكم الأجانب والمواطنين. وشكري الصادق للمنظمين. مع تحية خاصة للسيد نقيب ومكتب هيئة فاس، وللاتحاد الدولي للمحامين، وللأستاذ النقيب إدريس شاطر.
وأخيراً .. ومسك الحديث ختامه، أحر التهاني للنقيب عمر ودرا الذي انتخب رئيسا لجمعية هيئات المحامين بالمغرب، وللسادة النقباء والأساتذة أعضاء مكتب الجمعية الأفاضل، وخالص الشكر للأستاذ النقيب محمد أقديم الرئيس السابق للجمعية والسادة النقباء والأساتذة أعضاء مكتب الجمعية السابقين.
وأرجو الله أن يوفق هذا الجمع المبارك.