من نافلة القول، أن جمهورية ألمانيا الاتحادية تتوفر على واحد من أقوى وأكبر الأنظمة التعليمية إبداعا وابتكارا وفعالية، كما أنها تعتبر الوجهة الثالثة عالميا في استقطاب الطلاب عبر العالم،إذ تصل نسبته إلى 12%.ويحظى خريجوها بتقدير واحترام كبيرين من قبل رجال الأعمال والمؤسسات الاستثمارية على الصعيد الدولي.
وأمام هذه القوة والفعالية والجاذبية،ورصانة التكوين؛وإيمانا منها بضرورة فتح آفاق هذا النوع من التعليم المنتج أمام الطلبة المغاربة،عملت أطر علمية طموحة وكفأة بكلية العلوم، جامعة مولاي إسماعيل بالمملكة المغربية على وضع تصور إطار للعمل المشترك بين القطاعين التعليمين للبلدين (المملكة المغربية وجمهورية ألمانيا الاتحادية)،فاستقر رأي هذه النخبة العلمية المغربية على الإنفتاح على جامعة “آخن” بألمانيا، هدفه ملاءمة التكوين، وخلق قناة للتواصل بين البلدين ذات صبغة علمية بحثية؛ مما سيجعل من هذه المبادرة فرصة للطلبة المغاربة للخضوع لتكوين ألماني ببلد المنشأ.
وبحلول سنة 2003 ، انطلقت فكرة الإنخراط في هذا المشروع، وذلك بعقد عدة لقاءات لتعميق النقاش ووضع الإرهاصات الأولى له، وربط الإتصالات مع الأطراف المعنية. وبالجملة تم وضع خارطة طريق لهذا المولود الجديد؛ وارتفعت وتيرة إخراج هذا العمل ببدء مفاوضات بين الطرفين المغربي والألماني، والتي دامت عدة سنوات، وبالضبط إلى حدود 2011، السنة التي توجت بكونها سنة إنطلاق أول فوج في هذا البرنامج التكويني، فكانت البداية بتكوين فوج يضم 19 طالبا في تخصص” باشلر الكيمياء التطبيقية”. وبذلك استطاعت جامعة المولى إسماعيل بمكناس (المغرب)،وجامعة “آخن” بجمهورية ألمانيا الإتحادية أن يعقدا اتفاقية لإخراج مشروع تكويني، مغربي – ألماني، هو الأول والفريد من نوعه – إلى حدود اليوم- على مستوى القارة الإفريقية. وبمرور السنوات،وأمام الإقبال الكبير الذي لقيه هذا التكوين،وكذا المصداقية التي يكتنفها، وأمام كذلك محدودية الطاقة الإستيعابية لهذا المشروع، تم اعتماد شروط خاصة بولوجه،من قبيل: المعدل المحصل عليه في شهادة الباكلوريا، متبوعا بمقابلة شفهية يتوخى من خلالها الطاقم المشرف على التكوين اختبار كفايات الطلبة الراغبين في ولوجه، سواء منها المعرفية والمهاراتية والوجدانية والتواصلية والمنهجية،وغيرها.
وبحلول سنة 2014،أضيف تخصص آخر، وهو الموسوم ب”باشلر الطاقة المتجددة”، لينضاف بذلك إلى التخصص السالف الذكر، مما يمكن اعتباره فرصة جديدة وهامة للطالب المغربي لمسايرة ومواكبة التكوينات ذات الأولوية على المستوى الدولي،ويمثل فرصا حقيقية له للإندماج في سوق الشغل،خصوصا وأن المغرب يعتبر من الدول الرائدة في انتاج الطاقة النظيفة (نور1،ونور2،وغيرهما). ورغبة منهم في إغناء هذا المشروع التعليمي،وأمام الحاجة الملحة لتكوينات أخرى، واستجابة منهم لتوصيات اللقاءات والندوات والمؤتمرات العلمية التي تم عقدها مع شركائهم الألمان،عمل المشرفون المغاربة على هذا البرنامج على إطلاق تكوينين/تخصصين آخرين: الأول، يسمى “باشلر الهندسة الطبية” ؛والثاني، “باشلر الهندسة المعلوماتية”.
ومن مميزات هذه التكوينات أنها توفر للطالب المغربي فرصة التكوين ببلده إسوة بالطلبة الألمان، مما يوفر له الكثير من المتطلبات،لعل أولها تواجده ببلده، وإلى جانب عائلته في السنتين الأولتين، تليهما سنة ثالثة بجامعة “آخن للعلوم التطبيقية” بألمانيا، وتتنوع مواد التكوين بين تعلم اللغة الألمانية ومواد التخصص. وفي الأخير، يتوج الطالب المغربي مساره التعليمي التكويني بالحصول على دبلوم دولي معترف به عالميا (“الباشلر” في مرحلة أولى)، يمكنه من ولوج سوق الشغل بالديار الألمانية أو بدول متقدمة أخرى، وكذا بدولة المنشأ(المملكة المغربية)؛كما أنه يخول لحامله متابعة دراساته العليا بجامعات جمهورية ألمانيا الاتحادية على مستوى شهادتي: الماستر والدكتوراه.
والجدير بالذكر، أن طموح المشرفين على المشروع (مغاربة وألمان) لم يتوقف عند ماتم تحقيقه، بل يسعون جادين إلى إدراج تخصصات في المستقبل القريب، وهي: “باشلر هندسة الطائرات”، و”باشلر هندسة السيارات”، و”باشلر الاقتصاد”.
ومن مزايا هذا المشروع التكويني، أنه مهد الطريق لتكثيف الشراكات العلمية التكوينية البحثية بين البلدين (المملكة المغربية وجمهورية ألمانيا الإتحادية)؛ ويأتي في طليعتها، الإعداد لإنشاء معهد مغربي ألماني في العلوم التطبيقية بمدينة مكناس، هو الثاني من نوعه بالقارة الإفريقية بعد الجامعة الألمانية بجمهورية مصر العربية. وفي هذا السياق، رصدت وزراة التعليم العالي المغربية غلافا ماليا كمساهمة منها، على أن تتكلف الحكومة الألمانية بالتجهيز والمساهمة بالتزود بالموارد البشرية (أطر علمية كفأة)،وذلك تنفيذا للإتفاقية التي تم إبرامها خلال شهر أبريل من سنة 2015 بمدينة “دوسلدورف” الألمانية بين جامعة المولى إسماعيل المغربية، وجامعة “آخن” الألمانية، بحضور مسؤولين ألمان وكذا بعض الوزراء المغاربة والمسؤولين (مدير مركز البحث العلمي و الكاتب العام لوزارة التعليم العالي).
فلاغرو أن مثل هذه المبادرات العلمية البحثية والتكوينية ستمهد الطريق للمستثمرين الألمان لإستهداف المدينة المحتضنة (مكناس) للمشروعين خاصة،وباقي المدن المغربية على وجه العموم.
خلاصة القول، أن الباحثين المغاربة مدعوون في الوقت الحالي إلى تحصين مثل هذه المبادرات وتعزيزها، لما لها من مميزات وتأثير على مستقبل المنظومة التعليمية الوطنية،إذ تكسبها مساحات واسعة للتلاقح العلمي الأكاديمي على المستوى الدولي.
أستاذ التعليم العالي وعضو مركز رقي للأبحاث والدراسات.
الحاج ساسيوي