أجمع المشاركون في ندوة “ثم ما بعد العولمة؟”، اليوم الأحد بأصيلة، أن عالم ما بعد تآكل فكرة العولمة وبدء تفتتها يتعين أن يقوم على فكرة العدالة الاجتماعية، والشراكة العالمية في بناء عالم متعدد الأطراف.
ودعا المتدخلون في هذه الندوة، المنظمة في إطار جامعة المعتمد بن عباد في نسخته الثالثة والثلاثين، إلى ضرورة أن يستند عالم ما بعد العولمة أيضا إلى تكثيف الجهود لنشر المنظومة الإنسانية التي تؤكد على المحبة واللاعنف والقيم المشتركة للعقل الإنساني.
وفي هذا الصدد، قال رفاييل روا، عضو مجلس إدارة بنك الاحتياط المركزي البيروفي، إن للعولمة منافع في العديد من المجالات إلا أنها لا تستطيع أن تحل كل مشاكل العالم، بل إن بعض هذه المشاكل ازدادت حدتها بسبب العولمة، من قبيل الفوارق المفاهيمية والفجوات بين الأغنياء والفقراء. وأضاف أن العولمة لم تمت بل إنها ستستمر؛ معربا عن الأمل في أن تعود بالفائدة على الأغلبية وأن تسهم في حل مشاكل العالم وتكون موجهة لتحقيق الرفاه الاجتماعي والسلام عن طريق تعميم التعليم والتربية بالخصوص. وأكد روا أن مستوى الفقر تقلص وإن كانت الثروة ما زالت متركزة في أيدي أقلية فيما تفتقر الأغلبية إلى الخدمات الأساسية، معتبرا أن هذا تحدي يتعين مجابهته قد يكون مصدره الأخلاقيات التي عرفها بكونها “مجموعة قواعد تحكم تصرفات الإنسان أمام الخير والشر”.
وأعرب الوزير البيروفي السابق عن اعتقاده بأن هذه الأخلاقيات والخضوع للتعاليم السماوية لاتتناقض مع فكرة الحرية، مشددا على دور التربية والتعليم ونقل القيم والخصال الإنسانية في نشر العدالة والمساواة والتقليص من الفوارق الطبقية، بإشراك كل الشرائح التي لم تستفد من العولمة. وأشار إلى أن الإعلام دافع للأمام ومحرك للعولمة، وأن على شبكات التواصل الاحتماعي أن تتحمل المسؤوليات الملقاة على عاتقها؛ مضيفا أن الحق في الإعلام حق من حقوق الإنسان ولكنه حق ذو بعدين هما الحق في نشر المعلومة، وحق المواطنين في الحصول على المعلومات المناسبة. ودعا إلى تحري الموضوعية في الإخبار وعدم الخلط بين الإخبار والرأي.
ومن جانبه، رأى خالد شوكت، رئيس المعهد العربي للديموقراطية بتونس، أن للعولمة، كما للعدالة، وجوه كثيرة، إذ أنها ليست فقط حروب واضطرابات ومجال للإرهاب المدمر، بل إن لها أيضا وجوه إرهابية كثيرة من بينها التغييرات الإيجابية التي عرفتها بعض البلدان.
ونقل خالد شوكت عن المفكر ياسين السيد اعتباره العولمة ثورة كونية في البعد السياسي، والبعد القيمي، والبعد الرقمي والتكنولوجي والمعرفي؛ مشيرا إلى أنه تم تحقيق نجاحات في بعض مسارات عصر العولمة والفشل في بعضها الآخر.
وقال علي باحيجوب، مدير المركز الأورو متوسطي والدراسات الأفريقية، إنه آن الأوان لاعتماد نظام عالمي جديد ذي وجه إنساني يعود بالفائدة على الجميع ويحقق الرفاه إد أنه من غير المقبول أن يركز النظام الاقتصادي العالمي الجديد، الذي أرسته بلدان الغرب وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي بالخصوص، الثروات في جانب دون آخر، ويقتصر التبادل الاقتصادي بين البلدان الأفريقية مثلا على 15 في المائة فقط .
وأضاف باحيجوب، رئيس تحرير “مجلة الشمال والجنوب” بلندن، أن هذه الفجوات، التي تشكل خطرا عالميا تتفاقم يوما عن يوم، إذ يسيطر واحد في المائة من الأغنياء على ثروات العالم، في حين يصارع 90 في المائة من الساكنة للحصول على الخدمات الأساسية من صحة وتعليم وبنى تحتية وغيرها، مستشهدا بتقرير لمنظمة “أوكسفام” الخيرية البريطانية.
أما الصحافي والناشر الهندي رودرونيل غوش فقد أبرز تحسن النمو الاقتصادي والتربية والتعليم في عدد من بلدان الشرق مقارنة عما كان عليه الأمر قبل ثلاثين سنة، وقدم نماذج الهند وماليزيا وتركيا، والصين التي تمكنت لوحدها في العقود الأخيرة من إخراج أزيد من 300 مليون نسمة من الفقر. وفي مقابل هذه التطورات الداعية للتفاؤل في بلدان أسيوية وأفريقية (رواندا مثلا)، لم يكن الغرب في مستوى التعامل مع تداعيات العولمة وكانت له رؤية غير واقعية معتقدا أنه سيظل متحكما في الاقتصاد العالمي لوحده ولن يمكن استنساخ تجاربه الاقتصادية الناجحة علاوىة على أزماته المتلاحقة، حسب غوش. وأضاف غوش، من جريدة “تايمز” الهندية الناطقة بالإنجليزية، أن دخول الصين المنظمة العالمية للتجارة سنة 2001 كان هو الحدث الأبرز الذي سيسهم في تغيير وجه العالم وليس أحداث 11 شتنبر من السنة ذاتها، وقد أخطأ الغرب في اعتقاده أن الديموقراطية الغربية ستتعمق في الصين ، وهو ما لم يحدث.
وخلص الإعلامي الهندي إلى أن النظام الاقتصادي العالمي انقلب، وسيشهد العالم مستقبلا تعددية قطبية، ومنابع ثروة جيدة في الصين وماليزيا وتركيا سنة 2050 ، وسيكون المستقبل في أفريقيا أيضا . واستعرض المختار بنعبدلاي ، الأستاذ الباحث بجامعة الحسن الثاني الدار البيضاء، تطور فكرة الحداثة واللائكية والعولمة في أفكار كوبرنيك وسبينوزا المتأثر بالروافد الأندلسية لابن رشد وكانت وغيرهم، التي قلصت الفوارق الثقافية بين الشعوب وأكدت على القواسم المشتركة، والعقل.
وأضاف بنعبدلاوي أن نمذجة المفاهيم والأسواق وتنميطها أديا إلى توحيد قواعد العمل وأوقاته وإلى تكافؤ الفرص؛ مشيرا إلى دخول مرحلة انتقادية بعد قرنين من ظهور الحداثة وتفكيك مفاهيمها، خاصة مع المفكرين ميشيل فوكو وجاك دريدا؛ مضيفا أن الحداثة فقدت بعدها الروحاني، وانهارت اسسها وبرز الطرح المحافظ خاصة في الغرب.
وأوضح أن المتضررين كانوا من الطبقات الوسطى وما دونها، ولدى الشباب ما دون الخامسة والأربعين، وظهر تطرف ديني وعشائري، وتفتت مجتمعي، وطفت على السطح أحزاب شعبوية استفادت من هذه الأوضاع، وهكذا فقد العالم المعاصر روحه، خابت آمال مجتمعات برمتها .
وبخصوص مآل العولمة، تحدث الباحث المغربي عن بروز أقطاب جديدة، وتطور الإمكانيات والموارد؛ داعيا إلى وجه إنساني أو وجوه متعددة للعولمة.