تميز اليوم الثاني من الندوة الدولية حول موضوع “التطور الدستوري بالمغرب: الجذور التاريخية والتجليات الظاهرة والمستقبلية”، المنظمة بالرباط يومي 10 و11 يوليوز، بمدارسة عدة قضايا تتمحور بالأساس حول تطور القضاء والبرلمان وقضايا حقوق الإنسان والحريات والجهوية المتقدمة.
وفي مداخلة حول “تطور القضاء من مهمة إلى سلطة في الدساتير المغربية”، تحدث الوكيل العام للملك، رئيس النيابة العامة السيد محمد عبد النبوي، عن المراحل التي مر منها القضاء في الدساتير المغربية، وانتقاله من كونه مهمة ووظيفة إلى سلطة في دستور 2011، وعن مقتضيات هذا الانتقال ودواعيه، متوقفا عند الفرق بين استقلال القضاء والفصل بين السلط الذي كان سائدا من قبل.
وأوضح السيد عبد النبوي، في المداخلة التي ألقاها نيابة عنه الكاتب العام برئاسة النيابة العامة، السيد هشام البلاوي، بأن الدساتير المغربية المتعاقبة السابقة، حافظت على الوضع الدستوري للقضاء كوظيفة، إذ لم يكن يشكل كيانا دستوريا في مستوى سلطة من سلطات الدولة، ولم تكن بالتالي لدى القضاة أيه أجهزة قيادية خاصة تسيرهم أو تمثلهم رغم تنصيص الدستور على استقلال القضاء.
وأكد أن استقلال القضاء يحتاج إلى استقلال مؤسساتي يوفر للقضاة حماية من كل تدخل خارج عن السلطة القضائية، ويمنع التدخل في شؤونها القضائية والتأثير في قراراتها، وهو ما يتطلب وضع إطار مؤسساتي يحصن السلطة القضائية، ويحول دون تدخل باقي السلط في تسييرها أو مراقبتها، مضيفا أن القاضي يحتاج إلى الاستقلال داخل مؤسسة القضاء نفسها، حتى لا يخضع لتأثير رؤسائه من القضاة أنفسهم في أحكامه، “وهذا ما يصطلح عليه بالاستقلال الذاتي الذي يتطلب وضع نظام حمائي يحصن القضاة من تأثير نفوذ رؤسائهم داخل السلطة القضائية”.
وأشار إلى أن هناك أنظمة ذهبت في اتجاه استقلال القضاء إلى أبعد مدى، وجعلته سلطة قائمة الذات، مستقلا استقلالا تاما عن باقي السلط، بحيث أسندت تدبير شؤون القضاة والقضاء للسلطة القضائية نفسها، مبرزا أن “دستور 2011 اتجه بقدر معين نحو هذا الاتجاه، وقطع في ذلك أشواطا طويلة منذ دستور 1962 قبل أن يعلن سنة 2011 عن ميلاد سلطة قضائية مستقلة”.
وذكر بأن الممارسة الدستورية لما قبل دستور 2011 كانت تعتبر أن التدبير القضائي يتم عن طريق الحكومة في شخص وزير العدل وتحت مراقبة البرلمان، “لكن دستور 2011 جاء ليكرس التوجهات الملكية السامية بالتنصيص في الفصل 107 من الدستور على أن السلطة القضائية مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وأن الملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية”.
وتحت عنوان “القضاء وحماية الحقوق والحريات” ألقى السيد مصطفى فارس، رئيس محكمة النقض، الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، الضوء على المكانة الهامة والمحورية التي أفردها تاريخ المغرب العريق للسلطة القضائية في ترسيخ وحدة البلاد، والحفاظ على مقوماتها وتكريس قيمها المتجسدة في الحرية والمواطنة والمساواة والمسؤولية، مشيرا إلى أن المغرب اليوم أمام مشروع مجتمعي يقوده صاحب الجلالة الملك محمد السادس، مرتكز في العديد من خياراته على وجود سلطة قضائية مستقلة بكل دلالتها الرمزية والواقعية وأبعادها الدستورية والتنظيمية والإدارية والمالية، الرامية إلى تحقيق التطبيق العادل للقانون وحماية الحقوق والحريات وضمان الأمن القضائي.
من جانبه، تناول السيد ادريس اليزمي رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان، في مداخلة له حول موضوع “تطور حضور قضايا الحقوق والحريات في الدساتير المغربية”، تطور اهتمام المشرع الدستوري المغربي بقضايا الحقوق والحريات، من خلال استقراء المتن الدستوري منذ 1962 إلى غاية 2011، واستحضار السياقات السياسية والظرفية والوطنية والدولية التي استدعت دسترة بعض الحقوق الأساسية، سواء في إطار التجاوب مع مطالب وحركية القوى الفاعلة بالمجتمع، أو التفاعل مع التحولات الدولية، وتطور المنظومة الدولية لحقوق الإنسان والممارسة الاتفاقية للمملكة.
ووقف السيد اليزمي عند التحول الأساسي الذي شهده المغرب مع اعتماد دستور 2011 باعتباره “دستور حقوق الإنسان بامتياز”، سواء من حيث “العدد الوافي للمقتضيات ذات الصلة بحقوق الإنسان” (ما يفوق 60 مقتضى)، أو من حيث الفلسفة العامة التي تحكمت في صياغته، وكذا المسار التشاوري الواسع الذي سبق عملية التصويت، فضلا عن الورش التشريعي المفتوح والمكمل للدستور الذي يكرس بشكل أقوى حقوق الإنسان في المنظومة التشريعية الوطنية سواء بالنسبة للحقوق المدنية والسياسية، أو الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أو الحقوق الفئوية وإقرار المساواة التامة بين الجنسين وعدم التمييز وغيرها.
من جانبه، قال السيد رشيد المدور أستاذ القانون الدستوري بجامعة الحسن الثاني بالمحمدية- الدار البيضاء، في مداخلة له تحت عنوان “مظاهر التطور البرلماني بالمغرب في ضوء مستجدات الدستور”، إن الدستور الذي وافق عليه المغاربة باستفتاء شعبي عام، في فاتح يوليوز 2011، يعتبر هو الدستور المؤسس للملكية المغربية الثانية، بالنظر لكونه أول مراجعة دستورية شاملة أدخلت تعديلات جوهرية على طبيعة نظام الحكم في المغرب، واختصاصات السلطات العامة في الدولة، والعلاقات بين السلطات وحدود كل سلطة.
وأكد بأن نصيب مؤسسة البرلمان من تلك التعديلات الدستورية الجوهرية “كان نصيبا وافرا، مما كان له الأثر البين والواضح على تطور وسائل وأدوات العمل البرلماني المتاحة أمام البرلمانيين”، مشيرا إلى أن هذا الأمر ي عد بآفاق واعدة ستسهم في مزيد من تطور العمل البرلماني وازدهاره، وسيؤدي – برأيه – “إن حس ن التنزيل، إلى إقرار ممارسة برلمانية جيدة بالمقارنة مع تجاربها السابقة في ظل الدساتير الخمسة الأولى”.
وأضاف أنه بعد دراسة معمقة لمجمل التعديلات الدستورية المتعلقة بالبرلمان، تبين أنه يمكن تصنيف مظاهر تطور التجربة البرلمانية المغربية من خلال ثلاثة محاور أساسية تتمثل في التعديلات الدستورية، الرامية في مجملها إلى تقوية مكانة البرلمان في النظام السياسي، والتعديلات التي تسير في اتجاه التخفيف من القيود الموضوعة على العمل البرلماني في ضوء فلسفة “العقلنة البرلمانية”، والتعديلات التي تعيد توزيع الأدوار والصلاحيات بين مجلسي البرلمان وتضع نظاما جديدللثنائية البرلمانية يتبوأ فيه مجلس النواب الصدارة.
وبخصوص محور “الجهوية المتقدمة رافعة للحكامة الترابية الجيدة: الإطار الدستوري والمؤسساتي”، أبرز السيد أحمد بوعشيق أستاذ بجامعة محمد الخامس بالرباط، أن الهدف من الانتقال من الجهوية الناشئة التي وضع أسسها القانون رقم 47/69 الصادر في 2 أبريل 1997، إلى الجهوية المتقدمة ذات الجوهر الديمقراطي والبعد الاقتصادي، هو الارتقاء بالجهة كوحدة ترابية مستقلة تتوفر على اختصاصات وافرة وتتمتع بسلطات تقريرية كفيلة برفع التحديات التنموية التي حدد أهدافها الخطاب الملكي في 3 يناير 2010، والتي ترجمها التصور العام للجنة الاستشارية للجهوية وكرسها دستور 2011، ليتم تنزيلها أخيرا في القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية الصادرة في يوليوز 2015.
وتتجلى أهميه الجهوية المتقدمة كسياسة عمومية ترابية جديدة، يقول السيد بوعشيق، في كونها رافعة لتجسيد الحكامة الترابية، لما ترتكز عليه من مبادئ جيدة للتدبير العمومي، وبما تنطوي عليه من آليات لتفعيل الديمقراطية المواطنة والتنمية الاقتصادية المندمجة والمستدامة.
واستدرك أنه “بالرغم من مرتكزات الفعالية والنجاعة التي تتسم بها الحكامة الترابية الجيدة، ورغم الطابع الشمولي والمتكامل للسياسة الجهوية الحديثة، فإن بعض الإكراهات القانونية والمؤسساتية اللصيقة بالهندسة الترابية الحالية باتت تؤثر على مردودية وجاذبية الفضاء الترابي الجهوي”.
كما تطرقت الندوة إلى محاور أخرى حول “تطور العدالة الدستورية بالمغرب بين الضبط والحماية”، و”الجهوية المتقدمة وعلاقات الدولة بالجهة: الحاجة إلى التناسق”، و”دور نيلسون مانديلا في وضع وتطوير دستور جمهورية جنوب إفريقيا”، تناولها على التوالي، الأساتذة نادية البرنوصي وميشيل روسي وألبي ساش.
عن جريدة: فاس نيوز ميديا