إن معنى مفهوم انتحال صفة، هو تقمص الشخص لشخصية إنسان آخر. و أميز في حالة انتحال الصفة بين نوعين هما:
- النوع الأول هو ما أسميه بانتحال الصفة الإستهامي.
- والثاني هو ما أسميه بانتحال الصفة الواقعي.
فبالنسبة للنوع الأول فلا يمكن تجريمه ، أما النوع الثاني فيدخل في باب الجريمة، وهي جريمة النصب والاحتيال ، ـ أقصد بانتحال الصفة الإستهامي هو التقمص الاستهامي لنموذج معين من الشخصية، باعتبارها تشكل عند المنتحل النموذج المثالي في رغباته وتطلعاته، وهذا التقمص الاستهامي من جهة فهو يشمل منظومة التفكير المعرفية أو الفنية أوالإديولوجية أو القيمية الأخلاقية أو الدينية المذهبية. ومن جهة ثانية فهو يشمل تقمص الأنماط السلوكية، وردود الأفعال، و طريقة الاستجابات للمثيرات الخارجية، كما يشمل هذا التقمص أيضا المزاج والذوق .
وأميز في موضوع الانتحال الصفة الإستهامي بين نوعين:
أـ الشخص الفرد
ب- الذات الجماعية
انتحال الصفة الإستهامي في بعده السيكولوجي يتجه فيه المنتحل إلى الشخص النموذج كوجود قائم بذاته يفصله عن العالم الخارجي ، ويجعل منه أنطولوجيا غارقة في صفات مقدسة وكأنها متعالية عن خصائص الوجود الإنساني وعن خصائص العالم الخارجي في كل أشكاله وأنواعه وبنياته ، إلى درجة أن هذه الانطولوجيا المقدسة المتعالية للشخص النموذج ، والتي تشكل موضوع انتحال الصفة الإستهامي يصل بها المنتحل المستهيم إلى قمة الأنطولوجيات الأسطورية المقدسة ، يتماهى معها أنطولوجيا على المستوى النفسي والاجتماعي ، وكنموذج على ذلك الانتحال الإستهامي للمريد في الطريقة الصوفية لشيخه ، أو الانتحال الإستهامي للمناضل للزعيم السياسي والنقابي في الحزب أو النقابة ، أو الانتحال الإستهامي للإسلامي لأميره في الجماعة الإسلامية الأصولية، أو الانتحال الإستهامي للمرؤوس لرئيسه أو المجرم لرئيس عصابته ، إلى غير ذلك من الانتحالات والتماهيات الاستيهامية في كل أشكال الوجود المتنوعة الإنسانية والشيئية والاعتقادية .
من وجهة نظر التحليل النفسي فان الشخص النموذج كموضوع للانتحال الصفة الإستهامي يشكل موضوع رغبات ليبيدية مكبوتة تدفع الأنا إلى التقمص اللاشعوري للشخص النموذج والتماهي معه . أو يدخل هذا الشخص النموذج ضمن عناصر النموذج المثال ، للأنا الأعلى والذي يشكل معيارا من المعايير الواعية لمراقبة سلوك الأنا في علاقته بالواقع وفي علاقته باللاشعور ، مما يؤدي بالأنا إلى استحضاره في عمق كينونته الواعية. إن الأنا يمارس انتحال الصفة الإستهامي ، كتعويض نفسي برجماتي في تصريف التوتر المزعج له ، وكتعويض سيكولوجي أيضا لضعفه أمام إكراهات الواقع بمختلف آلياته القمعية في تحقيق الرغبات اللبيدية المكبوتة في اللاشعور أو في المقابل كتعويض للأنا في شعوره بالنقص بسبب سلوكاته المنحرفة عن النموذج المثال في الأنا الأعلى .
كذلك نجد أن انتحال الصفة الإستهامي ، يتجه في بعده النرجسي الاجتماعي نحو الذات الجماعية باعتبارها النموذج المطلق القوي الفارض لوجوده في سيرورته التاريخية ، والصامد أمام تقلبات الزمن والظروف فهو نموذج يوجد خارج منطق الزمن والمكان متعالي عنهما ، كما أنه نموذج لا يخضع لمنطق الانهزامية والاستسلام والمساومة فهو ومتعالي عليها جميعها . فالمنتحل الإستهامي للذات الجماعية لا يعي ذاته ولا يعي أنطولوجيته المعيشية في كل أبعادها النفسية والاجتماعية إلا في الاستغراق الكلي في هذه الانطولوجيا للذات الجماعية. فلا يمكن للمنتحل الإستهامي أن يتصور أن له وجود، إلا داخل هده الانطولوجيا التاريخية للذات الجماعية ، فيها يتقوى أناه النرجسي النفسي والاجتماعي وبها يواجه ويحارب كل من يعادي هذه الانطولوجيا التاريخانية للذات الجماعية ، وكنموذج على ذلك تماهي الإنسان العربي مع الانطولوجيا التاريخانية للذات العربية في بعدها الديني أو الثقافي أو السياسي إلى آخره .
وهذه الانتحالات والتماهيات الاستيهامية للمنتحل ، مع الانطولوجيا للذات الجماعية ، تشمل الوجود التاريخي اللغوي أوالوجود التاريخي الديني أو الوجود التاريخي الإتني. هذا الانتحال والتماهي ، ينغلق على هذه الأنطولوجيا الجماعية ويفصلها المنتحل الإستهامي ، في سيرورتها الزمنية ، عن كل أشكال الوجود الأخرى لذوات جماعية أخرى. إن هذا الانغلاق الأنطولوجي ، الذي يمارسه كل منتحل استيهامي داخل الجماعة هو الذي يحافظ على استمرار الذات الجماعية في كل أشكال و أنواع وجودها ففي لحظة الانعزال المطلق للشخص في أنطولوجيته النفسية والاجتماعية ، تحضر في وعيه أنطولوجية الذات الجماعية ، من خلال التفكير القصدي الموجه إلى جزء أو عنصر أومظهر من هذه الأنطولوجيا . إن الوعي الشقي للذات في سيرورته المتواصلة من خلال الآخر يخلق في الذات استراتيجية التجاوز والتعالي وتغييب الوعي الشقي ، وذلك من خلال اندماج الذات في الجماعة بشكل إيجابي ، ولكن ايجابية هذا الاندماج لا تتم إلا بالانتحال الإستهامي للذات الجماعية . فرغم وجود العدم الانفصالي القائم بين الشخص والذات الجماعية على مستوى المعيش اليومي يضطر الأنا لحماية نفسه من جحيم الذات الجماعية إلى أن يدخل معها في عشق استيهامي . إن في العشق الإستهامي للذات الجماعية ، هي إبادة للوعي الشقي ، الذي يؤسسه الخوف والرعب الذي ينتج عن علاقة العداء بين الأنا والذات الجماعية . إن العشق الإستهامي للذات الجماعية هواستبدال لعدوانيتها قد يؤسسه سوء التفاهم والاصطدام في سيرورة المعيش. ونتيجة لخوف الأنا من الانزلاق في التمركز النرجسي ، لا يجد أمامه إلا ممارسة الانتحال الإستهامي للذات الجماعية .
عندما يصل انتحال الصفة الإستهامي عند الشخص ، إلى حالة من الشذوذ وعدم الاتزان، ففي هذه الحالة يتحول إلى سلوك إجرامي متمثل في انتحال الصفة الواقعي فينتحل المنتحل شخصية غير شخصيته الحقيقية ليمارس النصب والاحتيال على المواطنين .
بقلم : الدكتور عبد الجبار شكري أستاذ باحث في علم الاجتماع وعلم النفس باحث مشارك في مختبر الأبحاث والدراسات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة.
عن موقع : فاس نيوز ميديا