وهذا المثل الشائع هو الذي ينطبق على ثلة من الحكام العرب في اتخاذ القرارات العشوائية دون احتساب العواقب المحتملة ، وقس على ذلك من أمثالهم صناع القرار في الدول العربية التي تصنف في خانة ( الدكاتاتورية والاستبداد والانفراد في القرارات ) . وهو ما يحدث في كواليس الأروقة البلاطية الرئاسية أو الملكية .. وهو ما دفع بالغرب ، استغلال هذه الثغرة عند الحكام العرب في دول العالم الثالث ، ومحاسبتهم على خروقاتهم لحقوق الإنسان وعدم امتثالهم لضوابط المواثيق الدولية المتعلقة بعالمية الحقوق.
العبرة من الماضي لتصحيح مسار المستقبل :
ومن نتائج هذا الغباء السياسي الذي تعاني منه جل الدول العربية على مر التاريخ : من استعمار فكري وسياسي واقتصادي ، وطمس معالم الثقافة العربية والخصوصية الاسلامية التي أصبحت بدورها في قفص الاتهام .. في غياب دفاع عربي قوي يقف سدا منيعا في وجه قادة الغرب .. رغم كل هذه الهيمنة الأمبريالية لم يستفد العرب من أخطاء الماضي ، ولا زال الوضع كما هو عليه بين زمن الماضي وزمن الحاضر ، حيث يعتمد الحكام طلب الحماية من الغرب للحفاظ على عروشهم من منطلق الاستبداد والمحسوبية والرشوة .. مبتعدين على ولاء شعوبهم ، بينما في الدول الديمقراطية تعتمد بالأساس على صحوة شعوبهم ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا في صناعة القرار السياسي كالولايات المتحدة الأمريكية ، والبريطانية والفرنسية ، والألمانية وغيرها من الدول الغربية في هذا المجال ، الذين يحترمون شعوبهم ، ويوفرون لهم مقابل ذلك سبل العيش الكريم ، من صحة ، وتعليم ، وسكن لائق ، وشغل يناسب مستواهم العلمي والمهني ، فضلا عن ذلك ، بنية تحتية لبلاد من إعمار ، وطرق سيارة ، ووسائل النقل المختلفة التي توفر الراحة للمواطن في بلد ديمقراطي يعيش على التكافل الاجتماعي ، وبناء عنصر الثقة بين القمة والقاعدة ( علاقة الحاكم بالمحكوم ) على أسس حقوقية وسياسية واقتصادية وثقافية تربوية التي تنتج مواطنا صالحا يعود بالنفع على بلده في إطار المواطنة الحقة المبنية أسسها على الدستور كميثاق اجتماعي تشريعي ، ينظم علاقة الفرد بالمجتمع . وللدلالة في هذا المدخل ، نرى موجة الربيع التي اكتسحت العديد من الدول العربية التي كان حكامها من أبرز الاقطاعيين والدكتاتوريين .. وكانت شعوبهم ساخطة عليهم بفعل عدم التجاوب مع مطالبهم الاجتماعية ، وهو ما دفعهم إلى الانفجار ، والغرب كان قد مهد طريق الحراك الشعبي على أكثر من صعيد .. كانت البداية من بلاد الرافدين بعدما أوقعت السفيرة الأمريكية الرئيس صدام حسين في شر أعماله التي كانت من صنع الغرب ليسقط في شراكهم .. وهو ما حصل وكانت النتيجة كما يعرفها الخاص والعام ، ولا زالت العراق تتخبط في مشاكل عويصة لا حصر لها ، القتل والدمار .. تدمير حضارة عربية يشهد لها التاريخ بتفوقها في مجالات علمية وتكنولوجية متعددة .. وقد خسرت كل شيء في ضربة واحدة من التحالف الدولي بقيادة أمريكا .. انهارت بلاد الرافدين كما انهارت تلال الرمال ، وانهارت معها الأمة العربية من المحيط إلى الخليج العربي .. كأمثال زين العابدين في تونس ، وحسني مبارك في مصر ، وعبد الله صالح في اليمن ، وبشار الأسد في سورية ، والعقيد القذافي في ليبيا .. وهلم جرا . وحتى لا نتيه في نظريات الربيع العربي وانعكاساته على المنظومة العربية .
المغرب كان نموذجا في تصحيح مسار موجة الربيع العربي :العبرة من الماضي لتصحيح مسار المستقبل – السعودية نموذجا – بقلم د/ مصطفى الصدوقي
نأخذ مثالا للمغرب في وسط هذه المجموعة المضطربة الذي استطاع أن يتجاوز العاصفة بحنكة جلالة الملك محمد السادس ، وبادر بإصلاحات جذرية عل مستوى التشريع وذلك بمراجعة الدستور ، وهو ما شهد به الخاص والعام في المحافل الدولية ، وفي الاعلام الدولي أيضا :
يحسب للمغرب تبنيه سياسة مغايرة استفادت من دفعة الربيع العربي ، وأعطت للمملكة ادستورا جديدا عام 2011 ، ووضعا استثنائيا في المنطقة العربية المضطربة .
فقد تبنى المغاربة بالاجماع من طنجة إلى الكويرة – بمبادرة من جلالة الملك محمد السادس – دستورا جديدا أتاح انتخابات ديمقراطية أفرزت عام 2012 برلمانا تصدره حزب العدالة والتنمية ذو المرجعية الإسلامية.
وتواصلت التجربة على هذا الأساس في انتخابات جهوية وبلدية لاحقة، ثم في انتخابات نيابية أهلته في خوض غمار الاصلاح والتصحيح.
ويسجل انفتاح المغرب بشكل كبير على القارة الأفريقية من خلال زيارات متعددة لجلالة الملك محمد السادس لدول القارة، وهو الجهد الذي لم يمنعه من بذل جهوده لتهدئة الوضع وتأييد الحقوق المشروعة في بعض تجارب الربيع العربي.
ومن هنا يحسب لجلالة الملك المغرب دوره الإيجابي في دفع تجارب الربيع العربي الأخرى للنجاح وتجاوز عراقيل الانتقال.
فقد شجعت الدبلوماسية المغربية دعم المسارات والحلول السلمية ورأب الصدع بين أبناء البلد الواحد من طنجة إلى الكويرة .
أسوأ وضع ديمقراطي في الحكم والانفراد بالقرارات ، السعودية نموذجا :
المملكة العربية السعودية كانت تجسد بحق حضارة المملكة وثقافتها، التي امتدت عبر قرون عدة، لكونها رائدة العالم الإسلامي والعربي، وتتطلع عبر رؤيتها 2030 إلى تعزيز الجوانب الثقافية والحضارية فيها.العبرة من الماضي لتصحيح مسار المستقبل – السعودية نموذجا – بقلم د/ مصطفى الصدوقي
لكن أحيانا ، تجري الرياح بما لا تشتهي السفن .. وهو ما حدث للسعودية في السنوات الأربع الأخيرة في سياستها الخارجية .. بعد الانقلاب على ولي العهد السابق نايف بن عبد العزيز ، وتولي مكانه غصبا محمد بن سلمان الشاب المتهور والمتسرع في القرارات العشوائية ، وهو ما أسقطه في شر أعماله منها :
فتح بؤرة توتر داخل اليمن ، وقتل اليمنيين بالصواريخ والدبابات والطائرات لحرب غير متكافئة يخوضها مع دولة جارة شقيقة فقيرة بحجة الشرعية المزعومة .
محاولة زعزعة لبنان وتحريض الحريري على التمرد والاستبداد .
خلق الفتنة في سوريا بين المعارضة والرئاسة .
محاولة فتح جبهة ثانية مع الصفويين وتحريض اسرائيل وأمريكا لشن الحرب على إيران ..
إشراك دولة الامارات العربية والبحرين في زعزعة استقرار دولة قطر ، وتحريض دول أخرى على المقاطعة ..
مغازلة العراق عن طريق زعيم الشيعة مقتدى الصدر للتمرد على بلاد فارس معقل الشيعة لكن محاولاته كلها بائت بالفشل ..
خلق عداء مع دول عربية وغربية بما فيها المغرب ، بعد تصويت بلده لفائدة الولايات المتحدة الأمريكية وتحريض دول أخرى بخصوص ترشيح ملف كأس العالم 2026 .
فضلا عن ذلك سحبت السعودية دعمها للفلسطينيين ..
مدها يد العون لدونالد ترمب بنقل سفارة واشنطن إلى القدس ..
اعتقال الأمراء، ورجال المال والأعمال ، والدعاة والأئمة ، وكل من عارض سياسته الهمجية أو انتقاده لولاية عهده ..
وأخيرا وقعت الواقعة ليست لوقعتها واقعة ، وكانت بمثابة النهاية لولاية عهده ، وشوه وجه المملكة العربية السعودية وهو يمتهن البلطجة والقتل والبطش .. بعدما أمر فرقة الموت باغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي بقنصلية اسطنبول بتركيا داخلها ، بعد ترتيب فخ له واستغلال حاجته لوثائق إدارية تخص بخطيبته السيدة خديجة جنكل .. وقد تم استدراجه لموعد آخر للعودة إلى القنصلية لتسلم وثائقة المطلوبة .. لكن الشيطة والبلطجة كانت هي الفاصل في حياة الشهيد جمال خاشقجي ، واختفى بعدها إلى الأبد تحت أنظار القتلة من مساعدي ومدراء مكتب ولي العهد محمد بن سلمان الذي كان يقود عملية الاغتيال بكل تفاصيلها كما أوردتها تحقيقات المدعي العام التركي ووسائل الإعلام الأمريكية منها نيويورك تايمز ، وواشنطن بوست ، و س إن إن ، وقناة الجزيرة وغيرها .
الاعتراف سيد الأدلة :
رئيس الولايات المتحدة حاول طمس معالم جرائم ولي العهد السعودي ، وتوجيه أنظار الرأي العالمي إلى قتلة مرموقين ، لكن هذه الحيلة لم تجدي نفعا ، بعدما تعالت أصوات الكونغرس ومجلس الشيوخ ووسائل الإعلام العالمية .. أوقعت دونالد ترمب في مأزق حقيقي ، ما عليه إلى الاستجابة إلى المؤسسات الدستورية وإلى ضغط الشارع الأمريكي ، وإلى الرأي العام العالمي ، وأصبحت نظرية الرئيس الأمريكي تتراجع أمام هذه الجريمة الشنعاء أبطالها شخصيات نافذة في الهرم السعودي تحت قيادة محمد بن سلمان .
لكن قوى الظلام حاولت فبركة الوقائع للجريمة والآمر في تنفيذها والتسترعلى أكبر فاعليها ، بقصاصة وسائل الإعلام السعودية مفادها (لم تكن قضية جمال خاشقجي هي الأولى أو الأخيرة في سلسلة فصول اهتمام القيادة بمواطنيها أينما كانوا حتى وإن ظل الطريق أيُّ من أبنائها . فهي دولة قائمة على العدل منذ بداية تأسيسها، ولا تتوانى عن تطبيق أحكامه والأخطاء تحدث في كل دول العالم وعلى كافة المستويات، والدول العاقلة تستطيع تصحيح تلك الأخطاء مهما بلغت .) وأخيرا اعترفت السعودية بجريمة اغتيال جمال خاشقجي داخل قنصليتها باسطنبول … وعقب ذلك أعفى الملك سلمان نائب رئيس الاستخبارات أحمد عسيري والمستشار في الديوان الملكي سعود القحطاني .
وبهذا يكون السيد ترامب بدوره مساهما في صناعة الحدث ومقتنعا حيث اعتبر : التفسير السعودي عما جرى لجمال خاشقجي موثوق به وخطوة جيدة وكبيرة . بكل تاكيد لن تنتهي القصة هنا بل سيتبعها مراقبون من الكونغرس ومجلس الشيوخ ورأي عام وإعلام دولي ..
والسؤال هنا يطرح نفسه : هل يستوعب المنتظم الدولي الأطروحة السعودية بهذه السهولة ؟؟؟
عند طرح أي سؤال يضيق الجواب .
الظريف في كل هذا أنه لا يزال يعتقد ولي العهد المتهور محمد بن سلمان ، بأنه مسموح له بأن يقوم بأي شئ ، وبالمال يشتري كل الذمم مادام عنده الغطاء الترمبي والحماية الأمريكية التي تستنزف منه أموالا طائلة على شكل استثمارات وبيع أسلحة للسعودية في إطار المنافسة الشرسة بين الدول المنافسة لأمريكا .. أو بعبارة أخرى، ولي العهد كما يدور في دماغه ، ما دام يدفع مقابل البلطجة فهو آمن ، أموالا بكل سخاء وبدون حساب .. معتقدا أن أمريكا بجبروتها وساستها ومن فيها من الأمريكيين ، كأنهم يشتغلون عنده في بلاطه الأميري .. متناسيا أن الرئيس الأمريكي في العرف الدبلوماسي هو سيد العالم ، والكل في حاجة إليه.
أمريكا رمز القطبية الأحادية في العالم :
الساسة الأمريكيون يتقنون فنون اللعبة وكل واحد منهم يلعب دوره المنوط به بإتقان دبلوماسيا وسياسيا واجتماعيا . والاعلام الأمريكي يحث البيت الأبيض على قطع كل العلاقات مع السعودية ، وتوقيع أشد العقوبات بما فيها الحصار الإقتصادي والسياسي. كما يطالب أعضاء مجلس الشيوخ والكونغرس بمحاسبة الجناة القتلة على هذه الجريمة النكراء .
أما الرئيس الأمريكي ، يأخذ دور المدافع والوسيط بالطرق الممكنة للخروج من هذه الأزمة بسلام ، لكن أعضاء الكونغرس غير مقتنعين بالرواية السعودية وما رافقتها من أكاذيب ملفقة لأشخاص مجرد أدوات في يد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ، وهو ما سنراه في المستقبل القريب والقريب جدا.
أمريكا لن تتخلى عن المبادئ المسطرة في دستورها الحقوقي ، وهي تستعمله كسلاح ذو حدين في وجه طغاة العالم كلما دعت الضرورة إلى ذلك .. فهم رواد العالم في مجالي الحرية وحقوق الإنسان .. وهنا سقطت السعودية في دائرة التجاوز والانتهاك في الحقوق الإنسانية .. وعقوبتها ستكون أشد إذا ما ثبت ذلك في التحقيقات وتقارير الاستخبارات الأمريكية .. ومن أولى هذه العقوبات دفع النظام السعودي بالتخلي عن محمد بن سلمان عن ولاية العهد ، وتنصيب شخص آخر مكانه ، يكون مؤهلا لذلك سياسيا ، وأخلاقيا ، وذو كفاءة ومروءة كرجل صالح يقود دولة كالسعودية ضمن قواعد الأعراف المتداولة في نظامهم التقليدي . ولعل الحكام العرب يستفيدوا من أخطاء غيرهم ، وكم هي كثيرة .. وقد سبقت الإشارة إليها في صلب البحث .
والخلاصة هي أكثر البشر قربا من الحمير هم الطغاة :
على قول الأديب البريطاني الشهير ألدوس هكسلي صاحب الرواية الشهيرة « عالم مقدام جديد »: « إن أهم درس يمكن أن نستفيده من التاريخ هو أن البشر لا يستفيدون كثيراً من دروس التاريخ ». ولعل أفضل مثال لتأكيد مقولة هكسلي هذه الأيام هو مواقف محمد بن سلمان وايضا الطواغيت العرب المحاصرين بثورات شعبية الذين ما زالوا يكابرون بطريقة عبثية ضاربين عرض الحائط بالتاريخ .
فبدلاً من الاستفادة من تجارب الذين سبقوهم وأخذ العبرة من السوابق التاريخية الكثيرة ، ها هم يقعون في الحفرة نفسها التي وقع بها أسلافهم في الماضي القريب والبعيد، مع العلم أن الذي يقع في الحفرة نفسها مرتين، كما يعلم الجميع، هو الحمار أعزكم الله. وبالتالي فإن أكثر البشر قرباً من الحمير من حيث الغشم والغباء هم الطغاة.
د/ مصطفى الصدوقي – أستاذ كرسي جامعي
نيويورك – الولايات المتحدة الأمريكية
عن موقع : فاس نيوز ميديا