لا يمكن دراسة التاريخ بالمنطقة الجنوبية وفصله عن سياق الأحداث الواقعة بالمغرب ، كما يستحيل فصل التطور التاريخي للقبائل الصحراوية عن نظيره بالمغرب في مجموع ترابه ، لأنه يتشكل مع تاريخ المغرب .فمنذ قيام المرينيين في القرن الحادي عشر ارتبط تاريخ القبائل الصحراوية بتاريخ الدولة المغربية الشريفة ، ونفس هذا الإقرار عبر عنه أحد المؤرخين بأن الطابع المغربي لسكان الصحراء واقع لا يمكن دحضه ، رغم تكاثف جهود العدو وبعض المناورات السرية للفصل النهائي لهذه الأقاليم عن الوطن الأم المغرب ، فوحده الاستعمار جزأ الوحدة المغربية القوية مند قرون خلت . إن التاريخ هو الذي يبين لنا الروابط التاريخية والدينية والأسرية التي تربط القبائل الصحراوية بالوطن الأم . ومن خلال استقراء لبعض المصادر التاريخية فإن جميع الملوك العلويين حرصوا على تعيين من ينوب عنهم في تسيير شؤون رعاياهم في هذه الأقاليم الجنوبية .الدكتور مصطفى الصدوقي : قراءة في أطوار مغربية الصحراء عبر التاريخ –
فبالرجوع إلى قراءة التاريخ المغربي من جديد ، وما دونه المؤرخون والباحثون في هذا المجال – أطوار مغربية الصحراء عبر التاريخ – دبلوماسيا وحقوقيا – نجد أن جل الكتاب يعتمدون في أبحاثهم على الخرائط التي وضعها المستعمر حيال الحدود التاريخية للمغرب ، وجزأ أراضيها حسب الرغبة التي تخدم المصالح الاستعمارية ، بينما الصحيح هو دراسة التاريخ من كل جوانبه الجغرافية ، والجيوستراتيجية ، والسياسية ، والثقافية ، والدينية ، وكل ما له من علاقة في إظهار الحقيقة التاريخية والشرعية للبلد .
وفي هذا الإطار ، نشير أن موظفا دوليا عمل لسنوات طويلة ببعثة الأمم المتحدة لتنظيم الاستفتاء في الصحراء (المينورسو) أورد في مقال نشرته مجلة “لافريك رييل” براهين تاريخية تؤكد مغربية الصحراء ، حيث ذكر بالخصوص بأن “المغرب كان في عهد المرابطين يوجد على رأس إمبراطورية تمتد من نهر السنغال إلى وسط شبه الجزيرة الإيبيرية” ، وأشار إلى أن “المرابطين وحدوا الصحراء بكاملها ما بين سنوات 1042 و 1052 وأن الصحراء كانت وقت تقسيم المستعمرات تشكل مع المغرب كيانا اقتصاديا وسياسيا ودينيا واحدا” ، فمغربية الصحراء لا ترتكز بالفعل على ذكريات تاريخية بعيدة ، إنها واقع سياسي تأكد خلال القرن العشرين بنفس القوة كما كان عليه الأمر في الحقب القديمة .
إن أولئك الذين يشككون في هذه القضية ، يبينون أن لهم إلى حد ما عقلية استعمارية ، لأنهم يحددون الحدود التاريخية للمغرب اعتمادا على تلك التي وضعها المستعمر. وقد ناقش المؤرخ “برنارلوغان Bernard Lugan” قضية الصحراء المغربية في كتابه الأخير تحت عنوان “تاريخ المغرب من جذوره إلى اليوم Histoire du Maroc des origines à nos jours ” ،
فبتفحصه لتاريخ المغرب من القديم إلى الحقبة الحالية ، أراد المؤرخ أن يبين تاريخيا ، سياسيا ، لغويا ، ثقافيا ، دينيا وعرقيا أنه لا يوجد على الإطلاق ما يسمى ب “الشعب الصحراوي” ، ويؤكد هذا الطرح – حسب هذا الاختصاصي في شؤون إفريقيا- الاتفاقية السرية الفرنسية – البريطانية المؤرخة في 5 غشت 1890 التي تنص على الاعتراف بالحماية البريطانية على جزر “زنجبار” و”بومبا” في المحيط الهندي ، مقابل الاعتراف لفرنسا بإمكانية احتلال الصحراء الوسطى الغربية للحصول على ممر في اتجاه الجنوب أي نحو النيجر وبحيرة تشاد ، وكان يتحتم على فرنسا أن تحترم الحدود المغربية الممتدة من فكيك إلى الرأس الأبيض (نواديبو في موريطانيا) ، وهذا يعني أن الصحراء “الإسبانية سابقا” كانت حكما أرضا مغربية . الدكتور مصطفى الصدوقي : قراءة في أطوار مغربية الصحراء عبر التاريخ –
كما أثبتت الوقائع التاريخية ، أن القبائل الصحراوية كانت تطلب يد المساعدة من السلطان المغربي في كل مرة كانت تهددها القوات الأجنبية وكان سلاطين المغرب يعتبرون هذه المناطق مغربية وأنها جزء لا يتجزأ من المغرب ، لذلك كانوا يبعثون للقبائل الجنوبية بالأسلحة والعتاد بواسطة ممثليهم هناك ، وكانوا يساندون كفاح الشيخ “ماء العينين” ضد الاحتلال الفرنسي الإسباني ، وبالنسبة إلى ماء العينين ، اعتبر العديد من الباحثين أن بفضله تمكن السلطان من تدعيم سلطته جنوب وادي درعة ، وأنه مقرب كثيرا من السلطان ويتلقى منه التعليمات بصفة منتظمة ، وقد انتقل الشيخ ماء العينين سنة 1897 إلى مراكش وكان في استقباله العاهل الشريف ، وطلب من هذا الأخير الترخيص له بإعلان الحرب على الفرنسيين والإسبان ، ومن أجل هذا الهدف زوده السلطان بالمال والأسلحة وعهد إليه بمهمة تهدئة أمور الصحراء المغربية .
وإذا كانت مغربية الصحراء من البديهيات التي سبق التسليم بها ، والتي لا تحتاج إلى المزيد من الاستدلال والبرهنة ، فإنه لا يتناقض مع هذا التحليل ، من باب الدراسة العلمية الأكاديمية ، عرض بعض الحجج والبراهين التاريخية التي تؤكد بطريقة لا تقبل الجدل مغربية الصحراء ، وذلك على مستويين وفقا للتقسيم التالي :
الفقرة الأولى : الحجج التاريخية على المستوى الداخلي حول مغربية الصحراء
الفقرة الثانية : الحجج التاريخية على المستوى الدولي حول مغربية الصحراء
* الفقرة الأولى : الحجج التاريخية على المستوى الداخلي حول مغربية الصحراء*
إن التتبع التاريخي لعلاقة الدول التي حكمت المغرب ابتداء بالمرابطين وانتهاء بالعلويين ، علاقة هذه الدول بمنطقة الصحراء ، يثبت قيام علاقات سيادة تخضع لمفهوم القانون العام الإسلامي المتمثل في البيعة بين سلاطين المغرب ومنطقة الصحراء ، وقد اتخذت هذه العلاقات عدة صور ، حيث مارس المخزن المغربي سيادته على الصحراء منذ القرن الخامس عشر ، وتتجلى مظاهر ممارسة هذه السيادة في عدة ممارسات سلطانية روابط دينية وسياسية .
* أولا: المظاهر الدينية لممارسة السيادة*
إن تلقب السلطان بلقب الإمام يفرض مباشرة قيام الدعوة له بالمساجد في صلاة الجمعة ، كما يصبح تبعا لذلك يملك حق تولية القضاة. وفيما يخص منطقة الصحراء ، فقد تطرقت المصادر التاريخية إلى التوحد المذهبي للصحراء تحت لواء المالكية ، وإلى كثرة وانتظام اتصالات رجال وشيوخ الصحراء بالسلاطين المغاربة .
إن كثافة هذه الاتصالات سمحت لبعض الباحثين أن يعطوا ، عن قصد أو بغير قصد ، صفة هذا الجانب من الروابط على كل الروابط الأخرى القائمة بين المغرب والصحراء. إلا أن انتماء سكان الصحراء إلى مجتمع ترحلي لم يمنع هذه الروابط الدينية من بلورة مظاهرها ، ذلك أن الصحراء المغربية – حافظت دائما على مركزها كمعقل لوجدان ديني متأجج – لم تتوقف فيه ممارسة الشعائر الدينية أبدا ، وأمام غياب أماكن ثابتة للصلاة فقد كانت صلاة الجمعة تقوم أينما حلت القبيلة ، وفي ختامها يقوم الدعاء للسلطان ، وهو أمر بديهي ينظر إليه كمتمم للصلاة .
وفي هذا الإطار تجدر الإشارة إلى أن أهل “تجكانت” عندما أرادوا بناء مسجد متصل بأبنيتهم من أجل إقامة صلاة الجمعة ، استأذنوا السلطان مولاي الحسن ، الذي أذن لهم بذلك بظهير موجه لهم كافة يذكرهم بالشروط المطلوبة من معالم الشرع والسنة .وكان السلاطين المغاربة من جهتهم يعملون على نشر العلم و الدين في إقليم الصحراء ، فقد قدروا الشيوخ الصحراويين الذين يقومون بهذه المهمة الجليلة بمنحهم ظهائر توقير واحترام كالتي تمنح لغيرهم بشمال المغرب. فالسلطان مولاي الحسن ذكر في الظهير الذي أسدل به أردية التوقير و الاحترام على أهل ً دار بالأعمش ً و ً أبو جارات ً من أهل “تجكانت” بأنه قام بذلك تعظيما لهم ومراعاة لكون دارهم دار علم وصلاح وحجة وفلاح في القديم و الحديث وكون الفقهاء منهم ورواة الحديث .
ونفس الشيء أشير إليه في ظهير توقير الطالب إبراهيم بن مبارك التكني لانتسابه للعلم الشريف ، وقد تم أحيانا صرف مرتب شهري للقيام بهذا العمل كما هو في الظهير الممنوح من طرف السلطان مولاي الحسن للشيخ ماء العينين إعانة له على ما هو بصدده من بث العلم الشريف ونشره.هذه الأوضاع القانونية التي تنشئها الظهائر الشريفة ، تتسم بطابع الديمومة ، بحيث يقوم السلاطين اللاحقين بتجديدها بواسطة ظهائر جديدة يرتكزون فيها على ظهائر أسلافهم ، وهؤلاء الفقهاء الذين يحصلون عن ظهائر التوقير والاحترام يشرفون ، بالإضافة إلى نشر العلم الشريف ، على حل المنازعات التي يرضى أطرافها الاحتكام إليهم نظرا لطبيعة المجتمع الترحالي ، ويعتبر الحكم الصادر نافذا لا يقدر المحكوم عليه أن يمتنع عنه إلا إذا أوعز إليه أحد العلماء أن ذلك الحكم غير منصف أو صحيح فيطلب نقضه ، وبصفة عامة ، كانت الأحكام تصدر وفق المذهب المالكي ، والسلاطين المغاربة كانوا حريصين على ذلك ، فالسلطان مولاي الحسن نبه الطالب سيدي احمد بن محمد بالأعمش في ظهير توليته خطة القضاء بقبيلة ” تجكانت” إلى أن يتحرى في أحكامه ً ما جرى به العمل أو الراجح أو المشهور من مذهب إمامنا مالك . ً
وعلى العموم ، يبدو أن وجود روابط دينية بين إقليم الصحراء والدولة المغربية أمر لا يمكن نفيه ، أمام تعدد مظاهرها ، وثبوت إلقاء خطب يوم الجمعة بالمساجد باسم السلطان الشريف و التقيد بتعاليم المذهب المالكي ، كما تجدر الإشارة أن من أهم الوظائف التي يقوم بها المخزن المغربي – بحكم هذه الروابط الدينية و الروحية – وظيفة التحكيم بين القبائل ، فحينما كانت تقوم منازعات بين قبائل الصحراء كان المخزن يتدخل لمساندة المظلومين وحل المشاكل بين الطرفين .
:* ثانيا : المظاهر السياسية لممارسة السيادة*
إن الروابط ذات الطابع السياسي بين الدولة المغربية و الأقاليم الصحراوية متجذرة في التاريخ ، وازدادت توطدا مع ظهور الأطماع الاستعمارية. فقد نزل المولى رشيد أثناء تأسيسه للنظام الجديد حتى تخوم السودان ، واتبع المولى إسماعيل نفس النهج حيث نجح في مراقبة كل أرجاء البلاد المغربية ، وسار في جولة تفقدية في بداية عهده قادته حتى شنقيط ، وأرسل أحمد بن أخيه على رأس فرقة عسكرية لفض بعض النزاعات بين القبائل . وإبان فترة الصراع بين أبناء المولى إسماعيل على السلطة ، ظل العمال التابعون للمخزن المغربي متواجدين بشنقيط ، فقد نزل المولى عبد الله مرتين إلى ” دياني” قرب “تمبكتو” لاستخلاص الضرائب . وقام محمد بن عبد الله بتثبيت حفيد علي شندورة ، المختار بن عمر بن علي على إمارة الطرارزة ، كما اهتم السلطان مولاي عبد الرحمان بهذا الإقليم وعالج شؤونه ومشاكله مع رعاياه به ، وهو نفس النهج الذي اتبعه ابنه سيدي محمد بن عبد الرحمان بعد مبايعته سلطانا على المغرب ، موجهين اهتمامهم إلى مسألة التسلل الأجنبي إلى الأقاليم الجنوبية التي بدأت تستفحل خلال القرن 19. على أن السلطان مولاي الحسـن في متابعته لنفس الخطة رفع اهتمامه بهذا الإقليم إلى مرتبة أعلى بحيث سافر إليه بنفسه في رحلة أولى وعين مجموعة من العمال وقائدا يستشيرون معه في أقوالهم وأفعالهم ، ثم سافر في رحلة ثانية منح أثناءها ظهيرا بتكليف إبراهيم بن علي بن محمد التكني بحراسة الشواطئ المجاورة لقبيلته ، وظل يتابع محاولات التسرب الاستعمارية ، ودعما لجهود وقف هذا التسلل عين محمد بن الحبيب التدرداري قائدا على قبائل مجاط والفويكات وثلث أيت لحسن وزركاط وتوبالت ولميار من التكنة ، ثم وسع قيادته بظهير آخر على قبيلة المناصير من أزركين …
وهكذا ، وباستعراض هذه المظاهر الدينية والسياسية ، والتي تشكل انعكاسا مباشرا للروابط القانونية بين إقليم الصحراء والدولة المغربية ، ننتهي إلى التأكيد على كثافة هذه الانعكاسات ومن تواصلها المستمر الغير المنقطع ، وهو ما تؤكده باقي مظاهر ممارسة السيادة .
ومن أبرز هذه المظاهر ، مقاومة الشيخ ماء العينين للمستعمر باسم السلطان وبأمر منه ، وينتمي الشيخ ماء العينين إلى قبيلة خميس التي انتقلت مع طالب ضيا المختار إلى أدار ( موريطانيا ) في القرن الثاني عشر ، وهي قبيلة مغربية صنهاجية أصلية ، أي ترتبط بأصل عربي قرشي هاشمي علوي (الحسن بن علي) وبأصل مغربي سياسي مذهبي (الشرفاء الأدارسة ) ، تلقى تنشئته الدينية من والده محمد الفاضل مؤسس الطريقة الفاضلية .
وعند استقراء العلاقات السياسية بين الشيخ ماء العينين والسلطان المغربي ، نجد أن الوقائع التاريخية تثبت قيام تبعية بالمعنى الوطني أي انتماء إلى سلطة سياسية مخزنية وملامح مشروع سياسي محلي المنطلق وشمولي الهدف. فالشيخ ماء العينين كان يتمتع بشخصية مميزة استطاعت بفضل الثقافة الإسلامية الواسعة والإيمان الشديد، فرض نفسها في منطقة تتعايش فيها زعامات قبلية ، لكن هذه الشخصية لم تتحول إلى قيادة سياسية إلا بحيازتها لشروط الزعامة نفسها : علاقات واضحة مع السلطان العلوي ، نفوذ محلي قوامه الزاوية والدعوة لمحاربة الغزو الأجنبي المسيحي ، وقد أعلن بيعته للسلطان المولى عبد العزيز سنة 1894 . وعند ما زار الشيخ سنة 1890 السلطان مولاي الحسن خاطبه هذا الأخير بأن “….. مولاي عبد الرحمان بن هشام جعل منك ابنا له ، والسلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن اعتبرك أخا له، و أنا أتخذ منك أبا لي . …”
وكان الشيخ ماء العينين هو القائد الذي تمخضت عنه الولادة الجديدة ، وانتدبته الصحراء ليكون المدافع عن استقلال الوطن ، وأصبح خليفة للسلطان في المنطقة الصحراوية. وقد بات هاجسه الوحيد هو كيف يخلص البلاد من الغزو الأجنبي وتعبئة كل القوى الصحراوية أولا والوطنية ثانيا. وقد ذاع صيته لا في الصحراء وحدها بل في مجموع التراب الوطني كشيخ زاوية وفقيه ومصلح ثم كقائد عسكري ، خاض منذ سنة 1906 معارك ضارية ضد القوات الفرنسية .
وقد اعتمدت السياسة التي اتبعتها السلطة الشرعية في المغرب داخل الصحراء على زعامة الشيخ ماء العينين الدينية ، وولائه لها وحماس القبائل وغيرتها على استقلال البلاد ووحدتها ومن ثم استماتتها وصمودها في الجهاد ، ذلك أن مقاومة المستعمر وحماية البلاد من الحملات والمحاولات الاستعمارية الأجنبية تمثل بالنسبة إلى القبائل الصحراوية واجبا دينيا ووطنيا وقوميا. وقد اكتست تلك المقاومة صورا متعددة :
*العزم والتصميم ويظهران في استشارة السلطة المركزية وفي استشارة الأولياء والعلماء (مراسلات مع السلاطين).
.*استقبال البعثات السلطانية (بعثة مولاي عبد العزيز إلى السمارة سنة 1905)
.*إيفاد البعثات الصحراوية إلى السلطان في أواخر سنة 1905 في عهد مولاي عبد العزيز
*بناء مدينة السمارة كمقر لتنظيم الجهاد ، ومركز جهادي لمكافحة المستعمر الفرنسي والإسباني ، وعبره يسهل تنفيذ التعليمات المتلقاة من السلطان ، وذلك بمساعدة السلطان مولاي عبد العزيز .
إن ارتباط الشيخ ماء العينين بملوك المغرب ووفاءه لما في عنقه لهم من التزامات وعهود ، يعد من أبرز مظاهر حركة المقاومة التي قادها الشيخ ، فقد ظل طيلة نصف قرن يتردد عليهم لتجديد البيعة والتشاور معهم في مختلف القضايا التي تهم الوطن، وقد بلغت زياراته لهم أربعة عشرة زيارة منها : ثمانية زيارات تمت في مراكش وزيارتان في مكناس وثلاث زيارات في فاس. وهذا ما أدى إلى توطيد الدعم المخزني لحركة المقاومة ، حيث أرسل السلطان مولاي عبد العزيز مائة بندقية للشيخ ماء العينين سنة 1906 ، تمكن بفضلها من مهاجمة المركز الفرنسي المقام في “تجيكجة” ومحاصرة حاميته لمدة 20 يوما تقريبا في نونبر من نفس السنة ، فاحتجت فرنسا بواسطة قنصلها بفاس على السلطان وهددته باستعمال قوة السلاح إن تمادى في إرسال السلاح للشيخ ماء العينين ، وذهبت كذلك إلى حد إرسال سفينة حربية إلى ساحل طرفاية لمنع رسو السفن المخزنية المحملة بالسلاح .
وفي فترة حكم السلطان مولاي عبد الحفيظ ، توطدت العلاقات بشكل كبير بين سكان الصحراء والمخـزن المغربـي ، وهكذا حل بمدينة مراكش وفد من قبائل الصحراء يرأسهم الشيخ ماء العينين سنة 1907 ، فجددوا للسلطان بيعتهم ، وطالبوه بكميات من الأسلحة للدفاع عن وحدة بلادهم الترابية . لقد ظــل الشيخ ماء العينين حتى سنة 1908 يحارب الفرنسيين بصفته ممثلا رسميا للسلطان بالجنوب ، واستمر الجهاد يحرك بواسطة ابنه أحمد الهيبة الذي قاد حركة قاعدتها الأساسية متكونة من العامة والتي تشكل الأغلبية. وترجع عوامل نجاح هذه الحركة إلى تأييد السلطان مولاي عبد الحفيظ للحركة ، وكذا الشهرة الطاغية لبيت ماء العينين في العلم والجهاد والشرف .
من خلال هذه الومضات السريعة لمراحل الجهاد التي عرفها إقليم الصحراء ، يمكننا أن نخرج بملاحظتين حول مسؤولية السلاطين المغاربة عن الجهاد بهذا الإقليم :
*الأولى تتعلق بموقع السلاطين المغاربة من الجهاد ، فهم أعلنوه وقاموا به وتتبعوه في كل فتراته ولم يتغيبوا عنه ، وكان لديهم وعي كامل بالمسؤولية عنه .
*الملاحظة الثانية تتعلق بموقفهم من الجهاد ، إذ علينا تسجيل ثبات هذا الموقف الذي لم تغيره أية مساومات أو ضغوط ، ويكفي التذكير بأن المؤامرات التي كان الشمال يتعرض لها من إثارة للفتن والقلاقل لم تنقص من عزيمة السلاطين الذين تشبثوا بالجنوب بأقصى جهدهم ، وجندوا طاقاتهم للوقوف داخليا وميدانيا في وجه الاحتلال الفرنسي وكذا خارجيا ، لأنهم كما سوف نرى كانوا يملكون في الساحة الدبلوماسية اعترافا دوليا بانتماء الإقليم الصحراوي إلى المغرب .
ومن المظاهر السياسية أيضا لممارسة السيادة ، نجد أن رسائل الملوك العلويين لبعض الولاة والقواد الصحراويين ، تعبر بصورة واضحة عن ممارسة هذه السيادة ، فتبعا لعلاقات البيعة التي ربطت على مر التاريخ قبائل الصحراء بسلاطين المغرب ، كانت هناك العديد من المراسلات التي بعثها سلاطين المغرب لولاتهم وخلفائهم في الصحراء ، شكلت دليلا إضافيا على عمق الأواصر والوحدة التاريخية والسياسية التي كانت تربط المغرب بأجزائه الجنوبية.
والصراع بكل هذه الحمولات ، يبقى دائما في صلب اهتمامات المملكة المغربية كالتزام وطني ، حضاري ، وتاريخي ، فالمغرب عبر التاريخ بلد عربي ، إفريقي ، مسلم تقوده قيادة رشيدة من أصل نبوي شريف ، لذلك فالأمانة ، أمانة الوحدة الترابية ، وكل أقاليم المملكة من طنجة إلى الكويرة ، هي بيعة رباط وثيق بين العرش والشعب ، يكفله بكل صدق وإيمان الملوك العلويون الشرفاء المنحدرين من الدوحة النبوية الشريفة ، والذين تحققت فيهم إمارة المؤمنين ، لأجله لا مناص من أن يكون واجب الدفاع عن حوزة الوطن وعن المقدسات الدينية ، واجبا وطنيا مقدسا يؤدونه بصدق وعزيمة ووفاء يتوارثونه أبا عن جد .
الدكتور مصطفى الصدوقي – أستاذ كرسي جامعي – نيويورك;
عن موقع : فاس نيوز ميديا