العزوبة في المجتمع المغربي
الدكتور عبد الجبار شكري
باحث في علم الاجتماع وعلم النفس
باحث مشارك بمختبر الأبحاث والدراسات
بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة
– في هذا الإطار لا يمكن الحديث عن نسبة مئوية في درجة وجود العزوبة في المغرب ، أو عدم وجودها ، نظرا لغياب إحصاءات وصفية للنسبة ، ولكن مع ذلك يمكن الحديث في هذا الإطار عن انتشار الظاهرة بشكل ملفت للنظر في كثير من الأسر المغربية . فهناك الكثير من الأسر يعيش أبناءها إناثا وذكورا العزوبة .
– أود أن أشير في الإطار أن المجتمع المغربي يمر بمجموعة من التغيرات على مستوى نظام القيم والتقاليد والعلاقات والأدوار ، وكذلك على مستوى البنيات الاجتماعية و السياسية والاقتصادية ، تتجه هذه التغيرات نحو الحداثة الوضعية بكل أشكالها باستثناء الحداثة الميتافيزيقية التي تدخل ضمن الممنوع والمرفوض ، والتي يلغيها الماضي الميتافيزيقي التقليدي الذي يحتوي الحاضر وينمطه وينمذجه والذي يخلق بينه وبين الحداثة الوضعية مفارقة إجرائية مشوهة في التفكير والوجدان والسلوك ، وهذا الماضي الميتافيزيقي يشكل في حد ذاته عائقا مدمرا لكل عملية احتواء كلي للحداثة الوضعية ، ينتج عنه احتواء ناقص وأحيانا مشوه لا يصل إلى مقاييس الحداثة المستعارة من الغرب . و هذه المفارقة المأزومة بين الحداثة الوضعية وبين الماضي الميتافيزيقي التقليدي ، تنعكس على كل بنيات ومؤسسات المجتمع المغربي بما فيها بنية الأسرة المغربية و بنية الزواج وطقوسه في المغرب.
لقد كان الزواج في المغرب يشكل مشروعية دينية على مستوى المهر وحفل الزفاف و الأدوار والعلاقات ، قبل أن يشكل مشروعية جنسية نفسية واجتماعية ، وهذه المشروعية الجنسية للزواج قد انحدرت من الماضي الميتافيزيقي ، التي لم تعد لها أي قيمة في إكراهات الحداثة الوضعية ، التي لها حسابات خاصة في منطق البركماتية والمنفعة السيكولوجية وفي منطق اقتصاد الجهد والوقت والكلفة المادية .
في ظل الحداثة الوضعية وما تفرضه من اختيارات جديدة مخالفة لإرث الماضي التقليدي ، أصبح الزواج في المغرب يخضع هو الآخر لمنطق الحداثة الوضعية و إن كانت الحداثة الميتافيزيقية غير حاضرة فيه ، بحيث أصبح خاضع لمنطق هذه الحداثة المثمتلة في المنفعة البيولوجية والسيكولوجية والمادية واقتصاد الجهد والوقت والكلفة المادية . وغير خاضع لمنطق الحداثة الميتافيزيقية الموجهة للتفكير والوجدان والاتجاهات والمواقف والمعتقدات .
لكن تطور وتغير إكراهات الحداثة وإشراطاتها أدى بمنطقها إلى تجاوز الزواج كآلية شرعية للإشباع الجنسي ، وتحقيق اللذة الشبقية الجنسية على المستوى البيولوجي والسيكولوجي ، وأصبح منطق الحداثة الوضعية يشكل في نفس الوقت تعارضا مفارقا لمنطق الماضي الميتافيزيقي الحاضر بقوة في منطق التفكير والتبرير ،الذي يناهض باستمرار الاستغراق الكلي في اللذة الجنسية الشبقية في مؤسسة الزواج التقليدي في المقابل أتاحت الحداثة بمنطقها البركماتي النفعي ، الاستغراق الكلي في اللذة الجنسية الشبقية خارج مؤسسة الزواج .
ضمن هذه الحداثة الوضعية وما تتطلبه من التزامات وميكانيزمات وآليات ، يمكن أن أقول أن العزوبة في المغرب في بعض الحالات هي نتيجة إكراهات وضغوطات سيكولوجية واجتماعية واقتصادية وفي بعض الحالات الأخرى هي نتيجة اختيار حر.
إن الزواج في المجتمع المغربي يفرضه الواجب الأخلاقي في التراث الميتافيزيقي التقليدي ، من أجل إشباع الشهوة الجنسية سواء بالنسبة للمرأة والرجل ، لهذا فمواضعات المجتمع في إشباع الغريزية الجنسية ، لا تخرج عن هذا التراث الميتافيزيقي التقليدي ، باعتباره هو الآلية الوحيدة التي تشرعن الممارسة الجنسية بكل أشكالها ، لكن مجموعة من الإكراهات والإشراطات في ظل الحداثة الوضعية عاقت تحقيق مؤسسة الزواج كآلية في الإشباع الجنسي ، وهذه الإكراهات والإشراطات هي كالتالي :
فيما يتعلق بالإكراهات الاقتصادية نجدها فيما يلي :
أولا- إن انتشار البطالة في صفوف الشباب ، هي التي جعلتهم عاجزين تماما على الإقدام على الزواج ، لأن الزواج في حد ذاته كخطوة أولى في مؤسسة الأسرة يتطلب مصاريف مادية مرهقة ، كما أن مسؤولية رعاية الأسرة تتطلب هي الأخرى مصاريف مادية ، لهذا يعزف الشباب عن الإقدام على الزواج باعتباره مسؤولية مادية قبل أن يكون مسؤولية معنوية ، فيختار قدر العزوبة كأمر واقعي مصيري في الوجود السيكولوجي والاجتماعي للذات .
ثانيا- ضعف الدخل الفردي للموظف أو العامل، يجعله غير قادر على الزواج وتحمل مصاريف الزواج وفتح بيت الأسرة. خصوصا إذا كان هذا الزواج ملتزما بمبادئ التراث الميتافيزيقي التقليدي . وكل هذا يدفع إلى الخوف من استصغار الذات سواء من داخل نفسها أو من الآخرين الذين سيقدم على الزواج من ابنتهم .
أما فيما يتعلق بالإكراهات والإشراطات الاجتماعية نجد ما يلي :
أولا- تأخر سن الدراسة يجعل الشباب لا يقدمون على الزواج ، حتى يحصلون على شهادة جامعية والحصول على الوظيفة، والمدة المستغرقة بين الدراسة والحصول على الوظيفة ، يختار فيها الشباب العزوبية مؤقتا ، لكن فيما بعد يصبح مدمنا عليها ، ذلك أنه كلما زاد الشخص في السن ، تتعقد لديه مقاييس اختيار الشريك ، فيفضل الاستمرار في العزوبة .
ثانيا- إن التواصل بين الجنسين ذكورا وإناثا ، وحضورهما معا في فضاءات اجتماعية متعددة و مشتركة ، سيسهل عملية التعارف بينهما والدخول في علاقات عاطفية وجنسية ، فيتحقق للجنسين معا الإشباع الجنسي ، بمعنى أن الإشباع الجنسي لم يعد رهين بمؤسسة الزواج ، وإنما أصبح يتم تحقيقه بسهولة في العلاقات العاطفية الجنسية الحرة خارج مؤسسة الزواج ، وهذه السهولة في اللقاء و التواصل و في الإشباع الجنسي تؤدي إلى الاستمرار في العزوبة .
ثالثا- إن ارتفاع نسبة مقاييس اختيار الشريك، والوعي بأهمية هذه المقاييس في إنجاح الزواج- إلى درجة أن الشخص يصبح مهووسا بها – يؤدي به إلى رفض الإقدام على الزواج في حالة غياب بعض هذه المقاييس.
أما فيما يتعلق بالإكراهات السيكولوجية ، نجد ما يلي :
أولا- إن ارتفاع نسبة الطلاق وازدياد الكثير من المشاكل داخل الأسر المغربية، جعل الكثير من الشباب ينظر إلى الزواج نظرة تشاؤم، بحيث لم يعد يشكل الوسيلة الوحيدة لتحقيق السعادة بين الشريكين سواء على مستوى الإشباع العاطفي والجنسي أو على مستوى المؤانسة والدفء الأسري ، لهذا يفضل الشباب عدم الزواج والاستمرار في العزوبية لحماية الأنا من المعاناة والعذاب النفسي التي تخلقه المشاكل بين الزوجين ، أو أحيانا بين الشريكين وأسرتهما .
ثانيا- إن المرأة لاتختار هي أيضا العزوبية بمحض إرادتها ، وإنما تختارها نتيجة للإكراهات والإشراطات التي سبق أن ذكرتها ونتيجة للإكراهات السيكولوجية . فالمرأة نتيجة لحصولها على مستوى من التعليم المرتفع يخول لها الحصول على شهادة جامعية عليا، ما سيخول لها الحصول على وظيفة ، و كل هذا سيكسبها رأسمالا من الحرية يجعلها مستقلة تماما عن الآخرين ، وليست في حاجة إليهم ، ولهذا ترى في الزواج مؤسسة تسلبها هذا الرأسمال الرمزي من الحرية والاستقلالية ، فحضور العقلية الذكورية بكل أبعادها وإلزاماتها في الرجل المغربي سيجعل المرأة تفقد هذا الرأسمال الرمزي ، ومن هنا لا تكون لديها ضمانات في هذا الإطار في نوع الرجل الذي ستربط وجودها به ، ولهذا تفضل عدم التضحية بهذا الرأسمال الرمزي ، والتضحية بالزواج ، فتختار العزوبية مكرهة .
إن الإرادة الحرة لا تنبع من الداخل كما يقول بعض الفلاسفة ، ولا هي أيضا تنبع من الخارج ، إنها تنبع من لحظة الفعل ومن لحظة فعل الاختيار بين أمرين أو شيئين يجذباننا معا إما بفعل الإكراه والخوف و الحاجة أو بفعل الرغبة واللذة ، وفي لحظة الحسم في الاختيار ، تظهر حرية الإرادة بقوتها الهادفة إلى تحقيق الاختيار وتجسيده على أرض الواقع الفعلي ، وتحارب بذلك كل إكراه يضعفها أو يلغيها سواء كان سيكولوجيا أو اجتماعيا ، كما أن الإرادة الحرة في الاختيار تنبع من الوعي الشقي للذات في مواجهتها للأشياء ووقائع الوجود ، ومن داخل هذا الوعي الشقي تعاني الذات من التردد والتذبذب ومن المد والجزر ومن الاندفاع والتقهقر ، ولا يخرج الإنسان من هذه المعاناة في هذا الوعي الشقي ، إلا بواسطة الحسم في الاختيار بالإرادة الحرة في الوجود والمصير . ومن هنا نجد بعض الناس رجالا ونساء في ظل التوحد مع الحداثة الوضعية ومع الحداثة الميتافيزيقية يختارون العزوبية كوجود وكمصير ، لأنهم بواسطة يقظة وعيهم الشقي ، سيكتشفون ما هو ايجابي وما هو سلبي في الزواج وفي العزوبة ، وإن رأوا أن العزوبة تشمل على الإيجابيات أكثر من السلبيات ، فإنهم يختارون العزوبة كوجود وكمصير، لأنهم بواسطة يقظة وعيهم الشقي ، سيكتشفون ما هو ايجابي وما هو سلبي في الزواج وفي العزوبة ، فهم ينظرون إلى أن الزواج يشمل على مجموعة من السلبيات تتمثل هذه السلبيات فيما يلي :
أولا – إن الزواج يشكل بالنسبة لهؤلاء قيدا لحريتهم، فهم يحبون الحرية بشكل قوي إلى درجة، يصبح فيها ” آناهم ” متوحدا مع كل ما يشكل حرية بالنسبة لهم ويتقمصونه في تفكيرهم ووجدانهم ، لهذا يرفضون الزواج ويختارون العزوبية للحفاظ على حر يتهم .
ثانيا – في الغالب ما يكون هؤلاء الأشخاص الذين يرفضون الزواج ، يمارسون مهنا لا توفر لهم الوقت الكافي لممارسة واجباتهم نحو أسرهم ، ويعرفون مسبقا أن مهنهم ستخلق لهم متاعب عند الزواج . لهذا سيختارون بمحض إرادتهم العزوبية لممارسة مهنهم بدون مشاكل.
ثالثا – نجد هؤلاء العزاب قد توحدوا كليا مع الحداثة الميتافيزيقية الغربية ، فهم بذلك قد تحرروا من كل القيود التي تمنعهم من الإشباع الجنسي خارج مؤسسة الزواج .
عن موقع : فاس نيوز ميديا