الإدمان على الأنترنيت في المجتمع المغربي.. بقلم: الدكتور عبد الجبار شكري

الإدمان على الأنترنيت في المجتمع المغربي
الدكتور عبد الجبار شكري
باحث في علم الاجتماع وعلم النفس
باحث مشارك في مختبر الأبحاث والدراسات
بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة
أود أن أشير في البداية أنه في أواخر القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين ، كانت الغيرية تشكل حالة قصوى من ” الغيرية الجذرية ” التي كانت دائما تتموقع في الغموض والانغلاق ، وكانت بالنسبة لهذا الوضع الملتبس تعاني الذات من الشعور بالنقص في فهم الآخر والكشف عنه ، بل أحيانا في التواصل وفي كيفية التعامل معه . لقد بددت ” الغيرية الجذرية ” كل أمل على حد تعبير B.Guillaume في إمكانية تحقيق معرفة مطلقة للآخر ، إن الذات تعاني من أمرين أولهما لا يمكن للذات أن تكتفي في منطق وجودها بذاتها فقط في تحقيق الاكتفاء الذاتي لأنها في حاجة باستمرار إلى الآخر ، وثانيهما إنها عندما تريد تجاوز ذاتها لاختراق الآخر تقع في كبح معرفي ، مزعج ومدمر لكل أمل عند الذات في الاطمئنان على مواصلة تحقيق مصالحها ومنافعها في سيرورة الارتباط بالآخر. إن الذات تعاني نتيجة تأرجحها بين القدرة ، و اللاقدرة في اختراق هذه ” الغيرية الجذرية ” ومعرفتها ، وهذه المعاناة تقوم على مرجعيتين ، المرجعية الأولى هي الأسطورة والتاريخ اللذان يقدمان لنا نماذج مثالية من “الغيرية الجذرية ” مخالفة لإنسيتها في الوجود والفعل ، والمرجعية الثانية هي العلوم الإنسانية وخصوصا الأنتربولوجيا في بداية نشأتها التي قامت على إنسانوية هذه “الغيرية الجذرية ” والسعي إلى تحويلها إلى مجرد شيء قابل لمقاومة غموضه وانغلاقه والكشف عن ألغازه ، عند إخضاع دلالته ورمزيته في الخطاب ، والسلوك، والفعل ، ورد الفعل ، لمنطق سيرورة العلاقات البنيوية .
لقد كان الغير بغرابته وغربته حاضر بقوة في وعي الناس ، فالغير هو ذلك الشخص المخالف لنا في الكينونة الذاتية الفكرية والوجدانية والسلوكية ، ومخالف لنا أيضا في الكينونة الاجتماعية والثقافية ، ونعتقد دائما أنه مصدر تعاستنا وشقائنا وهمومنا ، حتى وإن كنا نرتبط معه في هوية الكينونة الدموية أو الوطنية ( اللغوية أو الدينية أوالثقافية ) إلى درجة أننا لا نثق فيه ولا نؤمنه على أنفسنا فنتخذ منه الحيطة والحذر ، لأنه قد يغدرنا ويخوننا في أي وقت ويؤذينا بشره ، و من تم كان الناس بدون وعي منهم ، يصنفون الغير في عوالم الشرور الممكنة والمحتملة.
إلا أنه عند اختراق العلوم الإنسانية – و بالضبط الأنتربولوجيا – للكينونة الإنسانية لم يعد ذلك الغير في الأسطورة والتاريخ ، متميزا بجذر يته المطلقة عن الذات ومنفصلا عنها في المعيش اليومي ، بل أصبح هذا الغير يلازم الذات في قلب المعيش اليومي، أنه يسكن في نفس فضاء الذات و ينتمي إلى نفس جنسيتها الوطنية ، لكنه يمتلك وجودا غريبا عنها في لغته أو ديانته أو تقاليده فيشكل مصدر توتر وقلق دائمين للذات .
فالغير الغريب حسب الكثير من الدراسات الأنتربولوجية ، لم يعد ذلك الشخص الأجنبي الذي يسكن خارج فضائنا وينتمي إلى غير جنسيتنا الوطنية ، بل الغير الغريب هو ذلك الشخص ، الذي يسكننا على نحو غريب على حد تعبير ” جوليا كريستيفا ” .
لكن هذا الغير الغريب الأجنبي لم يعد موجودا كغرابة في كينونته بالنسبة لنا بفضل الشبكة العنكبوتية والفضائيات الرقمية ، فكلنا نعيش مع مشاكل الآخر ونتفاعل معها في مكانها وزمانها ، لقد أصبحنا بفضل وسائط الاتصال ندرك الغير في كينونته من خلال الإدراك الداخلي والإدراك الخارجي على حد تعبير Max scheller ، فبفضل الشبكة العنكبوتية والفضائيات الرقمية ، لقد تم انهيار مفهوم ” الغيرية الجذرية ” كما تغير أيضا مفهوم الغير الغريب . وبهذا أصبحت وسائط الاتصال ، تجعلنا نتواصل مع شخص في أقصى المعمور نراه ويرانا ننفعل معه وينفعل معنا ، وكأننا نجلس معا في مقهى نتحادث في لقاء حميمي . وهذا فيه إغناء لتجربتنا وفكرنا ونضجنا الوجداني .
– يمكن القول أن لوسائط الاتصال المعاصرة تأثير إيجابي إذا كانت للإنسان المغربي مناعة سيكولوجية واجتماعية اتجاهها ووظفت في ما هو ضروري ونفعي للفرد والمجتمع ، لكن في المقابل لها تأثير سلبي إذا لم تكن هناك مناعة سيكولوجية واجتماعية ووظفت في إطار ماهو مدمر للفرد والمجتمع .
– يمكن القول في هذا الإطار أن وسائط الاتصال المعاصرة ، قد شكلت ثورة حقيقية في مجال التكنولوجيا المعاصرة في كل بلدان العالم من بينها المغرب ، و قد أصبحت بالنسبة للمغرب من شروط الدخول في منطق العولمة والانصهار فيها، أولا في الحصول على المعلومة في أقل وقت ممكن وبأقل جهد ممكن ، ثانيا في تحقيق السرعة في التواصل مع الآخر في جميع المجالات والمعاملات . ثالثا في البرمجة المستقبلية وإخضاعها لمنطق العقلنة .
لقد أصبحت وسائط الاتصال في المغرب، تشكل وسيلة فعالة للاستفادة من تجارب الأمم والشعوب في كل المجالات واستعارة نماذج ثقافية تؤدي إلى تقوية التلاقح الثقافي وتوظيفه في التنمية البشرية والتنمية المادية .إن التلاقح الثقافي أقام أواصر الترابط بين المجتمع المغربي والعالم ، خارج إكراهات المكان والزمان ، لقد احتوى الزمان المكان ، ولم يعد العالم ضمنه المغرب ، إلا قرية صغيرة في لحظة الزمان والمكان الافتراضيين التي تصنعهما وسائط الاتصال . إن التلاقح الثقافي في منظومة الوسائط قهر الزمان والمكان اللذان كانا يفصلان بين المغرب وباقي كينونات الشعوب والأم ، في الفن والعلم والدين واللباس واللغة ونظام القيم وفي مختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية . وهذا ينطبق عليه تصور العالم الاقتصادي السياسي الفرنسي” S.Latouche ” الذي يرى أن الغرب تحول إلى آلات عملاقة انسلخت عن هويتها الأصلية وعن جذورها التاريخية واكتسحت العالم بأسره ، ونمطته بنموذج عالمي ، انقرضت فيه الكينونات والهويات الخاصة ، وإن كانت هذه النمطية و النمذجة السائدة في المغرب احتوت في داخلها الغنى الثقافي والتعدد الإثني في كل مناطق المغرب .
– لكل شيء في الوجود إيجابياته وسلبياته فللعولمة ايجابياتها وسلبياتها ولوسائط الاتصال أيضا إيجابياها وسلبياتها . فمن سلبيات وسائط الاتصال هي الإيحاء والاحتواء التي تمارسه عندما لا تكون للشخص مناعة سيكولوجية واجتماعية تضع بينه وبين ما يتلقيه مسافة وجدانية تترك مكانها للوعي اليقظ يشتغل ، يمحص وينتقد حتى لكل ما يبدو مغريا وجذابا .، مثل ما تمارسه على سبيل المثال الفضائيات الرقمية ، وما تذيعه من أفلام العنف وأفلام الخلاعة وغيرها من البرامج التافهة والتي أدت إلى انحراف الأشخاص ذوي الهشاشة السيكولوجية .
كما أن الانترنيت وإن كانت له إيجابيات كبيرة، فله أيضا سلبيات كثيرة ومن هذه السلبيات الإدمان عليه في ممارسات تافهة فيها ضياع لمصلحة الذات والمجتمع ، مثل الدردشة أو ما يعرف ب ” التشات ” . إن ” التشات ” هي ممارسة جديدة على المجتمع المغربي، نتيجة دخول الأنتيرنيت ، إنه مكتشف جديد اخترق وجودنا السيكولوجي والاجتماعي .
يلجأ الشخص إلى هذا النوع من التواصل مع شخص افتراضي تفصل بينهما المسافات ، هو في حقيقة الأمر محاولة استكشاف الآخر في كينونته وحمميته ، خصوصا إذا كان يختلف عنه في التقاليد والأعراف والجنسية الوطنية . فلا يمكن أن ننكر الجانب الإيجابي لـ ” التشات ” وهو خلق حوار مع الآخر ، فيعطي هذا الحوار و التواصل إمكانية اختراق كينونة الآخر السيكولوجية والاجتماعية والدخول في مناقشة يتم فيها تبادل طرق الإقناع والحجاج والاستدلال ، لكن ما هو سلبي في ” التشات “، هو أنه يحتوي وجدانيا وعقليا الكثير من الناس إلى حد الإدمان المرضي عليه، ومن سلبياته أيضا أنه أصبح وسيلة للتنفيس عن الرغبات الليبيدية والعدوانية وإسقاطها على الآخر إما من خلال عنف سادي ، يمارس بالإهانة والاحتقار والسب والشتم ، أو بعنف “ماز وشي ” يمارس من خلال تعذيب الذات من خلال استفزاز الآخر بالعنف ، بواسطة خطاب عنيف وجارح من أجل أن يثير غضبه لكي يرد عليه الآخر بعنف آخر بالسب والقذف والتجريح فيحقق في كل ذلك لذة شبقية مازوشية ، وفي كلتا الحالتين يكون هذا التواصل سلبي ومرضي ومدمر للذات .
كذلك من سلبيات ” الدردشة ” في الانترنيت هي تلك ” الدردشة الجنسية ” التي تكون قائمة دائما بين الجنسين أنثى وذكر أو بين مثليين من نفس الجنس من أجل تأسيس علاقة عاطفية وممارسة علاقة جنسية افتراضية. وهذه العلاقة الجنسية الافتراضية تؤدي إلى استيلاب الذات وغربتها عن الواقع الجنسي الفعلي ، وهذا الاستيلاب والاغتراب يؤدي إلى اختلالات جنسية مرضية كالاستعراض الجنسي و الفيتيشية والتلصص النظري .كما أن هذه ” الدردشة الجنسية ” في حالة شيوعها بين المتزوجين قد تؤدي إلى ما أسميه الخيانة الزوجية الافتراضية .
– نحن نعيش في مجتمع ذو عقلية ذكورية ، هو أكثر صرامة وتشددا في كل ما يخص المرأة المتزوجة . خصوصا ما إذا أبانت هذه المرأة عن تفاصيل حياتها الشخصية الخاصة ، وكشفت عن رغباتها الجنسية الشبقية والحميمية ، بحيث أن المجتمع يصنف الدردشة بين الرجل والمرأة سواء بين المتزوجين أوالعزاب في إطارها السلبي باعتبار أنها لن تبقى في مستواها العادي والمقبول ، إذ في رأيه أنه لو تم التسليم والسماح بها فإنها ستتجاوز الحدود لتسقط في المحظور الاجتماعي . والذي قد يؤدي إلى تفكك الأسر بسبب ذلك . فإذا وجد الزوج نفسه أمام زوجته في وضعية ” الدردشة الجنسية ” سيعتبر زوجته امرأة خائنة بالإصرار والترصد ، أو العكس عندما تجد الزوجة زوجها في وضعية ” الدردشة الجنسية ” في هذه الحالة تعتبر المرأة زوجها يمارس الخيانة الزوجية وإن كانت افتراضية ، وهذه الخيانة الزوجية الافتراضية ستؤدي إلى تجريم أحد الزوجين ويقود ذلك حتما إلى الطلاق وتفكك الأسرة . و إن كان لا يمكن من الناحية القانونية والمؤسسية تجريم العلاقة الجنسية الافتراضية الالكترونية ، لأنها لا تمارس في الواقع الفعلي ولكنها تدخل في إطار الواقع الافتراضي ، ولها تأثير سلبي غير مباشر في حالة ما إذا تكررت وأصبحت تمارس بشكل مدمن ، إذ تؤدي إلى تفكك وانهيار بيت الزوجية إذا كان أحد الشريكين متزوجا.
من بين سلبيات الانترنيت هو قدرته على اختراق كل المجالات المباحة والغير المباحة بفضل ” برنامج البحث ” ومن تم يسهل على أي شخص زيارة المواقع الإلكترونية المختصة في الأفلام البورنوغرافية وهذا يشكل خطرا على صحة الجنسية النفسية للشخص وللمجتمع.
– ما يجب فعله هو تحسيس الرأي العام وتوظيف وسائل الإعلام بمختلف أشكالها لكي تؤدي دورها في التثقيف الذاتي وتغذية الفكر والعقل وخلق مناعة سيكولوجية لكي لا يتم الوقوع في ذلك . ويجب الاستعانة بعلماء النفس وعلماء الاجتماع المغاربة لتوعية الناس بأن وسائط الاتصال لها إيجابيتها ولها سلبياتها و يجب توعية الناس في هذا الإطار بأنه لا يجب استعمال وسائط الاتصال إلا من أجل الانتفاع بها في الحصول على المعلومة أو في التكوين المعرفي أو في الحصول على خدمات بكل أنواعها ومجالاتها ، فلها فوائد عدة في هذا الإطار .

عن موقع : فاس نيوز ميديا